لم تكن حادثة قرية الفواخر في المنيا، التي وقعت ليلة الأربعاء 23 أبريل/نيسان، الأولى، وعلى الأرجح لن تكون الأخيرة في ملف العنف الطائفي ضد المسيحيين في مصر عمومًا، ومحافظة المنيا على وجه التحديد، وهي التي شهدت أكبر نسبة اعتداءات على خلفية الانتماء الديني.
ففي الأشهر السبعة الأخيرة، شهدت المنيا ثلاثة حوادث، كان رابعها الفواخر، ثم تلاه خامسها حادث الكوم الأحمر. تنوعت مظاهر العنف الطائفي في هذه الحوادث بين حرق البيوت والممتلكات والتعدي المادي والمعنوي والتهجير وغيرها.
ومع هذا التكرار، يتجدد الجدل حول أسباب صعود، أو بالأحرى تجذر، العنف الطائفي في البنية الثقافية والاجتماعية لسكان هذه القرى الموبوءة بالجهل والفقر والأمية والخطابات الشعبوية.
الخطاب الشعبوي والعنف الطائفي
"إحنا عملنا فيكم جميل وكنا نقدر نموتكم. كنا نقدر نخرجكم على دينكم، إحنا خليناكم، فتخضعوا للأمر وتيجوا تؤدوا الجزية يد بيد" هكذا يؤسس هذا الخطاب الذي طرحه واحد من أكثر الشيوخ شعبيةً في مصر، الشيخ الشعراوي، إلى الشعبوية الدينية.
يكتسب هذا الخطاب وجوده من خلال الظهير الشعبي، مهما بدا غير عقلاني أو غير منصف، خصوصًا في المناطق المنغلقة على ذاتها. وهو خطاب مشحون بدلالات عاطفية مبالغة، يقوم في الأساس على إزاحة مفاهيم قيمة الحكم في ظل دولة سيادة القانون، فيترك الأمور لهوى الأغلبية.
تعطينا دراسة العلاقة بين الدين والشعبوية مؤشرات واضحة حول تصرفات الشعبويين، التي تنمو في ظل إرادة وخطاب الفاعلين الدينيين والسياسيين، وكيف يرون أنفسهم نواب الله في محاربة الأعداء، ويترسخ هذا الشعور عادة جرّاء نظرتهم الاستحقاقية لأنفسهم بأنهم جماعات مميزة.
ويتغذى هذا الشعور باضطراد طالما تدعمه الخطابات المشحونة عاطفيًا، وتظل الساحة مفتوحة لتحقيق انتصارات قبلية ملائمة دون ردع.
"لا يمّتون للإسلام بصلة"
رغم الرد التقليدي بأن "هؤلاء لا يمتون للإسلام بصلة" فإن المؤسسة الرسمية لا تقدم موقفًا واضحًا من التراث الأصولي، فلا هي تنتقده، أو تتبرأ منه، أو تغربله. ولذلك يستمر الخطاب الديني الشعبوي، الذي يستند على نفس التراث، متبنيًا مصطلحات تشير إلى الأقباط باعتبارهم "نصارى أهل ذمة"، وبنظرة استعلائية يرى أن السماح بوجودهم هو أقصى ما يمكن.
يعتبر الأصوليون وجود كنيسة في بقعتهم الجغرافية بمثابة اعتداء على كرامتهم كجماعة مترابطة ترى نفسها الأفضل، ولها أحقية المنح والمنع، وتحديد كيف يعيش الآخر في كنفها بالطريقة التي تراها مناسبة.
ولا يقتصر ما يسمعه الناس من خطاب ديني شعبوي على محيطهم الجغرافي، إنما يستهلك الفرد خطبًا أصوليةً أُنتجت على بعد آلاف الكيلومترات منه.
مثلًا، إذا سألت جوجل عن حكم بناء الكنائس، ستجد في النتائج الأولى فتاوى بالحُرمانية. وإن سألت عن تكفير اليهود والنصارى، ستجد في صدارة النتائج أنَّ اليهود والنصارى كفّار في الدنيا ومخلدون في نار الآخرة. يحدث هذا بينما يتداول كثيرون مقاطع فيديو لخطابات كراهية رائجة تتمتع بقبول المعلقين.
التنصل من الطائفية
كان مشهدًا عبثيًا أن يُعلن أسقف عبر السوشيال ميديا ليلًا أن أبناء كنيسته يتعرضون لعقوبات جماعية من حرق بيوت وممتلكات ومنع من الخروج لساعات بسبب انتشار معلومة أن هناك كنيسة ستبنى في القرية، ثم ينشر بوست آخر يشير إلى أن الأمن أخيرًا وصل إلى القرية والهدوء يسود!
أخيرًا يسود الهدوء لأن قطاعًا عريضًا من السكان فعلوا ما أرادوا، يسود الهدوء فيما يبيت الضحايا ليلتهم، والليالي التالية، في منازل محترقة وسط خسائر فادحة، أهمها سلبهم سلامهم وأمنهم ومواطنتهم.
