منذ إطلاق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي دعواته المُلحة من أجل تجديد الخطاب الديني، يتكرر انعقاد المؤتمرات والندوات العلمية التي تنظمها المؤسسات الدينية تحت عناوين مختلفة تدور أغلبها حول مكافحة التطرف والإرهاب، والتي لا تخرج نتائجها وتوصياتها عن تفنيد أفكار تيارات الإسلام السياسي التي يعتبرها النظام المصري المهدد الأكبر لشرعيته السياسية.
ففي المؤتمر الأخير والذي جاء تحت عنوان مؤتمر الأزهر العالمي لتجديد الفكر الإسلامي، لفت شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب في كلمته الافتتاحية، أنظار المتابعين إلى أن هذا المؤتمر "ليس مؤتمرًا نمطيًّا ولا تكرارًا لمؤتمرات سابقة، وإنما هو مؤتمر يضطلع بمهمة مناقشة قضايا جزئية محدَّدة، وإعلان فيصل القول فيها".
تلك القضايا التي وُصفت في الكلمة ذاتها بأنها "الأحكام القابلة للتبدُّل والتغيير.. المختصة بمجالات الحياة الإنسانيَّة الأخرى، مثل الأحكام المدنيَّة والدستوريَّة والجنائيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة والسيرة الاجتماعية والبيع والشراء، وأنظمة الحُكم والعلاقات الدوليَّة"؛ بما يوحي بأن هذا المؤتمر يرمي إلى استعراض ومناقشة إشكاليات فقهية وفكرية أكثر تعمقًا وارتباطًا بقضايا الاجتماع والسياسة ونظم الحكم وحقوق الإنسان في العالم المعاصر.
ومع ذلك فإن الحدث الأبرز والأكثر إثارة للجدل في هذا المؤتمر تمثل في مناوشات كلامية بين شيخ الأزهر ورئيس جامعة القاهرة محمد عثمان الخشت؛ انعكست فيها صراعات قديمة ومتجددة حول مضمون "التراث الإسلامي" وكيفية التعاطي معه.
وقد ارتجل شيخ الأزهر خلال هذه المناوشات ليؤكد أن مشكلات الاجتماع والسياسة المعاصرة في بلادنا ليست نابعة من التراث؛ لأن التراث غير مطبق في حياتنا المعاصرة إلا في الزواج والطلاق والميراث فحسب، أما السياسات العامة وكافة نظم الحياة الأخرى فليست مستقاة من التراث الإسلامي وإنما هي مستمدة مما هو سائد عالميًا من أنظمة الحكم وأنماط الحياة المعاصرة، ليختم كلامه بقوله "أرجوكم ابحثوا عن مشكلة غير التراث".
غير أن استدعاء "التراث الإسلامي" لا يبدو مقتصرًا في واقع الأمر على ما يخص الأحوال الشخصية وأحكام المواريث كما قال شيخ الأزهر، فالحق في حرية الدين والمعتقد، وهو أمر لا يتعلق بالزواج ولا الطلاق ولا أحكام المواريث، حق ينتهك في مصر استنادًا إلى التراث والفقه الإسلامي التقليدي وبدعم وتأييد ومشورة من مؤسسة الأزهر نفسها.
هذه الانتهاكات تنعكس في نصوص دستورية وتشريعية، كتلك التي تقصر الاعتراف بحرية ممارسة الشعائر حصرًا لأصحاب الأديان الإبراهيمية أو "أهل الكتاب" دون غيرهم، والاستمرار في تطبيق بعض الأحكام "المدنية" للردة على المتحولين عن الإسلام مثل عدم الاعتراف بزواجهم وغير ذلك، فضلًا عن محاكمات ازدراء الأديان التي تتولى المؤسسة الأزهرية تحريك الدعاوى في بعضها، بينما تعتمد الجهات القضائية على تفسيرات الأزهر لبعض الآراء الدينية باعتبارها ازدراءً للدين الإسلامي لإدانة المتهمين فيها.
وكغيره من المؤتمرات، لم يخرج البيان الختامي للمؤتمر عن محاولات تقليص التنوع الديني وإحكام القبضة السلطوية على المجال العام؛ حيث استهدف تعريف وتحديد "الفهم الصحيح للدين" في مواجهة الأفهام "المغلوطة" لدى التيارات الإسلامية التي تُنازع النظام السياسي شرعيته، مع مزيد من التأكيد على اختصاص الأزهر بتفسير الدين واحتكاره للخطاب الديني "الوسطي" الذي يُمثل الدين الرسمي للدولة، ومطالبة من وصفهم بـ"غير المؤهلين" بتجنب الخوض في مسائل تجديد الخطاب الديني لأن التجديد -بحسب وصف البيان- صناعة دقيقة لا يُحسنها إلا الراسخون في العلم، ولأن تصدّر غير المؤهلين سيُحوّل التجديد إلى تبديد؛ ربما في إشارة غير مباشرة إلى رئيس جامعة القاهرة وإلى الأطروحات الناقدة للتراث التي بدا الرئيس المصري مؤيدًا ومفضلًا إياها عن المدرسة الأزهرية في السنوات الأخيرة.
