منذ تسع سنوات أطلق رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي دعوته لتجديد الخطاب الديني، مطالبًا بثورة دينية، عقب فترة وجيزة من توليه الحكم. وتزامنت دعوته وقتها مع انتشار العمليات الإرهابية التي شهدتها مصر عقب عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي وإنهاء حكم جماعة الإخوان المسلمين، ولاقت اهتمامًا دوليًا ومحليًا، خاصة في ظل الحاجة لرؤية جديدة يمكن البناء عليها في مكافحة التطرف الديني الذي كانت تعاني منه دول المنطقة، وانتقل إلى استهداف المدنيين في بعض الدول الغربية.
واكتسبت دعوة الرئيس زخمًا مع الإلحاح الرسمي عليها، والتنديد ببطء اجراءات وضعها حيز التنفيذ، لدرجة انتقاده لشيخ الأزهر، وضعف أداء المؤسسة الدينية الأولى. وتم التسويق لذلك باعتباره عملًا إيجابيًا يحسب للنظام.
هل نجحت مؤسسات الدولة في تجديد الخطاب الديني؟ وهل قدمت رؤية جديدة تجاه المرأة والأقليات الدينية؟ وهل تعالج خطابات الكراهية والتمييز والتحريض على العنف الراسخ في عقول قطاعات معتبرة من المصريين؟ ولماذا خفت الحديث عنه مؤخرًا؟
مسكنات لا علاج
أُسندت مهمة تجديد الخطاب الديني وتصحيح الأفكار المغلوطة منذ إطلاقها إلى المؤسسات الدينية الإسلامية الرسمية، بدرجات متفاوتة. بحكم أنها جزء من الحكومة، كانت وزارة الأوقاف الأسرع استجابة للدعوة، أذ أصدرت عدة قرارات، بدأت بضم جميع المساجد الأهلية، ثم توحيد موضوع خطبة الجمعة، وقصر صعود المنبر على الحاصلين على تصاريح من الوزارة.
أما مؤسسة الأزهر فنظمت عدة مؤتمرات لمناقشة التطرف وسبل مكافحة الإرهاب، كما أعلنت عن استراتيجية لتطوير الخطاب الديني، وحملت بعض تصريحات شيخ الأزهر إشارات إيجابية تجاه العلاقة مع المسيحيين وبناء الكنائس.
تعد هذه الإجراءات مسكنًا قويًا يخفف من أعراض ومشاكل الخطاب الديني، ويؤدي إلى تراجع خطابات الكراهية على المنابر وداخل المؤسسات فقط، لكنه قطعًا لا يعالج الأسباب التي أدت لتطرف الخطاب وصدامه مع قيم العصر، وضعف تأثيره أمام خطابات جماعات العنف الديني، التي لا يزال لها مؤيدوها لدى قطاعات واسعة من المواطنين.
نجحت المؤسسات الدينية الرسمية في احتكار الخطاب الديني داخل المساجد في أوقات خطب الجمعة، وفي تحديد الأنشطة الدعوية والاجتماعية داخل المساجد، خصوصًا تلك التي كانت تقع تحت سيطرة الجماعات الدينية، سواء التي لها طابع سياسي مثل الإخوان المسلمين والدعوة السلفية، أو التي تتبع جمعيات دينية سلفية.
لكن لم تقدم هذه المؤسسات أي جديد لمراجعة الأسانيد الدينية التي تتخذها جماعات العنف المسلح أساسًا لرؤيتها، كما استمرت رؤيتها المحافظة تجاه حقوق المرأة والأقليات الدينية، ومساحة تمتع المواطنين بحقوقهم الشخصية.
كيف يمكن للمؤسسات الدينية أن تقوم بتجديد الخطاب الديني وهي تقود في الوقت نفسه حملة هجوم عنيفة على المفكرين والباحثين الذين لديهم رؤي مخالفة لها، أو الذين ينتقدون استدعاء التراث في ظروف غير مناسبة. كما أنها لا تقبل بأي نقد لدورها، وتعمل على التضييق على حرية الرأي والتعبير.
إسلام البحيري، وفاطمة ناعوت، ومحمد نصر، وأحمد ماهر (أعيدت محاكمته وصدر حكم بالبراءة)، ونبيل النقيب وغيرهم، كانت مؤسسة الأزهر جزءًا فاعلًا في الدعاوى التي رُفعت ضدهم، وصدرت فيها أحكام بالإدانة، لمجرد أنهم رأوا أن المؤسسات الدينية مقصرة في مراجعة كتب التراث.
تريد المؤسسات السياسية خطابًا لا يناقش القضايا السياسية والمشكلات الاقتصادية، ولا تمانع في أن يكون محافظًا
استمر خطاب الكراهية والتحريض ضد الشيعة، وإنكار وجودهم، واتهامهم بأن إيمانهم منقوص ويسيئون إلى الإسلام، في حين أرسل مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر خطابًا لمحافظة الإسكندرية يرفض تخصيص مقابر للبهائيين، رغم أنهم مواطنون مصريون، مؤكدًا "عدم جواز هذا التخصيص لما يؤدي إليه من التمييز والمزيد من التفرقة والانقسام وتمزيق المجتمع".
كذلك، تبنى الأزهر قانونًا محافظًا للأحوال الشخصية، ينتقص من حقوق المرأة. رفضت المؤسسة أية مقترحات لعدم الاعتداد بالطلاق الشفهي ما لم يوثق، حتى أن الأزهر أصدر بيانًا ينتقد إصدار تونس قانونًا للمواريث يتيح للأشخاص الاختيار بين نظامين، أحدهما ديني والآخر مدني، بالتوزيع المتساوي للإرث بين الرجل والمرأة، واعتبر هذه الخطوة محاولة للمَسَاسِ بعقائد المسلمين وأحكام شريعتهم.
