بالرغم من أنَّ مسار الجماعات والتنظيمات والفرق والحركات الإسلامية المسيسة بدأ منذ العقد الخامس في تاريخ الإسلام، فإن النظر إليه في الزمن الحديث والمعاصر يبدو أهمَّ وأولى، لأن حالته لا تزال متفاعلة في الواقع الذي نعيشه، ويشكل أحد التحديات القوية لمفهوم الدولة القومية والوطنية الذي تشكَّل في العالمين العربي والإسلامي بعد أفول عصر الإمبراطوريات.
فهذه الجماعات تكافح في سبيل استعادة الشكل التنظيمي والإداري والسياسي للمسلمين الذي كان قائمًا أيام الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية، ومن ثَمَّ ترفض الدولة الحديثة، وبعضها يرى أنَّ رمزيتها وأيقوناتها وأطرها الحاكمة ضد الشريعة الإسلامية.
خريطة معرفية للإسلام السياسي
وأعتقد أن موسوعة الحركات الإسلامية في الوطن العربي وإيران وتركيا تنطوي على الكثير من المعلومات والأفكار والممارسات والمسارات، تصلح لفهم ما يخص "الإسلام السياسي" على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين، خاصة أنَّ مؤلفها الدكتور أحمد الموصللي حرص على تغطية أربعة أمور أساسية، تتعاون وتتكامل، لترسم ملامح الخريطة المعرفية والسلوكية لهذه الحركات في هذا الزمن الطويل.
أولًا، طرح الأفكار الأساسية والمبادئ والمفاهيم الخاصة بالجماعات والحركات الأصولية الإسلامية، أو حركات الإسلام السياسي، بتقديم وجهة نظر "الأصولية الإسلامية" في الكثير من المفاهيم والاصطلاحات والمعاني والتعبيرات المتداولة، وإعادة تفسير مفاهيم وقيم فلسفية وسياسية عامة مثل الحرية والعدالة والثورة وغيرها، وفق هذه الرؤية، وهو ما سيُسهب هذا المقال في عرضه.
ثانيًا، تقديم ما يكفي من المعلومات عن زعماء ومؤسسي ومثقفي ومفكري وأعضاء تلك الحركات والجماعات في التاريخ الحديث والمعاصر، وهو أمر غاية في الأهمية، بسبب التأثير الكبير في أتباعهم تحت راية "السمع والطاعة".
ثالثًا، وصف وتحليل بنية هذه الجماعات، سواء التي تعمل منها في العلن، أو ما تنتهج العمل السري، وسواء هذه التي يقتصر دورها على العمل الدعوي والتعليمي أو تلك التي تمتلك مشروعًا سياسيًا.
رابعًا، رصد أهم الأحداث التاريخية التي أثرت في صناعة الجماعات السياسية الإسلامية أو التي خلقتها هذه الجماعات بنفسها. وتبدأ الموسوعة مع تأسيس عثمان دان فوديو دولة سوكوتو الإسلامية في وسط السودان عام 1804، وتنتهي بالانفجار الكبير الذي وقع في جزيرة بالي الإندونيسية في 2002.
النظر بعين أصولية
يختلف الخطاب المعرفي والسياسي بين "الإصلاحية الإسلامية" كما دعا إليها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، و"الأصولية الإسلامية" التي عبَّرت عنها بالأساس كتابات حسن البنا وأبو الأعلى المودودي وسيد قطب. فبينما يقبل الإصلاحيون مبدأ بلوغ الحقيقة عن طريق البرهان العقلي، ويؤمنون بأنَّ العقل قادر في حد ذاته على التوصل إلى العديد من المسائل الأخلاقية والميتافيزيقية، ينظر الأصوليون إلى الإسلام باعتباره نظامًا شاملًا متكاملًا مُعلَّلًا لا يحتاج أيَّ دليل منطقي، ويعتبرون العقل قاصرًا عن كشف الحقيقة دون مساعدة الوحي.
وفي المبادي المعرفية، يؤمن الأصوليون بوحدة المعرفة، وإرجاعها إلى الدين، وأنَّ السعادة والحقيقة والوجود هي أمور مطلقة في إهاب الإسلام.
وبشكل أكثر تفصيلًا، تتمثل مبادئ المعرفة لديهم في عدة نقاط، من بينها اعتقادهم بألَّا جدوى من التفلسف، وأنَّ الفيلسوف يضع نفسه في المكان الخاطئ، حيث لا مخرج إلا بما منحه الله للإنسان، وهو العقل، الذي ليس عليه أن يتفلسف ويتمنطق أو يسعى وراء المسائل التي أقرها الوحي، بل يشغل نفسه بالأمور العملية المفيدة. كما يرفضون الرؤيتين اللتين تقول أولاهما بأنَّ الإنسان مالك الحقيقة، وتقول الثانية بعدم وجود حقيقة محددة على الإطلاق.
كذلك يعتقد الأصوليون أنَّ معرفة الله لا تحيط بها العقول البشرية، لأنها قاصرة عن إدراك حقائق الأشياء. وإذا كان هناك كثيرون، حتى من بين الإصلاحيين الإسلاميين، يتقفون مع الأصوليين في جانبٍ من هذا التصور، المتعلق بأنَّ معرفة الله مطلقة وشاملة، فإنهم يختلفون معهم في استغلال هذا للقفز إلى نتيجة خاطئة، تقول بأن الله حدد لنا كلَّ النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، تحديدًا نهائيًا عابرًا للأزمنة والأمكنة، بما لا يجب علينا معه الاعتماد على مصدر إنساني في صناعة هذا النظام وتطويره.
