يشغل الدين حيزًا كبيرًا في حياة المصريين الشخصية والاجتماعية والقانونية، سواء كان ذلك ناتج عن قناعاتهم واختياراتهم أو بسبب الأدوار التي منحها الدستور للمؤسسات الدينية، أو صبغها على القوانين والسياسات العامة، مما يلقي بظلاله على درجة تمتع المصريين بحقوقهم أو حرمانهم منها.
أحد هذه الحقوق الأساسية هو الحق في حرية الدين أو المعتقد والتعبير عنه. وعلى الرغم من التقارير الرسمية والحكومية التي تؤكد على ضمانات هذا الحق، وعلى تقديم نسخة حداثية من الدين منفتحة على الآخر وتعزز التنوع الديني، فإن الواقع مختلف، إذ أن جذور التمييز والتوترات لا تزال كامنة.
لم تحظَ هذه القضية بالاهتمام الكافي؛ لا من المسؤولين ولا من البرلمان أو الجامعات، التي تتضمن أقسامًا مهمتها دراسة المشكلات على المستويات المحلية وطرح الحلول وكيفية التعامل معها.
ومع تراجع حرية الإعلام، اتسعت فجوة الحصول على المعلومات، لا سيما في القضايا الحساسة التي تعاملها الدولة على أنها شأن أمني فقط منذ عقود. وهي رؤية غالبًا ما تكون قاصرةً وقصيرة الأمد، هدفها الأساسي الترويج لصورة مثالية عن واقع مزرٍ ومتخم بالمشاكل.
من جانب آخر، عملت بعض المؤسسات الحقوقية على سد هذه الفجوة المعرفية عن طريق إصدار تقارير لتقصي الحقائق أو تقارير دورية عن حرية الدين أو المعتقد. ومنها خريطة لرصد الحريات الدينية وانتهاكاتها في مصر*.
التجريس ليس هدفًا
تقدم خريطة الحريات الدينية صورة دقيقة ليس فقط عن حرية الدين أو المعتقد، لكن تمتد إلى ظواهر أخرى مرتبطة بدور الدين والمؤسسات الدينية في الحياة العامة، وما تشكله من تأثير على حياة الأفراد، وتشابكها مع مؤسسات الدول الأخرى، وأوضاع الأقليات الدينية المختلفة.
وتشمل الخريطة ثلاثة تصنيفات رئيسية: نوع التطور أو الانتهاك، الموقع الجغرافي، وزمن الحدث. وهو ما يوفر أدوات للبحث لمئات البيانات التحليلية التي تساعد الإعلاميين والباحثين وأصحاب القرار في الإلمام بحالة حرية الدين أو المعتقد في مصر.
أدرك القائمون على إنتاج الخريطة، ومنهم كاتب المقال، أن قصر الأهداف الرئيسية لهذا العمل على "الولولة" أو التجريس والفضح، على الرغم من أهميتها في تقديم الصورة الأخرى للواقع والضغط من أجل تغييره، ستضعف من أهمية الخريطة كمرجع لتوثيق وقائع التمييز والعنف الطائفي، والتطورات السياسية والقانونية والاجتماعية، والمحاكمات وتحقيقات النيابة التي توثر على حالة حرية الدين أو المعتقد.
ولأن هدفنا هو تحسين مناخ الحريات الدينية، يلزم لتحقيق هذا الهدف وجود رصد موضوعي يساعد ضحايا الانتهاكات على بلورة مطالبهم، ويساعد الإعلاميون ومراكز الأبحاث والجامعات على دراسة الظواهر المرتبطة بهذه القضية، بما يؤثر على أوضاع المجموعات الدينية المختلفة في مصر وعلى صياغة القوانين والتشريعات الخاصة بالحريات الدينية.
بؤر العنف الطائفي
من أبرز المؤشرات التي يمكن قراءتها من الوقائع التي تضمنتها الخريطة أن عدد حوادث التوتر والعنف الطائفي خلال خمس سنوات في الفترة من 2017 إلى 2021 بلغت 184 حادثًا. يأتي في مقدمة أنماطها تلك الخاصة بممارسة الشعائر الدينية بنحو 57، وهو ما يعكس أن قانون بناء وترميم الكنائس لم يحقق الهدف منه، وفشل في إتاحة بناء الكنائس في المناطق الريفية التي تعاني عجزًا. وتتنوع أسباب ذلك بين رفض مسلمي المنطقة، وغياب دور القيادات المحلية، وتحريض قيادات دينية للناس على الاحتجاج.
