بعد طول تفكير وتجريب، لا بد من وقفة مختلفة في النهج والتفكير والفهم للجماعات والتنظيمات التي تتخذ من الإسلام مشروعًا سياسيًا لها، أو تتخذ منه أيديولوجية، استنادًا إلى تصورات مصطنعة حول علاقة دين وليد بدولة لم تكن ملامحها اكتملت بعد في صدر الرسالة المحمدية، بل لم تكن تزيد عن العلاقة التقليدية بين شيخ القبيلة وأفرادها، وإن زدنا نقول بين شيخ مشايخ قبائل وكل الناس فيها، ساعين إلى من يقيم العدل فيهم، وينظم العلاقة بينهم، وهي مسألة أتقنها العرب.
لكنَّ هذه الملامح الأولية سرعان ما وجدت مَن يصنع لها إطارًا أكثر تماسكًا مع الأمويين، ثم العباسيين، وبعدهم العثمانيين. حتى إنَّ اللاحقين ظنوا الأفكار التي ولدت في ركابه، والممارسات التي أنتجها، هي بالضرورة السياسة في الإسلام، والتعبير المباشر والصحيح عن نص القرآن في الحياة العامة.
لذا يجب التعامل بجدية وعلمية مع هذه الإشكالية التي خلقها تأويل النص والممارسة في صدر الرسالة، ثم أيام الخلافة الراشدة، ومن بعدها المُلك الذي اتسع، ثم انقطع، ليعود هذه المرة في صيغة الجماعات السياسية الدينية، التي جعلت من أهدافها استعادة الخلافة، أو بناء الدولة الإسلامية أو "الدولة في الإسلام" تحت شعارات شاملة ترى في استعارة الرؤى القديمة حلًا لمعضلات معاصرة، وترفض من يحمل تصورات مغايرة.
الانتزاع المستحيل
تمكنت الجماعات السياسية الإسلامية من صياغة أيديولوجيا جذبت الكثيرين إلى طريق الدعوة سبيلًا إلى التغيير، وكذلك إلى طريق العنف، مستغلة في كل الأحيان انجذاب الناس إلى الدين، ومستغلة في بعض الأحيان الفراغ الناجم عن غياب المشروعات القومية المتكاملة التي بوسعها أن تشكل إطارًا يُحال إليه، وتُفسّر الأمور في ركابه، وتُستنبت منه الإجراءات والقرارات والخطط التي تتعامل مع المشكلات الراهنة، وتسعى إلى حلها.
من هنا، فإن أي تصور يريد إزاحة الإسلام السياسي تمامًا من مجتمعاتنا، باعتباره من الماضي، هو تلاعب بعقول الناس. فهو ما إن يخمد حتى ينشط، وما إن يترنح حتى يقف على قدميه، لأن عوامل وجوده التي تغذي استمراره لا تزال باقية، ربما بسبب التراكم التاريخي منذ الفتنة الكبرى وحتى اللحظة الراهنة، ما يجعل إبعاد ما فيه من سياسة محض خيال، لا سيما وأن النخبة الفكرية والسياسية التي تصدت لما وصفته بـ"الإسلام السياسي" استمرأت الحديث عن "فصل الدين عن السياسة"، وهو افتراض خيالي يحلق في فراغ، فالواقع أن الدين، أي دين سواء كان الإسلام أو المسيحية أو اليهودية أو حتى البوذية، ليس بوسعه أن ينفصل عن السياسة باعتبارها "شأنًا عامًا".
أما غير الافتراضي وغير الخيالي، وما ينبغي أن يكون، هو الفصل أو التمييز بين الإسلام والسلطة السياسية، وهذا يتم عبر سبيلين، الأول يتعلق ببناء الشرعيات، بحيث تحال إلى إرادة الأمم، لا الزعم بإتيان الحكم من السماء، أو ادعاء الحاكم بأنه يدير شؤون الدولة باسم الله.
