كثيرة هي المقالات والدراسات التي أُجريت حول الإعلام الذي تطلقه التنظيمات والجماعات السياسية الإسلامية، السلمي منها والمسلح. وانطلقت الكتابات شارحة وناقدة شكل الرسالة الإعلامية ومضمونها، ومحددة أدواتها ومن يصيغها ويطلقها ويتابعها، ثم الأثر الذي تتركه على المجتمع في العموم، وعلى جمهور تلك التنظيمات وأنصارها بوجه خاص.
لكن في الحقيقة لا يقف إعلام تلك التنظيمات عند حد هذه الرسالة المباشرة، إنما هو مشبع بالدلالات الأخرى، وبعضها أكثر ديمومة وأعمق تأثيرًا، من الحديث المباشر، عبر جعل الدين "مادة استعمالية" تستغل بعناية ومكر وإصرار شديد على هذا الدرب.
فهذه التنظيمات، خاصة الإرهابية منها، واعية تمامًا لمسألة توظيف الرموز والإشارات والألوان والصور في الدفاع عن تصورها، وجذب الأتباع إليها، وتوسيع مساحات التعاطف معها، لخلق مجال عام أو محيط اجتماعي إن لم يساندها فإنه على الأقل لن يعترضها، وهو ما يعد مكسبًا لها في حد ذاته، لأنها تراهن، كجزء من استراتيجيتها بالطبع، على أن يقف عموم الناس على الحياد، مخلين المساحة بينها وبين القوى السياسية والاجتماعية والأمنية الفاعلة، التي يدرك المتطرفون أنها تقف حجر عثر أمام وصولهم إلى السلطة.
إن الاكتفاء برصد وتحليل محتوى وشكل الرسائل الإعلامية التقليدية المباشرة للتنظيمات الإرهابية لا يكفي وحده لمعرفة إمكانياتها في الإشهار والجذب، وقياس مدى وعيها بتبني خطاب إعلامي يتعدى الوسائل العادية، التي لفتت انتباه أجهزة الأمن والباحثين والمحررين الصحفيين المختصين بتغطية قضايا العنف الديني والإرهاب، وينفذ إلى ما هو أبعد بكثير، إلى الذي يبدو للعيان صامتًا ساكنًا، لكنه في الحقيقة يصرخ بالكثير من المعاني التي تترجم أفكار المتطرفين والمتشددين والمنخرطين في عمليات عنف وإرهاب.
تبني الجماعات المتطرفة لمفهوم "الفرقة الناجية" إنما تريد منه إزاحة المفهوم المعاصر للمؤسسات والكيانات والتجمعات المدنية
جذور سيمائيات المتطرفين
لا ينبع خطاب المتطرفين والإرهابيين من العدم، إنما يتأسس على غيره، وإن كان ذلك الغير قديمًا مصمتًا في نظر دعاة إعمال العقل أو الداعين إلى التجديد في الفقه والتفسير والتأويل. فمثل ذلك الخطاب مفعم بالحركة والتجدد والفاعلية في نظر أهل التطرف، الذين يميلون إلى القديم أكثر، بزعم أنه "الصراط المستقيم" الذي من سار عليه الصحابة وأبناء الجيل "الفريد" و"الرباني".
لهذا فإن سيميائيات المتطرفين الحالية ليست ابنة زماننا فحسب، بل مستمدة من تصورات ما كانت ظاهرة في أزمنة بعيدة، وما كان يمور فيها لا يزال هؤلاء يعتقدون في صلاحيته المطلقة أو فائدته الأعرض في تشخيص مشكلات عصرنا وحلها. فالرموز والشعارات ومفردات العبارة التي كانت قائمة قديمًا تستعاد لتؤدي وظيفة آنية، مقطوعة الصلة بسياقها الزماني والمكاني، ومزروعة في بيئة اجتماعية وسياسية مختلفة.
فمفردات مثل "الراية" لا "العلم"، و"السيف" لا "البندقية"، و"الفرقة" لا "الشريحة" أو "الفئة" أو "الطبقة"، هي الأكثر تداولًا عند تلك الجماعات، وهي ليس مفردات جوفاء، إنما مشحونة بدلالات قوية، يمكن توظيفها من دون عناء في سبيل تحقيق أهداف تلك التنظيمات.
