تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
ولاء الأقباط

المسيحي "مُتبَّلًا بطريقة معينة" على مائدة الوطن

منشور الثلاثاء 19 أغسطس 2025

في مجتمعٍ يعيشون فيه مشتبهًا بهم ابتداءً؛ هل يبالغُ المسيحيون في إظهار الصفات النمطيّةِ المعروفةِ عنهم مثل الأمانة والوداعة والإخلاص والتسامح والمحبة، مع بعض المغالاة في إظهار الوطنية، كخيارٍ أخلاقيٍّ حرٍّ، أم أن هذا مجرد قناع وآلية دفاع، أو حيلة جماعية للنجاة وضمان البقاء على الأقل بسلام؟

يبدو ربط الاستحقاق الوجودي بالصلاح الأخلاقي خيارًا غير عادل يُضاعف العبء على المسيحي، فردًا كان أو جماعةً، ويتركه في لهاثٍ دائمٍ وهو يحاول إثبات جدارته، بشرط التزامه بكودٍ أخلاقيٍّ فُصِّل له وحده، ووافق عليه مجبرًا.

على المسيحي تنميط نفسه دومًا، وجيلًا تلو آخر، في صورة من يغالي طوال الوقت في إظهار الفضيلة والصفات الحميدة، أو يتصنّع أنه يتحلى بها.

هذه القيود المتخيلة التي تفرضها سلطة الأغلبية على الفرد المنتمي للأقلية كشرطٍ لتقبله، يوصّفُها الطبيب والمناضل والفيلسوف الفرنسي فرانز فانون (1925 - 1961) في كتابه بشرة سوداء.. أقنعة بيضاء بتعبيره البليغ "يريدونه مُتبَّلًا بطريقة معينة".

متى يستحق لطفي لبيب الرحمة؟

ما إن رحل عن عالمنا الفنان لطفي لبيب نهاية الشهر الماضي، حتى ظهرت الأصوات المعتادة التي تحذر المسلمين من الترحم عليه كونه مسيحيًا "ما تجوزش عليه الرحمة"، وفي مواجهتها من يدافعون عنه ويهاجمون من ازدروا روحه مؤكدين استحقاقه للرحمة، فهو من أبطال حرب أكتوبر!

بالتأكيد فخرٌ لكل مصري المشاركة في تحرير الأرض بحمل السلاح، ولكن ماذا عن ملايين المسيحيين الذين لم يشاركوا في هذه الحرب؟ هل يستحقون الازدراء؟

هل كان المرحوم لطفي لبيب بولعه وتأكيده المستمر على مشاركته في الحرب يريد أن يقول شيئًا آخر غير النص المباشر في كلامه؟

هذا بالتبعية يذكرنا بأن الإعلام والساسة المصريين حين يريدون مدح المسيحيين، فإنهم يؤكدون على وطنيتهم وتسامحهم كلما تعرضوا للاعتداء، مستدعين مثلًا مقولة البابا تواضروس الثاني بعد موجة حرق الكنائس التي تبعت أحداث 30 يونيو 2013 حين قال وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن، ونعتها بالمواقف الوطنية.

لستُ في معرض تأييد أو تفنيد هذه الجملة، لكن استدعاءها ضروري لاستكمال الفكرة؛ هل من الضروري أن يقدم المسيحيون التضحيات ليستحقوا القبول والعيش بسلام؟ ألا يحق للبابا أن يغضب من حرق الكنائس، دون أن يقايضها بالوطن؟ 

هل على المسيحيين أن يثبتوا طوال الوقت استحقاقهم هامش القبول المشروط، بسجل وطني حافل لا تشوبه شائبة، مع شهادات حسن السير والسلوك؟

كان لطفي لبيب دائم الفخر بمشاركته في الحرب، وأصدر كتابًا حمل اسم كتيبته في الحرب الكتيبة 26، وكثيرًا ما أتى على ذكرها في لقاءاته التليفزيونية وفي جلساته مع المثقفين، ساردًا قصص البطولة، ومؤكدًا على روح المحبة التي كانت تجمعه بزملائه المقاتلين من المسلمين، الذين كانوا على حد قوله يتعاملون بلا تفرقة.

