كان دفن أجساد الموتى يحظى باحترام وتقدير كبيرين في الثقافة المصرية، بغض النظر عن معتقدات وديانات الأفراد. وتقول الحكمة المتوارثة إن "إكرام الميت دفنه" في إشارة إلى أهمية السرعة وتحديد المكان والوقت المناسبين، واللذين يحفظان كرامة المُتوفَّى، ويخففان المشقة والتعب عن أسرته المكلومة، وهو أمر مرجعه الفطرة الإنسانية التي تهاب مشهد الموت.
لكن يبدو أن هذا الإرث أصابته ملامح التغيير، وأصبح هناك من يؤمن بأن منح الحقوق ومنعها يجب أن يكون وفقًا لرؤيته الدينية، حتى بخصوص أبسط الحقوق الأساسية للإنسان، وهو الحق في تخصيص مقابر لكل فئات المجتمع.
مؤخرًا، صدر حكمان قضائيان برفض إلزام الدولة بتخصيص مقابر للبهائيين في محافظتي بورسعيد والإسكندرية، استنادًا إلى حجج عن عدم اعتراف الدولة بالديانة البهائية، وحل المحافل البهائية في الستينيات، ومخالفة طلباتهم للنظام العام، وإلى أن الدولة ملزمة بتخصيص مقابر لأتباع الأديان الثلاثة المعترف بها فقط.
وبالتالي، لا يتاح للبهائيين إلا مدفنًا وحيدًا في البساتين، لم يعد يتسع لمزيد من الجثامين. فهل لنا أن نتخيل أنه إذا تُوفّي بهائي في محافظة أسوان على سبيل المثال، على أسرته أن تنقل جثمانه لمسافة 900 كيلومتر تقريبًا، متحملة مشقة الإجراءات والسفر والتكلفة المالية وعدم القدرة على إتمام المراسم والتعاليم الدينية المتبعة فيما يخص طقوس الموت والدفن.
يعيش المواطنون البهائيون وضعًا استثنائيًا، بأوراق هوية مثبتة بها علامة (-) في خانة الديانة، باعتبارهم الفئة الدينية الرابعة من المصريين، وفقًا للأحكام القضائية التي حصلوا عليها في هذا الشأن. وفي الوقت نفسه تصر مؤسسات الدولة على عدم الاعتراف الرسمي بهم، مما يحرمهم من حزمة من الحقوق كالتمثيل الرسمي للطائفة، وإبرام عقود الزواج والطلاق، وتنظيم الشعائر الدينية بعلانية، وتكوين الجمعيات الأهلية، وغيرها من الحقوق الضرورية والأساسية.
ومن المثير للدهشة، أن مصر شهدت من منتصف القرن التاسع عشر وحتى نهاية ستينيات القرن العشرين، مقابر مخصصة لغير المؤمنين بأي دين تحت مسمى "الجبانات المدنية" أو "جبانات أحرار العقيدة" في القاهرة والإسكندرية. وفي الفترة من 1944 وحتى 1954 صدرت قرارات تخصيص مقابر للمؤمنين بغير الأديان الثلاثة المعترف بها، وذلك في القاهرة ومدن القناة. واشتملت تلك القرارات على الإشارة لانتفاع البهائيين بها.
جهة الاختصاص
يلزم لاتمام الدفن صدور قرار من الجهات المختصة بالدولة، على أن يكون في جبانة عامة مخصصة طبقًا لديانة المواطنين، حيث ينظم القانون رقم 5 لسنة 19661(؟؟؟) عملية تخصيص الجبانات والشؤون المتعلقة بها. وتتولى مجالس المدن والمجالس القروية إنشاء الجبانات وصيانتها وإلغاءها، وكذلك تحديد مساحة الجبانات لكل طائفة دينية.
ويتم اعتماد قرارات المجلس بهذا الشأن من محافظ الإقليم، وذلك وفق المادة رقم 6 من اللائحة التنفيذية لقانون الجبانات، التي تنص على أنه "يضع المجلس المحلي المختص الأسس والمعايير والقواعد الواجب مراعاتها لتحديد مساحة الجبانات الدينية للطوائف المختلفة، ولا يكون قرار المجلس في هذا الشأن نافذًا إلا بعد اعتماده من المحافظ المختص".
ولا يجوز دفن فرد في جبانة تخص فئة دينية أخرى. على سبيل المثال، وفقًا لتصريحات سابقة للقمص سرجيوس وكيل بطريركية الأقباط الأرثوذكس، فإن تخصيص الجبانات للكنائس يكون بنظام حق الانتفاع، وتصدر المحافظة قرار التخصيص، على أن تكون نسبة الكنائس المسيحية 20% من مساحة الجبانات العامة، وتقسم 10 % للأرثوذكس، %5 للكاثوليك، و%5 للإنجيليين.