فعلى سبيل المثال، فإن تبني الجماعات المتطرفة لمفهوم "الفرقة الناجية" وزعم كل جماعة منها أنها التي تمثلها، إنما تريد منه إزاحة المفهوم المعاصر للمؤسسات والكيانات والتجمعات المدنية، أو التي ليست بالضرورة على أساس ديني، أو تريد تلك الجماعات ادعاء أن مثل تلك الفرقة بحمولاتها الدينية الطاهرة وحدها الجديرة بالثقة في الممارسات الدنيوية.
إن كثيرًا من الثقافات تسعى وراء جذورها لإثبات أن ما هي عليه لم يولد من فراغ، إنما تفهم أو تعي الفوارق الزمانية والمكانية والسياقية، بينما يتوهم المتطرفون في كل اعتقاد أو ثقافة أن القديم هو وحده الأصلح للاستعمال والتداول، ولهذا يتحول كل قديم إلى "رمز" سواء كانت قيادات تاريخية أو اتجاهات دينية أو كتبًا ألفها السابقون، بل يتحول أفراد إلى ما يتعدى شخوصهم ليصيروا رموزًا كاملة تطلق عليهم ألقاب شاملة كاسحة من قبيل "حجة الإسلام" و"شيخ الإسلام" و"حبر الأمة" كذلك "الغوث" و"القطب".. إلخ.
سيميائيات حديثة للجماعات الدينية
توقف كثيرون عند شعار جماعة الإخوان الذي يتكون من سيفين متقاطعين بينهما مصحف وكلمة "أعدوا"، ليستدلوا من ذلك أنها منذ انطلاقها على يد مؤسسها حسن البنا عام 1928، وهي تضع نصب عينيها استعمال القوة المادية بغية تغيير المجتمع، ثم الدولة، وفق رؤيتها ومسارها.
فمثل هذا "الرمز" بكل ما تحمله مفرداته من دلالات عنف يعكسها السيفان والكلمة، وتستعمل صورة المصحف واللون الأخضر الذي يرمز إلى الخير والنماء والازدهار إطارًا تبريريًا، عاد إليه كثيرون ليؤكدوا أن ما ستسلكه الجماعة إن تمكنت يختلف عما تقوله وتفعله في أيام ضعفها وصبرها.
فكل المداراة ليس بوسعها أن تعمي عن قول البنا "قوام هذا الدين مصحف يهدي وسيف ينصر"، فهذا القول لرجل، يعلو قوله أو ما ينسب إليه على ما عداه عند أتباعه، يكون نصًا يعزز رمزًا يظل فوق صورة أو لافتة ليقر أن السيف مع المصحف، أما في الممارسة أو الواقع العملي، فقد غلب الأول الثاني.
لا يختلف الأمر كثيرا مع الجماعة الإسلامية المصرية التي جعلت دفتي المصحف موزعة على جانبي السيف الذي يمتشق أمام شمس مشرقة ليصل إلى آية قرآنية هي "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله"، وبعد إطلاق مبادرة وقف العنف عام 1997، وبدء التفاوض مع الأجهزة الأمنية، تم رفع السيف، ووضع آية قرآنية بديلة هي "وأقيموا الدين ولا تفرقوا فيه"، لتبقى ويعود السيف بعد ثورة يناير، استجابة لدعوة سرت بين قادة الجماعة وصفوفها بأن الاتجاه السياسي الذي سلكته عبر حزب اسمه "البناء والتنمية" يحتاج إلى قوة تحميه.
ورغم أن بعض قادة الجماعة ظلوا مخلصين في صمت للشعار القديم، وعادوا إلى العنف بعد إسقاط حكم الإخوان في يوليو/ تموز 2013، فإن قيامهم، عبر ذلك التفاوض بوضع آية أخرى، كذلك إزالة السيف، يعكس إدراكهم للدور الذي تلعبه الرموز في حياة أي جماعة أو تنظيم.