بطبيعة الحال، من الظلم إلقاء مسؤولية بطء إنجاز مهمة تجديد الخطاب الديني وبقائها محلك سر على الأزهر أو المؤسسات الدينية وحدها، لأنها في الأساس مسؤولية تضامنية، تتحمل العبء الأكبر فيها مؤسسات الدولة السياسية.
ومن الوقائع ذات الدلالة في هذا السياق، ما حدث للدكتورة آمنة نصير، العضوة السابقة بمجلس النواب، والتي تقدمت بمشروع قانون لإلغاء المادة 98(و) من قانون العقوبات، المعروفة بمادة ازدراء الأديان، وتعرضت إثر ذلك لموجة من الانتقادات من أعضاء الأحزاب التي تقدم نفسها كداعم أساسي للحكومة، وأرسلت وزارة العدل مذكرة ترفض المقترح، وتحذر منه.
تريد المؤسسات السياسية خطابًا دينيًا لا يناقش القضايا السياسية والمشكلات الاقتصادية، ولا تمانع في أن يكون في جوهره محافظًا تجاه القضايا الاجتماعية وحقوق المرأة والأقليات الدينية.
أما المؤسسات الدينية فتسعى لتعزيز مكانتها، ومحاولة إعادة البريق لوضعها دوليًا بعد التراجع لحساب المؤسسات الإسلامية الخليجية، وداخليًا لاستعادة مكانتها عند عموم الناس بعد تراجع دور شيوخها لصالح السلفيين. وهو ما نجحت في تحقيقه بدرجة ما.
اتسمت الإجراءات التي اتخذتها المؤسسات الدينية بالتشتت والتنافس الذي أدى لتكرار بعض الأنشطة
وبينما تتفق المؤسسات الدينية مع السياسية في الرؤية المحافظة اجتماعيًا، إلا أنها تريد السيطرة على الشأن الديني، بدون إجراء تغييرات جوهرية في نظم التعليم والتدريب والدعوة، أي دون الاصطدام بالتراث الديني وما به من آراء فقهية مؤيدة للتمييز والسمو الديني، بما إننا في دولة دينها الإسلام السني، فمن خلاله فقط تُرسم حدود حقوق الآخرين وأدوارهم في المجال العام.
عدم تحديد الهدف المقصود
تحدث الرئيس في خطابه في يناير/كانون الثاني 2015 عن ثورة إسلامية، ثم تحدث في خطابات تالية عن تصويب الخطاب الديني بتنقيته من الأفكار المغلوطة وإعادة قراءة التراث الفكري قراءة واقعية مستنيرة.
كان نتيجة هذا الاختلاف في الرؤى العجز عن وضع خطة واضحة تتضمن الإجراءات المطلوبة للتعامل مع الوضع الحالي. وبالتالي، لم تحدد أي من الجهات الرسمية مفهومًا واضحًا لتجديد الخطاب، ومن أين يبدأ، كما لم تعلن قيادات المؤسسة الدينية ضوابط وخطة هذا التجديد، وهل يسعى للحد من التيار التقليدي المحافظ أم السياسي المؤدلج؟
وترتب على ذلك، أن تجديد الخطاب الديني الذي تبنته مؤسسات الدولة ظل حكرًا على القيادات الدينية الإسلامية، وارتبط أساسًا بالأزهر، خصوصًا بعدما ألح الرئيس السيسي على شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب في بذل المزيد من الجهود. وشهدنا النقاش غير المعتاد بين شيخ الأزهر ورئيس جامعة القاهرة حول تنقية التراث الديني، وهو أحد عوامل الفشل إذ لم تُستدع كافة مؤسسات الدولة التعليمية والثقافية والمجتمع المدني وغيرها للإسهام في هذه المهمة.
وكان من نتيجة ذلك، أن اتسمت الإجراءات التي اتخذتها المؤسسات الدينية بالتشتت والتنافس الذي أدى لتكرار بعض الأنشطة. الأزهر لديه مرصد الأزهر لمكافحة التطرف، الذي يقوم برصد الفتاوى الخارجية الداعمة للتطرف ويرد عليها، وهو الدور نفسه الذي يقوم به مركز سلام التابع لدار الإفتاء لرصد الفتاوى التكفيرية والرد عليها. كما تتشابه كثير من الأنشطة التي تنظمها وزارة الأوقاف مع تلك التي تنظمها مؤسسة الأزهر.
كما يبدو أن حتى الإجراءات التجميلية البسيطة مرتبطة بوجود قيادات دينية متفهمة، سواء شيخ الأزهر أو وزير الأوقاف ومفتي الجمهورية. فلا يمكن القول إن الأفكار التي يطرحونها حول قبول الآخر ونبذ خطابات التطرف وغيرها متغلغة داخل المؤسسات الدينية التي يديرونها.
لا أعتقد أنه يمكن إنجاز خطاب ديني مستنير ومتصالح مع قيم العصر في ظل سياق عام مقيد وضاغط على الحقوق والحريات، يسمح بانتهاكات مستمرة تحت دعاوى وتفسيرات دينية ورؤى محافظة اجتماعيًا، فالعلاقة طردية بين تجديد الخطاب وفتح المجال العام، ودرجة تمتع المواطنين بحقوقهم وحرياتهم الشخصية.