ربما لم تعرف حركة احتجاج سياسي/اجتماعي أشكالًا من التوالد والانقسام والتشرذم مثلما عرفت الجماعات الإسلامية. ليس في العصر الحديث فحسب، بل طيلة تاريخ المسلمين تقريبًا، إذ سيطر على الحركات والجماعات والتنظيمات السياسية الإسلامية المتطرفة ميل إلى الانشطار، ثم الاندماج أو التوافق الظاهري بغية تحقيق مصالح مؤقتة، وبعدها التفرّق من جديد، حتى إنَّ عدد التنظيمات الإسلامية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي بلغ في مصر نحو 70، تتفاوت من حيث القوة والتأثير والذيوع.
ولم تتخلَّ الحركات الإسلامية عن هذه النزعة حتى وصلنا إلى العقود الأخيرة. فمنذ قيام جماعة "الإخوان المسلمين" عام 1928 وهناك جماعات ومجموعات تنشق عنها أو تخرج عليها إثر اختلاف النهج. وتعود هذه الظاهرة إلى عدة أسباب، أغلبها سياسي.
لماذا انشطرت الجماعات؟
أول هذه الأسباب هو الاختلاف حول تأويلات النصوص القرآنية والنبوية وتفسيرها؛ وهذا الاختلاف صنع مسارات اتخذت من هذه النصوص مرجعًا أو إطارًا نظريًا، يُحال إليه في تحديد الشرعية والمشروعية الدينية لتصرف أو فعل ما.
ورغم أنَّ التأويل والتفسير في النهاية عملان بشريّان، فإنهما يشكّلان أيديولوجية التنظيمات السياسية الإسلامية، التي تختلف عن الأيديولوجيات والفلسفات الإنسانية السائدة التي لا يرى أتباعها أنها موصولة بالسماء. وطالما قاد هذا الوهم تلك الجماعات إلى التفرق بفعل الصراع على من يمثل منها "صحيح الإسلام".
لم يمنع التزام أتباع هذه التنظيمات بالبيعة لمن يختارونه أن تنشب الصراعات على النفوذ والتحكم والسيطرة
أما السبب الثاني فيتعلق بتفاوت المصالح وتصارعها؛ التي تزداد كلما طال بقاء الجماعة، ليصبح طبيعيًا الدفاع عنها والصراع حولها. وداخل الجماعة الواحدة يقود هذا إلى غبن، يمكنه أن يتصاعد إلى انسحاب أو انشقاق. وعلى مدار سنوات كانت بعض قيادات جماعة الإخوان تخرج منها لهذا السبب، وكان يطلق على هذا الأمر "خلاف إداري"، لأن الخارج يحمل الفكر نفسه، لكنه مغبون من عدم استفادته بالقدر الذي ينتظره سواء في موقعه التراتبي داخل صفوف الإخوان أو ما يحصل عليه من منفعة مادية.
بدت "الجماعة الإسلامية" وبعدها "تنظيم الجهاد" مع ظهورهما في صعيد مصر خلال سبعينيات القرن العشرين، وكأنهما يمثلان قاعدة أوسع من الطبقات الفقيرة، في مقابل جماعة الإخوان، التي وإن لم تخلُ من الفقراء بالطبع، أصبحت، بطريقة انتقاء من ينتمون إليها وبإمكاناتها المادية مع تضخمها، تمثل البرجوازية وشرائح من الطبقتين الوسطى والعليا في المجتمع.
سبب التشرذم الثالث هو التنافس على القيادة؛ فلم يمنع التزام أتباع هذه التنظيمات بالبيعة لمن ينصبونه أميرًا أو يختارونه مرشدًا، أن تنشب الصراعات على النفوذ والتحكم والسيطرة، لا سيما في المواقع التي تلي الرجل الأول فيها، مثلما كان يوصف مرشد الإخوان الدكتور محمد بديع بأنه واجهة لنائبيه خيرت الشاطر ومحمود عزت.
وقادت رغبة قادة تنظيم الإخوان بكثير من البلدان في أن يكون لهم قدر من الاستقلال عن المركز إلى إعطاء صلاحيات واسعة للمراقب العام، وهو رأس التنظيم في كل بلد، على حساب صلاحيات المرشد بالمركز الرئيسي، حيث مكتب الإرشاد، في مصر.
وبعيدًا عن الإخوان، رأينا النزال الذي وقع بين عمر عبد الرحمن أمير الجماعة الإسلامية وعبود الزمر قائد تنظيم الجهاد في التسعينيات، على أولوية إمارة التنظيمين إن اتَّحدا أو نسَّقا فيما بينهما، وسُمِّيت وقتها "معركة الأسير والضرير".
أما السياقات السياسية الداخلية، فكانت السبب الرابع لانقسام الجماعات الإسلامية، فمع اختلاف الظروف بين الدول التي تحلُّ فيها فروع الإخوان، إلى تخفف القيادات الفرعية تدريجيًا من التبعية الكاملة لقيادة "الجماعة الأم".