وانطلاقًا من الرغبة ذاتها في احتكار الخطاب الإسلامي والحد من التنوع الديني بداخله، يوصي البيان جهات الدولة بالمزيد من التضييق والرقابة على وسائل الإعلام وغلق المنافذ أمام التيارات السلفية وفتاواها الدينية المتشددة.
ورغم مما ورد في الكلمة الافتتاحية للمؤتمر من تنديد بـ"دعوات التعصب الديني" واعتبارها لا تُعبر عن الإسلام تعبيرًا أمينًا؛ إلا أن البيان الختامي للمؤتمر ذاته لا يتحدث عن "الحرية الدينية" إلا في سياق الحديث عن التآمر على وحدة النسيج الوطني المصري وتهديد الأمن القومي؛ وهو ما نُص عليه بوضوح عند الحديث عن الإلحاد؛ إذ يقول البيان إن "الإلحاد خطر يعمل على ضرب الاستقرار في المجتمعات التي تقدس الأديان، وتحترم تعاليمها، وهو أحدُ أسلحة الغزو الفكري، التي يُراد من خلالها -بدعوى الحرية الدينية- هدمُ الأديان، وإضعافُ النسيجِ المجتمعي، وهو سبب مباشر من أسباب التطرُّف والإرهاب، وعلى المجتمعات أن تتيقظ للآثار السلبية التي تترتب على دعوات الإلحاد، وإنكار وجود الله، وبلبلةِ أفكار المؤمنين به".
فالمؤسسة الأزهرية بذلك لا تكتفي بالنظر إلى "الإلحاد" كتوجه فكري وعقائدي يخالف المعتقد الإسلامي، بل تعتبره تهديدًا للأمن القومي وللنسيج الوطني الذي يجب، بنظرها، أن يتحدد بانتماءات عقائدية ودينية بعينها.
يتناقض ذلك بشكل واضح مع ما يتضمنه البيان ذاته من تأكيد على "المواطنة الكاملة" باعتبارها "حقًا أصيلًا لجميع مواطني الدولة الواحدة، فلا فرقَ بينهم على أساس الدِّين أو المذهب أو العرق أو اللون"، وعلى الإقرار بشرعية الدولة الوطنية الديموقراطية الحديثة.
إلا أنه ومع القراءة الكلية للبيان، يتضح أن هذه النصوص لم تنطلق من إيمان بالمضمون الديموقراطي الأشمل لمفهوم "المواطنة" أو لفهم عميق لدور "الدولة الوطنية الديموقراطية الحديثة" في حماية الحرية الدينية والتنوع الديني؛ وإنما جاءت في سياق نقض أفكار التيارات الإسلامية المختلفة التي ينازع بعضها النظام الحاكم والدولة بالكامل شرعيتهما السياسية والدينية، بينما تنازع جميعها الأزهر ومنهجه المرجعية الدينية.
ومن ثم يُمكن القول بأن الإشكاليات المتعلقة بحقوق الإنسان بشكل عام، وحقوقه في حرية الفكر والاعتقاد والدين بشكل خاص، ليست مدرجة ضمن اهتمامات المؤسسة الأزهرية في محاولاتها لـ"تجديد الخطاب الديني"؛ بل إن مُجمل نتاج هذه المحاولات يصب في اتجاه تعزيز السلطوية الدينية، من خلال فرض المزيد من القيود على التنوع الديني في مواجهة كل من جماعات الإسلام السياسي والتيارات السلفية، والتفسيرات الدينية "التنويرية" الخارجة عن المنهج الأزهري التراثي، والتوجهات الدينية والاعتقادية الخارجة عن "النسيج الوطني المصري" الذي يتحدد فقط بالانتماء لـ"الأديان السماوية الثلاثة" بحسب الخطاب السائد.
وفي المقابل، فإن أي حديث جاد عن "التجديد" أو التطوير العلمي والمعرفي والفكري، إنما يتطلب بيئة من الحرية الفكرية والدينية التامة؛ بما يسمح باختلاف الآراء وتداولها دون خوف من حظر أو سجن أو اتهامات مبتذلة بالخيانة وتهديد الأمن القومي، وتقع مسؤولية حماية هذه الحرية الكاملة وتوفيرها على عاتق الدولة بالأساس، فليس الأصل أن تنشغل الدولة بالضغط على المؤسسات الدينية لإنتاج خطاب ديني بعينه لاتخاذه مرجعية لسياساتها، بقدر ما يجب أن تتحمل مسؤوليتها تجاه حماية التنوع الديني والحق في حرية الفكر والتعبير والدين بشكل مطلق.