عام 1939 صدرت قرارات إدارية بتخصيص جبانات لدفن موتى من يدينون بغير الديانات المعترف بها في القاهرة والسويس والإسماعيلية وغيرها
سلَك عدد من المواطنين البهائيين الطرق القانونية المتاحة بتقديم طلبات إلى جهات الإدارة المسؤولة في محافظتي الإسكندرية وبورسعيد، حيث تقطن مجموعات من المواطنين البهائيين، كما كانت بهما مقابر للبهائيين خلال عقود سابقة.
تضمنت المخاطبات ضرورة تخصيص قطعة أرض في المكان الذي تراه جهة الإدارة مناسبًا كمقابر عائلية لجميع المواطنين المصريين الذين يحملون علامة الشرطة (-) قرين خانة الديانة، والثابت ببطاقات الرقم القومي الخاصة بهم. في الحالتين، لم يستجب المسؤولون إلى طلباتهم.
أرسلت محافظة الإسكندرية خطابًا إلى مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر لطلب الرأي الشرعي، فأجابهم بـ "عدم جواز هذا التخصيص لما يؤدي إليه من التمييز والمزيد من التفرقة والانقسام وتمزيق المجتمع".
يختلف هذا الرأي الديني عن فتوى سابقة لمفتي الديار المصرية عام 1939، جاءت ردًا على طلب وزارة العدل وقتها بالرأي فيما يخص تخصيص أربع قطع أراض بقصد استعمالها مقابر للبهائيين، وجاء في الفتوى ألا يُدفن البهائيون في مقابر المسلمين. وبناء على ذلك، صدرت قرارات إدارية بتخصيص جبانات لدفن موتى من يدينون بغير الديانات المعترف بها في القاهرة والسويس والإسماعيلية وغيرها.
في الخطوة التالية، رفع محامو المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، بصفتهم وكيلًا عن عدد من البهائيين، دعويين قضائيتين أمام مجلس الدولة لإلغاء القرار السلبي بالامتناع عن تخصيص مقابر للطاعنين بالجبانات العامة. فالدولة ملزمة بتخصيص مقابر للفئة الرابعة، بغض النظر عن اعترافها بالديانات الأخرى من عدمه، لأن الحق في الدفن حق أساسي لا يجوز تعطيله. فضلًا عن كون إهدار الحقوق الأساسية لهذه الفئة تحت دعاوى عدم الاعتراف هو تمييز ديني، وانتهاك للدستور والقانون ومبدأ المساواة بين المواطنين.
لكن جاء الحكمان بالرفض استنادًا كما أشرنا لعدم الاعتراف بالديانة البهائية، وتعارضها مع مفهوم "النظام العام" الذي يُستخدم لحماية مصالح الدين الرسمي.
محاكمة دينية
للأسف، تعاملت مؤسسات الدولة مع هذه القضية وكأننا في محاكمة دينية للبهائية، متجاوزة الموضوع الأساسي، وهو تخصيص جبانات للبهائيين، وهو أمر لا يمت للعقيدة وممارسة الشعائر الدينية بشيء. فلم يسع البهائيون للحصول على حكم أو اعتراف بعقيدتهم، وإن كان ذلك حقًا لهم. الدفن ليست له علاقة بالدين وإن كانت تصاحبه طقوس ومظاهر دينية، يتساوى في ضمان هذا الحق المؤمن وغير المؤمن، المصري والأجنبي، الفقير والغني.
من غير المفهوم أن يكون سند الرفض لتخصيص المقابر سرد تاريخ البهائية، ورأي فقهاء المسلمين فيها، وعلاقتها بالنظام العام، أو إطلاق أحكام عامة على قطاع من المواطنين من منظور إيماننا وقناعاتنا.
نحن أمام قطاع من المواطنين يطالبون بحق دستوري من الحقوق الأساسية واللصيقة بالإنسان، والتي لا تقبل تعطيلًا ولا انتقاصًا، وهو مكفول بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وقائم على أن المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات، لا تمييز بينهم بسبب الدين أو العقيدة.
فإذا كانت مؤسسات الدولة جادة فيما تعلنه من احترام حرية العقيدة حتى لغير المنتمين للأديان المعترف بها الثلاث، فعليها أن تسارع بتصحيح هذا الوضع الخاطئ، وتصدر قرارات بتخصيص مقابر للبهائيين في المناطق التي يريدونها، وبالشروط المطبقة في منح التراخيص لغيرهم من الفئات الدينية، خصوصًا أن رئيس الجمهورية أعطى إشارات سابقة باحترام التنوع الديني.