
البهائيون في مصر.. معاناة لا تنتهي مع "الموت المدني"
ازدادت أوضاع البهائيين المصريين سوءًا مع اتساع نطاق الانتهاكات التي يتعرضون لها، ولم تعد تقتصر على تصحيح خانة الدين في ورقة رسمية، لكنها طالت وجوهًا كثيرة من حقوقهم القانونية والاجتماعية اليومية، ناهيك عن حرياتهم الشخصية المقيدة. ونتيجةً لذلك، أصدرت الجامعة البهائية العالمية عدة بيانات، على غير عادتها، فيها إعرابٌ عن القلق العميق إزاء تصاعد "التمييز والاضطهاد" اللذين تمارسهما السلطات المصرية ضد البهائيين، في ظل تجاهل أي حلول عملية لوقف هذه الممارسات.
بالتزامن مع هذه البيانات، قدَّم المقرِّر الخاص المعني بقضايا الأقليات نيكولا لوفرا تقريرًا مهمًا إلى الدورة 58 لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة خلال الفترة من 24 فبراير/شباط الماضي إلى 4 أبريل/نيسان المقبل، يتضمن توصيةً بضرورة اعتراف الدول المختلفة بهوية الأقليات التي تعيش فيها، بما في ذلك الوثائق الرسمية، خصوصًا أوراق الهوية وشهادات الميلاد، وألَّا تتخذ أي تدابير تحول دون التعبير الحر والحقيقي عن الانتماءات الدينية واللغوية وغيرها من سمات الأشخاص المنتمين إلى هذه الأقليات. وأكد التقرير أن الحرمان من الحق في الهوية أو القصور القانوني في التشريعات المحلية عن ممارسته الفعالة، يضع الناس في أوضاع تعوق أو تمنع التمتع بالحقوق الأساسية أو الوصول إليها، ما يخلق معاملات وفرصًا مختلفةً تؤثر على مبادئ المساواة أمام القانون وعدم التمييز.
سبقت هذا التقرير الدورة السابعة عشرة لمنتدى الأمم المتحدة المعني بقضايا الأقليات، الذي تحرص الحكومة على حضور أحد ممثليها فعالياته سنويًا للرد على الانتقادات التي قد تُوجه لها، وكان موضوعه هذا العام تمثيل الأقليات في الأماكن والخطابات العامة، بما يؤثر على مشاركتها الفعالة في صنع القرار والحياة الثقافية والدينية والاجتماعية والاقتصادية والعامة.
أنماط الإنكار
تبدأ معاناة البهائيين من عدم حصولهم على الاعتراف الرسمي بكونهم جماعة دينية، ومن ثم عدم وجود هيئة تتمتع بالشخصية القانونية لتنظيم شؤونهم الدينية وأحوالهم الشخصية، استنادًا إلى المادة 64 من الدستور التي وإن ضمنت حرية الاعتقاد على إطلاقها للجميع، فإنها فرّغت هذه الضمانة من معناها بمنح حق ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة للمسلمين والمسيحيين واليهود حصرًا، لتحرم بالتالي البهائيين وغيرهم من غالبية حقوقهم الأساسية المتعلقة بحرية العبادة والرأي والتعبير والتجمع والتنظيم الجماعي. ويزداد الأمر قتامةً بأن هذه الانتهاكات تنعكس على عجزهم عن إدارة شؤون حياتهم اليومية.
يمكن تقسيم هذه الانتهاكات التي يتعرض لها البهائيون إلى ثلاثة أنماط، تتحمل مؤسسات الدولة الرسمية المسؤولية عنها بشكل كامل، أولها خاص بأوراق الثبوتية الرسمية، فصدور حكم قضائي بوضع شرطة في خانة الديانة للبهائيين حل مشكلة كتابة مسلم أو مسيحي للبهائي في بطاقة الرقم القومي فقط، لكن لم يترتب عليه إنهاء المشكلات الأخرى المرتبطة بالأحوال الشخصية ككتابة الحالة الاجتماعية الحقيقية، أو الإقرار بعقود الزواج وتنظيم ما يترتب عليها من حقوق.
لا تزال مؤسسات الدولة تتعنت بشكل غير مبرر في الاعتراف بعقود زواج البهائيين حتى لو كانت عرفية بدون أي إشارة لهويتهم الدينية، ما ينتج مشاكل اجتماعية كبيرة، مثل عدم استخراج شهادات الميلاد للأطفال مسجل بها أسماء والديهم وطبيعة العلاقة بينهما، والتحاق هؤلاء الأبناء بالمدارس، والآثار المترتبة على الطلاق والوفاة كالوصاية والإرث.
ما يثير الدهشة أن مؤسسات الدولة تسمح للأجانب بغض النظر عن معتقداتهم بتسجيل وتوثيق عقود الزواج، بينما تحرم مواطنيها من ذلك، وتنتهك حقهم الدستوري في تكوين أسر، دون تحديد مسار بديل، بل إنه في بعض الحالات لجأ الزوجان إلى القضاء لإثبات علاقة الزواج، فطالب ممثل الحكومة برفض هذه الدعاوى أيضًا بحجة أنها باب للتحايل، وأنهما ينتميان للبهائية غير المعترف بها.
محافظة الإسكندرية على سبيل المثال، طلبت رأي الأزهر الذي جاء عبر مجمع البحوث الإسلامية، وانتهى إلى أنه "لا يجوز تخصيص قطعة أرض لدفن الموتى ممن يحملون علامة (-) أو غيرها، لما يؤدي إليه من التمييز والمزيد من التفرقة والانقسام وتمزق نسيج المجتمع الواحد". في حين، دفعت هيئة قضايا الدولة ممثلة الحكومة أمام دوائر القضاء الإداري التي رفضت الدعاوى بأن الأديان المعترف بها في مصر هي الإسلام والمسيحية واليهودية فقط، وهي الأديان التي يكفل الدستور حرية ممارسة شعائرها واتخاذ دور العبادة لها.