https://www.youtube.com/watch?v=Amtv14gQi3E

هذا يحيلنا إلى سؤال آخر أكثر تعقيدًا وضبابيةً، هل كان المرحوم لطفي لبيب، بولعه وتأكيده المستمر على مشاركته في الحرب، يريد تأكيد وطنيته؟ ليس كمصري فقط، بل كمسيحي قبطي، ربما كان يريد، حتى ولو بشكل غير واعٍ، أن يرسّخ انطباعًا عن نفسه ويدحض آخر.

أنا نفسي أحرص في الكثير من أحاديثي على الإشارة، عابرًا، وقاصدًا، ومعتزًّا، إلى خدمتي العسكرية أثناء فترة تجنيدي في القوات المسلحة، وأحرص أكثر حتى من زملائي المسلمين على ذِكر هذه التجربة.

هذا الحرص ابن تجربتي الطويلة فردًا من جماعة مشتبه فيها. كأنني أريد أن أُبرهن على ولائي، حتى لو لم يشكك فيه من أذكر التجربة أمامه، فغالبًا ما أبرهن على احتمالات تجعلني مثل محموم أقول ضمنيًا انظروا إلى وطنيتي، انظروا إلى شجاعتي، انظروا كيف قضيتُ من أيام عمري في خدمة جيش بلدي. انظروا، لقد حملتُ السلاح دفاعًا عنه، وكنتُ مستعدًا لأن أموت من أجل ترابه.

الحب المرضي

مسيحيون يحمون المصلين المسلمين قبل ساعات قليلة من انتهاء هجوم البلطجية على المعتصمين بميدان التحرير خلال موقعة الجمل، فجر 3 فبراير 2011

قال لي الناقد الأدبي والأكاديمي محمد بدوي، في حديث عابر على هامش فعالية في مكتبة الإسكندرية، إن "الأقباط مرضى بمصر". جاء ذلك ضمن حديثٍ عن هوس المسيحيين بمصر وتمجيدهم لها والتعلق بها بشكل لافت.

يمكن تفسير هذه الجملة على نحو إيجابي باعتبارها إشادةً بحب المسيحيين لمصر على نحو لافت و"مُرضٍ"، إنه شيء قد يُسعد المسيحي على المستوى الأول السطحي لفهم الجملة البليغة باعتبارها إشادةً آتيةً من شخص يمثل الآخر والمركز، وهو في الوقت نفسه مثقف يعرف ماذا يقول.

غير أنه أيضًا كان يقصد باختياره مفرداته أن مغالاة الأقباط في حب الوطن ليست أمرًا طبيعيًا، ويحتاج إلى مراجعة.

جميل طبعًا أن يحب الإنسان وطنه، لكن لنطرح حزمة من الأسئلة: هل لدى المسيحيين رفاهية أن يجاهروا، على الأقل وهم ما زالوا في مصر، بكُرههم لأوضاعهم فيها؟ بضررهم وضجرهم منها؟

هل يُسمح لأحد من الأقباط بأن يصرّح بمواقف أو عبارات تنتقص من قيمة الوطن أو حدوده على غرار ما نُقل عن قيادات بجماعة الإخوان في فترات سابقة، أو ما أُثير إعلاميًا من تصريحات تُقدِّم الديني أو الحزبي أو الأيديولوجي على الانتماء الوطني؟

هذه أمثلة مستهجنة ومكروهة، نعم، لكنَّ استدعاءها هنا ليس اعتباطيًا، إنما لأقول إنه حتى أكثر التصريحات والتصرفات تطرفًا ودناءة واحتقارًا للوطن تَمرّ وتُنسى، نعم، ويأتي بعدها رئيسٌ للجمهورية من نفس الجماعة، فهل كانت ستمر المرور نفسه (المؤدي بعدها لحكم البلاد بانتخابات)، إذا قالها قبطي؟

دليل براءة

يحاول المسيحيون، من وقتٍ لآخر، نشر قوائم شهداء حرب أكتوبر، خاصة تلك التي تحتوي على الأسماء المسيحية، فضلًا عن قصص أبطال حرب أكتوبر من الأقباط، على رأسها بالطبع قصة اللواء باقي زكي يوسف، صاحب فكرة اختراق خط بارليف المنيع باستخدام خراطيم المياه، الفكرة التي استوحاها من عمله مهندسًا في السد العالي.