لا توجد دراسة أو تقرير منشور من أي جهة رسمية لتحليل أسباب كثافة التمييز الطائفي في المنيا
وتلي ممارسة الشعائر الدينية أشكال أخرى من الانتهاكات، منها الاستهداف على الهوية الدينية مثل الحوادث الإرهابية التي شهدتها مصر خاصة عام 2017 من تفجير كنائس واستهداف مصلين، وعمليات قتل رجال دين مثل حادثتي قتل القمص سمعان شحاته في مدينة السلام بالقاهرة والقمص أرسانيوس وديد في الإسكندرية العام الماضي. هذا بجانب التوترات التي تقع بسبب تغيير الديانة أو التعبير عن الرأي في شأن ديني أو تلك الخاصة بالاستضعاف وفرض السيطرة.
على المستوى الجغرافي، تقول خريطة الحريات الدينية إن محافظة المنيا شهدت 50 واقعة تمييز وعنف طائفي، ما بين استهداف على الهوية الدينية، أو بسبب ممارسة الشعائر الدينية أو التعبير عن الرأي خلال الفترة من 2017 وحتى 2021، وهو المعدل الأعلى على مستوى الجمهورية، أي أنها بؤرة ملتهبة وساخنة.
للأسف، لا توجد دراسة أو تقرير منشور من أي جهة رسمية لتحليل أسباب كثافة التمييز الطائفي في المنيا، أو لطرح خطوات عملية للحل. هنا يأتي التساؤل عن الدور الغائب لجامعة المنيا، وبالمثل وزارتي التربية والتعليم والثقافة، وغيرها من الأجهزة الحكومية القادرة على التعامل مع هذا الوضع.
إذا انتقلنا إلى الجزء الخاص بالقضايا أمام النيابة العامة والمحاكم المختلفة، نجد على سبيل المثال أن هناك 166 قضية، إما صدرت فيها أحكام أو لا تزال معروضة أمام المحاكم الجنائية أو الإدارية، بالإضافة إلى المحكمة الدستورية العليا. ويمكن للباحث المتخصص وصاحب القرار أن يستخلص أنماط التعامل في هذه القضايا، على سبيل المثال بصدور إدانات في حوادث القتل والعمليات الإرهابية وازدراء الأديان، وتراجع ذلك في أحداث العنف الطائفي.
الدور المفقود للمؤسسات
في القسم الخاص بالقوانين والقرارات والسياسات، يمكن تتبع مسار تدخلات مؤسسات مثل البرلمان والحكومة، مرورًا بالمؤسسات الدينية. فبالرغم من شغل هذه القضايا لحيز كبير من النقاش العام، خصوصًا في ظل الحديث عن تجديد الخطاب الديني وتواتر الاعتداءات الطائفية والإرهابية خلال فترة الرصد، إلا أن قضايا حرية الدين والمعتقد والحق في عدم التمييز لم تنل اهتمام مجلس النواب، رغم أنه المؤسسة المعنية بالرقابة على الحكومة والأجهزة التنفيذية وصياغة القوانين التي تحمي المواطنين وحقوقهم.
كما لم يهتم أعضاء البرلمان بالأمر على نحو يتناسب مع حجم العوائق التي تواجه تفعيل النصوص الدستورية التي تكفل هذه الحقوق والحريات. فلم تقم اللجنة الدينية بدورها في مراقبة أداء المؤسسات الدينية، ومناقشة سبل دعم الحريات الدينية للمواطنين، وعدم تعرضهم لأية انتهاكات بسبب رؤاهم ومعتقداتهم الدينية.
ترصد الخريطة العديد من المبادرات والنماذج الإيجابية
وجاء دور لجنة حقوق الإنسان هزيلًا، لا يتسق مع مهامها ومسؤولياتها وفقًا للائحة الداخلية لمجلس النواب. بل عملت اللجنة على التقليل من شأن التوترات والاعتداءات الطائفية، وتقديم صورة تجميلية لسياسات السلطة التنفيذية، كما لم تناقش الالتزامات التشريعية التي ترتبت على دستور 2014.
وفي ذات الوقت، ترصد الخريطة العديد من المبادرات والنماذج الإيجابية، أبرزها اعتراف الدولة نفسها بوجود عنف طائفي، وإصدارها قرارات بتشكيل المجلس الأعلى لمكافحة الإرهاب والتطرف، وكذلك اللجنة العليا لمواجهة الأحداث الطائفية. بالإضافة إلى دور بعض مؤسسات المجتمع المدني والأفراد في التعبير عن رفض الواقع ورصد مشاكله.
لكنها جميعا تظل خطوات محدودة لا تعالج الجذور الكامنة للعنف الطائفي والتمييز الديني، فهى محاولات للحد من أعراض المرض دون معالجة مسبباته.
* كاتب المقال هو مسؤول ملف حرية الدين والمعتقد في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وضمن الفريق الذي عمل على إصدار الخريطة المشار إليها في هذا المقال.