وفي ظل تداول ذلك على نطاق واسع، لم تكلف الصحف أو المواقع الإخبارية أو القنوات التليفزيونية الرسمية والخاصة نقل الخبر أو حتى رصده، كأنه لم يكن، باستثناء بعض المواقع المستقلة التي تتبنى الدفاع عن الحقوق والحريات، وكأن ثمة اتفاقًا على غض البصر تمامًا عن أي إشارة لوجود عنف طائفي.
ترى المنظومة الإعلامية المصرية أن التعامل الأمثل في حالات العنف الطائفي هو الإنكار أو التنصل، مع تسليط الضوء على النماذج المتكررة لصور شيخ مع قس، أو قس يعلق زينة رمضان، أو توجيه خطابات موحدة حول الوحدة والتلاحم والتآلف.
الجلسات العرفية أحد الأوجه المباشرة لتراخي المنظومة العقابية في أحداث العنف الطائفي
وبالمثل، تتجاهل الخطابات الدينية المفتعلة حول الوحدة الوطنية والتعايش وجود أي مشكلات تمييزية، بل تعتبر أن الجرائم التي تُرتكب بين الحين والآخر مجرد فتن عابرة لا قيمة لها، يكفي استنكارها فحسب، بينما يشير الواقع إلى تجذر خطابات الكراهية، بداية من المنشورات التحريضية على فيسبوك مرورًا بخطاب الاستحقاق نهاية بالواقع الفعلي في القرى والنجوع.
هذا النوع من التعامل مع الأزمات يبقيها كما هي حية، بل يؤجج شعور الكراهية لدى الطرف الآخر الذي يرى لا محالة أن المؤسسات بكاملها تتجاهل معاناته، كأنه ليس هنا.
تراخي المنظومة العقابية
لم يتجاهل الإعلام وحده الأمر، لكن الكنيسة الأرثوذوكسية ذاتها تجاهلت الحادث ولم تصدر بيانًا واحدًا تشير فيه من قريب أو بعيد للاعتداءات، أو حجم الأضرار، أو سعيها للوقوف على الأزمة. بل لم تصدر حتى بيان مساندة للمتضررين، فعمّ الصمت.
سلوك التجاهل هذا ليس غريبًا، فممثلو الكنيسة أنفسهم يشاركون في الجلسات العرفية بشكل دائم، بل يصل الأمر بهم حد إجبار المواطنين على الصُلح، كما حدث في واقعة نيفين صبحي عام 2022، التي صفعها صيدلي بقرية سبك الأحد بالمنوفية، بعدما عنَّفها لأنها ترتدي ملابس اعتبرها غير محتشمة وتضع المكياج في نهار رمضان!
من المهم الإشارة هنا للجلسات العرفية باعتبارها أحد الأوجه المباشرة لتراخي المنظومة العقابية في أحداث العنف الطائفي.
وثقت دراسة صادرة عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية 45 اعتداءً طائفيًا، تم التعامل مع كل حادثة وتداعياتها عن طريق جلسات الصلح العرفية، التي أُجبر فيها المسيحيون على الخضوع. وحسب الدراسة، فهذا الرقم لا يمثل جميع حالات الاعتداءات والتوترات الطائفية، وما يتبعها من جلسات عرفية، خلال الفترة من 2011 وحتى 2014.
لا ينبغي أن يفلت الجناة في هذه الجلسات العرفية، فهم ارتكبوا انتهاكات جسيمة، وفي إفلاتهم إهدار لحق المسيحيين من جانب، وترسخ لتكرار الأمر من جانب آخر. ولعل أبرز تلك الوقائع كان حرق كنيسة إطفيح عام 2011 وتهجير عائلتين قسرًا، ووقتها قضت الجلسة العرفية بتبرئة المعتدين وإعادة بناء الكنيسة، وكأنها مساومة.
هذا إلى جانب حوادث أخرى حكمت فيها الجلسات العرفية، التي تضم عناصر مدنية وأمنية ودينية مسيحية ومسلمة، بالتهجير القسري لأسر مسيحية، أو إجبارهم على دفع غرامات مالية، أو التنازل عن ممتلكات أو إغلاق كنائس.
في الخلفية من هذه الأزمة لم تحل مشكلة بناء الكنائس تشريعيًا ولا على أرض الواقع، فرغم قانون بناء الكنائس، لا تزال التراخيص تواجه عراقيل. أما القانون الموحد لبناء دور العبادة فلم يجد طريقه للنور حتى الآن.
يأتي هذا على الرغم من نص الدستور على أن "حرية الاعتقاد مطلقة" و"حرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة لأصحاب الأديان السماوية، حق ينظمه القانون"، واعتباره "التحريض على الكراهية" جريمة.