يضع المخيال الشعبي المسيحيين واليهود في كفّة واحدة ربما بسبب دعم الغرب المسيحي الأعمى لإسرائيل

لا أشك في أن هذا النشر، وإعادة النشر، والاحتفاء والتلميح، ليس عفويًا، أو اعتزازًا عامًا من المسيحيين برموز حرب أكتوبر ممن حاربوا ودافعوا بأرواحهم عن تراب مصر؛ إنما هو تلميح غير صريح، ودليل براءة من التهم التي نعرفها. التهم الخبيثة التي لا تُقال بفجاجة، إنما نَحُسَّها ونختبرها طوال حياتنا، وأخبرنا بها آباؤنا الأقباط باعتبارنا جماعة مشتبهًا بها يجب أن تُثبت "وطنيتها" طوال الوقت.

تحمل حرب أكتوبر خصوصيةً أخرى تتمثل في هوية الخصم، فهي كانت انتصارنا الأول على دولة إسرائيل، التي تكونت على أساس ديني يهودي. ووفق المخيال الشعبي، والمنظّرين السطحيين، يوضع المسيحيون واليهود في كفّة واحدة؛ أقارب، حلفاء. لا أعرف لماذا، ربما بسبب جمعهم في الخطاب الديني معًا كأعداء للمسلمين. أو بسبب دعم الغرب المسيحي الأعمى لإسرائيل.

هذا الخلط واجهته في بعض الأحيان من أصدقاء مسلمين مثقفين حين تأتي سيرة حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة، يترقّبون تعليقاتي على نحو خاص، يظنون أنني لكوني لست مسلمًا مثلهم، قد أؤيد الرواية الإسرائيلية للمجازر!

ثمة ملحوظة أخرى، أظنها بقدر غرابتها مهمة وكاشفة لهوس إثبات الانتماء لدي ولدى آخرين؛ أحيانًا نبحث بترقبٍ عن أسماء مسيحيين ليس في قوائم البطولات فحسب، بل أيضًا في قوائم ضحايا حوادث الطرق، أو السكك الحديدية، أو الحرائق، أو الغرق الجماعي، أو التفجيرات، وحين نجد بينهم أقباطًا، نشعر، لن أقول بالاطمئنان، وإنما بشعور من أفلت من اللوم، من كان مطالبًا بأداء دين وأدَّاه على أكمل وجه.

أرجو ألا ينظر أحدٌ إلى هذه الهواجس بوصفها جنونًا، ولو أنني لا ألوم من يحسبها كذلك، لأنها لا تعني الاحتفاء بكارثة، بل تعني البحث عن التمثيل العادل، أو النسبي، حتى في الكارثة.

يعني هذا الحضور في الألم أننا جزءٌ من الوطن، نُشكّل قوامه، ويعني أيضًا أن أعدادنا ليست قليلةً، كما يدعون، بل كثيرة، حتى أننا، بصدفة إحصائية، كنا حاضرين في حادث عابر.

هذا ليس لأننا نحب الموت أو نترقبه، بل لأن غيابنا، حتى عن القوائم الأليمة، قد يعني شيئًا آخر، قد يُفسَّر أو يُغذّي عقدة الاشتباه: أننا، نحن المسيحيون، كما يتصوّر البعض عنا، غائبون، أو منعزلون، نحضر في المكاسب، ونختفي في المصاعب والتضحيات والهزائم والأوجاع.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.