والثاني هو عدم تحول الدين من عقيدة إلى أيديولوجيا، تحمل ما في سائر الأيديولوجيات من بؤس يتمثل في الجمود والأحادية ورفض التعددية وعدم قبول الآخر، بل وكراهيته ونبذه أحيانًا، وارتكاب الكثير من الأخطاء والخطايا انتصارًا للأيديولوجيا، بما في ذلك تمكين معتنقيها في مختلف مجالات الحياة، حتى لو كانوا غير مؤهلين لهذا.
ومثل هذا التصور الفاصل بين الدين والسلطة السياسية، الذي يمكن ترجمته في إجراءات واقعية، هو نافع للدين قبل أن يكون رافعة للسياسة. لأن ربط الحكم الدنيوي بإرادة الله، أو حاكميته، لم يؤدِّ عبر التاريخ إلا إلى بناء ثيوقراطيات تحمي أهل الحكم من المساءلة والمراقبة، ويعانى فيها المحكومون من عسف سلطة عطلت التفكير في إدارة المعاش الدنيوي على أساس عصري.
نقد لا نقض
لكن الجماعات السياسية الإسلامية التي تبني هي الأخرى شرعية تصفها بأنها "إلهية" ضد الشرعيات الأخرى، القائمة على النسب العشائري أو العقد الاجتماعي ممثلًا في دستور تقره الأمة، أو الإنجاز الذي حققه قائد ملهم وزعامة كاريزمية، أو حتى الشرعية الثورية التي تنتزعها حركة الجماهير العريضة طلبًا للتغيير.
كل هذه الشرعيات منبوذة أو مكروهة أو مُختلف معها عند أتباع الجماعات السياسية الإسلامية، الذين بلوروا عبر أدبيات تختلف حدتها وقدرتها على الإقناع والتجنيد والذيوع بين العموم، شكلًا مغايرًا للشرعية، يتمسكون به، ويقولون إنه قابل للتطبيق في الواقع المعيش، بل إنه في الحل والنجاة والبراح، ويمكنه إخراج الدول المسلمة من وهدة التخلف، ووقدة الاستبداد، وربقة الفساد.
أصبحنا، دون مواربة، أمام خطاب قادر على الاستمرار، وجذب الأتباع، شئنا أم أبينا، ولا طريق أمامنا سوى تفكيك كل ما تم تضمينه في هذا الخطاب من آثار "الإسلام التاريخي"، الذي نشأ في إهاب نزعة التملك والتحكم والسيطرة، بحثًا عن دين يُعلي من شأن امتلاء الروح، بتجليات الله في الكون، وإعلاء الأخلاق، بوصفها أقوى أساس في ترتيب معاش الناس في الحياة الدنيا، ونفع الناس بوصف أن المصلحة العامة يدور معها الشرع أينما دارت.
إنه تفكيك ضروري، بعد أن نسخ "تاريخ المسلمين" ماهية الإسلام، سواء بما دخل على الروايات القديمة، أو ترسخ عبر ممارسات تم تدوينها، وعاشت وصارت مع الأيام هي الجدار الذي يتم الاحتماء به، والإطار الذي يُحال إليه، والنقطة المركزية التي يجري الانطلاق منها.
إن هذا التفكيك، يجب أن يكون نقدًا وليس نقضًا، يستخدم مناهج العلم الحديث، ولا يقوم على جموح العاطفة، ولا يقع في فخ الإحن السياسية، ولا يسقط في الصراع حول السلطة والثروة والمكانة، ولا تسكنه روح التعالي والاستبعاد والإزاحة، ولا توجهه الإجراءات الأمنية القاصرة، ويُسند في عمومه إلى العلماء في الدين ومختلف العلوم الإنسانية، والعاملين على النهوض بمجتمعاتنا من المنشغلين بالسياسة والإدارة والاقتصاد وشؤون المجتمع، والمثقفين الذين يبحثون دومًا عن باب للخروج من ضيق الحالي إلى براح الآتي.