أما جماعة الجهاد فشعارها فارس يتمطي جواده وفي يسراه راية سوداء ويمناه سلاحه، زعمًا منها أنها راية الرسول محمد وأنه كان يعتمد السيف طريقًا للتغيير والتمكين، مع أن كل الحروب التي جرت في عهده كانت دفاعية، والقرآن نفسه لم ترد فيه الحرب إلا في سياق دفع عادل.
وظل هذا الشعار بكل حمولاته يسري مع مختلف التنظيمات الجهادية حتى وصل الأمر إلى "القاعدة"، قبل أن ينتقل "تنظيم الجهاد" نفسه، إلى رمز آخر، يتمثل في مصحف يتوسط بندقيتين آليتين، وذلك عام 1994 قبل أن تتخذ ما تسمى (الجبهة العالمية ضد اليهود والصليبيين) المعروفة إعلاميًا وأمنيًا باسم "تنظيم القاعدة" في عام 1998، شعارًا آخر هو راية سوداء مكتوب عليها "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، زاعمًا أنه لون الراية التي اتخذها الرسول لجيش المسلمين في بداية الدعوة، واستمر الشعار نفسه مع تنظيم الدولة الإسلامية.
وإلى جانب الشعارات توظف تلك الجماعات والتنظيمات الصور في إقرار صورة ذهنية عنها، تريد نشرها وترسيخها، كي تعكس بها قوتها وجبروتها، مثلما رأينا في صورة حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، كذلك صورة المسيحيين المصريين وهم يجثون على ركبهم وقد مدوا أعناقهم إلى الأمام ليضربها سياف داعشي، ثم تظهر الصور كيف تخضب شاطئ البحر الذي يقابل مكان الإعدام الوحشي ذلك بالدماء. وهاتان حالتان صارختان بينهما أخرى كثيرة، ويهتم التنظيم بتوظيف الصورة في خدمة أغراضه.
أما عن الهيئة فكثير من الجماعات تحرص على تمييز نفسها عن سائر الناس، كذلك عن نظيراتها من الجماعات الأخرى، سواء بالزي، الذي يكون قصيرًا عند قطاع من السلفيين. ويميز أتباع جماعة التبليغ والدعوة أنفسهم عن البقية بالطرف الذي يتدلى من عمامتهم، ويسمونها "العزبة"، ويحرص السلفيون عمومًا على أن تكون لحاهم طويلة، وشواربهم حليقة، بينما يميز الإخوان أنفسهم باللحى القصيرة والشوارب المشذبة. ورأينا الزي الأسود مع تنظيم الدولة الإسلامية، ليس فقط لدى النساء اللائي يطلق عليهن "الغرابيب السود" لكن الرجال أيضًا. وكل هذه تمثل كلامًا غير منطوق.
من يتابع خطاب الجماعات يجد قادتها ووعاظها يوظفون أجسادهم في الإقناع والتخويف والترهيب
دلالات لغة الجسد
لم تقف سيميائية التنظيمات المتطرفة عند توظيف العبارات التراثية المشحونة بالدلالات، وتعدت كذلك الرايات لتمتد إلى توظيف لغة الجسد في تحقيق الأهداف التي تصبو إليها، والتعبير عن الرسائل التي تسعى لإيصالها في أوقات معينة، فمن يتابع خطاب تلك الجماعات يجد قادتها ووعاظها يوظفون أجسادهم في الإقناع والتخويف والترهيب والوعيد في حال قوتهم، وفي التودد والتقرب حين يكونوا ضعفاء، بغية كسب التعاطف لحين حيازتهم قوة أو استردادها.
وعرفت هذه التنظيمات عبر تاريخها كثيرًا من وعاظ وقادة خاطبوا الجماهير في لقاءات مباشرة أو عبر التليفزيون، وأخيرًا الإعلام الإلكتروني، كانوا بارعين في استخدام لغة الجسد، إما لتساعد كلامهم المنطوق على تحقيق أهدافه، وإما أن تعبر في حد ذاتها عن الكثير من المعاني والأفكار، بينما هم صامتون.