يؤمن الأصوليون بجاهلية العالم وبأنَّ الحضارة الغربية "إلحاد" والمجتمعات المسلمة انزلقت إلى هذه "الجاهلية"
كما ترى الأصولية أنَّ الإسلام نظام متناغم مع الطبيعة وفطرة الإنسان، ولذا فهو يتخطى كونه دينًا مجردًا بل تعبيرًا عن قوانين الكون، ولذا لا يجب الاقتصار في فهمه على الاعتقاد والتعبد والتعامل بين الناس إنما الإيمان بقدرته النهائية على تنظيم شؤون الحياة، والتصدي لمشكلاتها الآنية والآتية.
يطرح الأصوليون الدين بديلًا لكلِّ شيء، وهو لديهم الإطار والمرجعية النهائية التي يجب أن يعود إليها كلُّ تصور وتصرف، ولذا يبدون حرصًا على صبغ أي معرفة إنسانية، ولو حديثة أو معاصرة، بصبغة إسلامية.
صراع مفتوح مع العالم
من هذه الأصول المعرفية، تشكّلت المبادئ السياسية للأصوليين وقامت على أفكار مثل عالمية الإسلام، كونه رسالةً سماويةً خاتمةً، موجهةً إلى كل البشر بالرحمة والتوحيد، ليقرُّوا تصوُّرًا سياسيًا لا يؤمن بالحدود الجغرافية القائمة، ويرى أن العالم، بل الكون، هو وطن المسلم. ولهذا يطلب الأصوليون أن تكون "الدعوة" إلى الإسلام طوال الوقت، وتقوم على الحاكمية، التي تفرض عدم جمع الإسلام مع غيره في نظام سياسي واحد.
وفي سياق الصراع مع النظم السياسية الأخرى، يؤمن الأصوليون بجاهلية العالم، وبأنَّ الحضارة الغربية "إلحاد"، كما أنَّ المجتمعات المسلمة نفسها انزلقت إلى هذه "الجاهلية"، ما يعني غياب الإيمان بالله عنها، أو نقصه الشديد في نفوس أهلها، وانغماسها في حياة مادية صرف، وتطبيقها نظمًا سياسيةً واجتماعيةً واقتصاديةً وضعها البشر، وخضوعها لتصورات الغرب، فيما كان عليها ألا تذوب في غيرها، إنما تنهض لإنقاذه مما آل إليه.
من هنا، لا يقتصر مفهوم الجهاد لدى الأصوليين على "جهاد الدفع" الذي يتأسس على أنَّ الحرب لا تكون مشروعةً عقائديًا وأخلاقيًا إلا إذا كانت "دفاعية" و"عادلة"، إنما يمتد إلى "جهاد الطلب" الذي يعني استمرار "الفتح" و"الغزو" لمواجهة "الجاهلية" وهدمها وتغيير واقعها، بما يفتح الطريق أمام الاعتقاد في الإسلام، دون فرض هذا عنوة على غير المسلمين.
والسلام لديهم مشروط بحرية اعتناق كلمة الله، وعدم قتل المسلمين عند رؤيتهم لدينهم كنظام شامل للحياة، وعدم وقوف أي سلطة داعية لغير الله في وجه الدعوة، وتحقيق العدالة، فإن غابت هذه الشروط يجب أن يلجأ المسلمون إلى الجهاد.
وتنتهي الموسوعة في تحليل هذه النقطة إلى استنتاج مهم:
"أساس السلام وقاعدته عند الأصوليين، والمتمثلة بخضوع الجميع للنظام العالمي الإسلامي، بدون ابتزاز أو إكراه، تلك في الحقيقة وصفة لا يمكن تطبيقها إلا بقهر العالم وإخضاعه للمفاهيم السياسية عند المسلمين، وهكذا إذا تمكن المسلمون فعلًا في عصرنا الحاضر من السيطرة على العالم، ولهذا يقول الأصوليون إن الإسلام لا يهدف إلى إدخال جميع الناس في الإسلام، بل إلى إخضاع الجميع إلى نظامه.
وعليه فالحرية الدينية محفوظة للجميع، ولا ينكرها الأصوليون من حيث المبدأ، لكن على الجميع الخضوع للشريعة، إما بإقامة شعائر الدين وأركانه عند المسلمين، أو الجزية والمحاربة لغير المسلمين، فالإسلام السياسي يجب أن يسيطر على الحياة العامة، فعلى الرغم من أن دخول الإسلام هو عمل فردي وطوعي لا إكراه فيه، فإن الخضوع لشريعة الإسلام هو عمل فردي وجماعي يتأتي طوعًا وكرهًا".
من هنا، يرفض غلاة الأصوليين الديمقراطية ويرونها "نظام حكم وضعي كفري" يقرُّ بأنَّ السيادة للشعب وليست لله، ويجعل البشر يشرعون ويقررون من دون خالقهم. أما المعتدلون فيتعاملون معها باعتبارها مجرد وسيلة لتحصيل السلطة؛ فيقبلونها إجرائيًا، ولكنهم يحصرونها في صندوق الانتخابات، ويرفضون قيمها وجوانبها الثقافية.