من مصلحة صانعي السياسات حماية الأقليات الأكثر عرضة للتهميش
أما النمط الثاني من المشكلات، فله علاقة بدفن الموتى. يضطر البهائيون لنقل الجثامين مئات الكيلو مترات للدفن بالقاهرة، مما يسبب إرهاقًا نفسيًا وماليًا لأسر المتوفين، بالمخالفة للقوانين والأعراف الاجتماعية التي تحرص على إظهار التقدير والاحترام للموتى. سلك البهائيون الطرق القانونية لتصحيح هذا الوضع ولم ينجحوا، بدايةً من مخاطبة الجهات التنفيذية في بعض المحافظات، وانتهاءً بإقامة دعاوى قانونية أمام مجلس الدولة.
يتمثل النمط الثالث في القيود والمضايقات الأمنية التي تفاقمت خلال السنوات الأخيرة، خصوصًا للقائمين على تقديم بعض الخدمات الاجتماعية والثقافية لأبناء الطائفة، وتتضمن الوضع على قوائم الترقب والمنع من السفر والتوقيفات الأمنية في المطار عند العودة من الخارج، والتفتيش الدقيق للحقائب والحواسب الشخصية، ومنع عدد من البهائيين غير المصريين من دخول البلاد، على الرغم من حصولهم على تأشيرة الدخول من البلاد التي يعيشون فيها، وإنهاء إقامة وترحيل بعض المتزوجين من مصريين بالرغم من صحة أوراقهم، وفق شهادات جمعها كاتب هذه السطور بمناسبة عمله في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية.
ولا تزال هذه المعاناة مستمرةً بالرغم من أن الحق في الدفن وتخصيص المقابر حق أساسي مختلف عن ممارسة الشعائر أو اتخاذ دور العبادة، وهو حق لا يقبل التعطيل ويجب أن يكون متاحًا لكل فئات المواطنين والمقيمين بدون أي استثناءات.
لن يختفي البهائيون
لفهم أوضاع البهائيين الحالية، وتأثير السياسات الحكومية وما يجب فعله لإنهاء الانتهاكات، علينا إعادة التأكيد على عدد من الحقائق حتى تكون الصورة واضحةً. وأولى هذه الحقائق أن البهائيين ليسوا أجانب، فهم ليسوا لاجئين أو ضيوفًا أو وافدين حديثًا، مع كل الحرص على حقوق هذه الفئات. لكن البهائيين مواطنون يتمتعون بالجنسية المصرية، ويرجع تاريخ وجودهم إلى القرن التاسع عشر، ويفترض أن تحمي وتعزز الدولة جميع الحقوق الدستورية والقانونية التي ترتبها رابطة المواطنة.
الحقيقة الثانية أن مصر كانت تعترف بوجودهم. فقد تشكّل أول محفل بهائي وطني للإشراف على شؤون الطائفة وتنظيم أحوالهم الشخصية وإصدار شهادات الزواج عام 1924. بل حضر ممثلون عنهم مناسبات رسمية للدولة، وبالتالي الاعتراف بحقوقهم لا يعد وضعًا جديدًا، بل يصحح وضعًا خاطئًا ازدادت فيه الضغوط عليهم والعدوان على حقوقهم منذ صدور القرار بقانون 263 عام 1960 بحل المحافل البهائية ومصادرة أملاكها. وعلى مدى أكثر من ستة عقود، نظمت حملات للقمع والقبض على أعداد منهم ومنع السفر، ومارست الحكومة المصرية أشكالًا مختلفة من التمييز ضدهم.
يقلل البعض من حجم معاناة البهائيين باعتبار أن أعدادهم لا تتجاوز بضع آلاف، ومن ثَمَّ تصبح مشكلتهم "مشكلة فئوية" وفق هؤلاء، تتضاءل أهميتها مقارنة بالمشكلات الأخرى. وهذا تصور خاطئ، ولا يجب أن تتبناه الدول بشكل عام أو ترتب أدوارها وفقًا له. هذه الممارسات التمييزية الواقعة على أي مجموعة، على صغر عدد أفرادها، تعد رسالة تسيء إلى الدولة وتهدر جهودها في تصدير صورة لها عن احترامها للتنوع الديني الموجود في مصر.
مما لا شك فيه أن حرية الدين والمعتقد تحظى باهتمام عالمي في الوقت الحالي، وعلى أجندة عديد المؤتمرات والفعاليات الأممية والدولية، ومن مصلحة صانعي السياسات حماية الأقليات الأكثر عرضةً للتهميش. البهائيون المصريون لم يكونوا مصدر قلق، وحقوقهم مشروعة وتحتاج إلى تدخل مؤسسات الدولة بطريقة تساعدهم على العيش بصورة طبيعية لا أن تجعلهم مواطنين من الدرجة العاشرة.
عدم الاعتراف بوجود البهائيين لن ينهي وجودهم، والعمل على حل مشاكلهم لا علاقة له بصحة البهائية دينًا أو معتقدًا من عدمه، وإنما المطلوب هو الاعتراف بهم وبوجودهم وبحقوقهم، وكل ما يطلبونه أن تحدد الدولة طريقة قانونية لتنظيم أحوالهم الشخصية وفق معتقداتهم، وأن تخصص لهم أماكن قريبة من تجمعاتهم لدفن موتاهم، وأن تتوقف عن استخدام الهوية الدينية سببًا للتضييق والملاحقة والعدوان على الحقوق والحريات.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.