ويرتبط ذلك بالاستقطاب الخارجي، الذي تسبب بدوره في انقسامات كبيرة. فالأطراف الخارجية كثيرًا ما تصنع تنظيمات، لا تخلقها من عدم إنما تغذي رغبات الانشقاق داخل تنظيمات موجودة بالفعل. ولعل الحالتين السورية والليبية اللتين واكبتا دخول الجماعات الإسلامية المسلحة في صراع ضارٍ ضد السلطة الحاكمة تحول إلى حرب أهلية، هو المثل الصارخ على الاستقطابات التي جرت في ساحة داخلية لتنظيمات متطرفة.
ورغم أن الانقسام يبدو أمرًا معتادًا بالنسبة للتنظيمات الأيديولوجية المغلقة، يمينية كانت أو يسارية، فإن التي تتوسل بالدين الإسلامي منها تتسم بأمرين: قدرة هائلة على إدارة الصراع الداخلي بين جماعاتها صاحبة المشروع السياسي، وإمكانية الاستمرار على قيد الحياة والفعل السياسي العنيف، ولو إلى بعد حين.
ومهما قصر الوقت أو طال، أو قلَّ عدد المنضوين تحت لواء التنظيمات الصغيرة أو الهامشية أو كثُر قليلًا، فإن قدرتها على الإيذاء تبقى قوية، في ظل إصرارها على إطلاق موجات متلاحقة من فرق الرفض والخروج على السلطة، وأحيانًا الغبن من المجتمع.
وكانت لهذه الحركات قدرة على التشرنق لحماية نفسها، والتحايل عبر التقية والصبر الطويل على ظروف قاهرة فرضتها السلطة السياسية أو الاجتماعية، ثم اللجوء إلى "النزال المسلح" إذا دعت الضرورة، أو استشعرت أنَّ ساعدها اشتدَّ، أو آمنت بأنَّ هذا وحده طريق التغيير، أو اعتقدت أنَّ استخدام القوة المادية العنيفة هو المسار الذي يحبذه الشرع.
جماعات تأكل نفسها
ومن يتتبع وجود هذه الظاهرة، واستمرار أبعادها وتعدد حالاتها لدى الحركة الإسلامية المسيسة بدءًا من انشقاق شباب محمد عن جماعة الإخوان المسلمين وحتى خروج داعش من ضلع القاعدة، يجد أنها قادت إلى آثار أو نتائج مهمة.
أولى هذه النتائج كان افتقاد قوة الدفع في اتجاه تحقيق أهداف ما يسمى "المشروع الإسلامي"، الذي ترى هذه الجماعات أنه لن يتحقق كاملًا وشاملًا إلا بوصولها إلى الحكم، وتعبئة موارد الدول التي تحكمها في سبيله.
فالتصدع والتآكل والتناحر الداخلي ثم الانقسام، جعلت جزءًا كبيرًا من بأس هذه التنظيمات واقعًا على بعضها البعض، بدلًا من أن يقع على الأطراف التي تراها هي "العدو" أو على الأقل "العقبة" في سبيل تحقيق هدفها الأكبر.
هذه الظاهرة مرض مزمن يصيب الحركة السياسية الإسلامية ولا يلوح في الأفق ما يدلُّ على أنها ستبرأ منه
كما أدت هذه الصراعات إلى فقدان المصداقية والثقة؛ فهذا الخلاف والانقسام تبعهما تبادل اتهامات، وكشفا أسرارًا داخلية، بعضها يجرح بقسوة الصورة النمطية التي تريد هذه التنظيمات أن تعرضها عن نفسها، ويُظهر تناقض الكثير من أفعالها مع الخطاب الذي تتبناه، والأقوال التي تطرحها.
وبالطبع فإن هذا أثَّر سلبًا في قدرتها على تجنيد آخرين، وتعبئة قطاعات أعرض من الشعب للتعاطف معها، سواء كانت تنتهج العنف أو تنخرط في العمل السياسي السلمي.
كما أدى تصاعد الخلافات الداخلية، التي كانت السلطات الحاكمة تتابعها بدقة، إلى إمكانية استغلالها وإدارتها، عبر تحويل أجنحة من هذه التنظيمات إلى "جماعات وظيفية" يصبُّ جهدها في غير السبيل الذي ترمي الجماعة الرئيسية إلى السير فيه حتى بلوغ الهدف. كما عطلت هذه التصدعات والانقسامات قدرة هذه الجماعات على تطوير خطابها السياسي.
والسؤال الذي يثار في خاتمة المطاف: هل تستمر ظاهرة التوالد والانشطار هذه مستقبلًا بالوتيرة نفسها؟
الحقيقة أنَّ هذه الظاهرة مرض مزمن يصيب جسد الحركة السياسية الإسلامية وعقلها وقلبها، ولا يلوح في الأفق ما يدلُّ على أنها ستبرأ منه، لأنَّ الأسباب التي تؤدي إليها لا تزال قائمة.
وهذه الجماعات والتنظيمات، شأنها شأن التنظيمات الأيديولوجية المغلقة، تميل إلى خلاف يقود إلى انقسام وخروج، سواء كانت في مرحلة الهزيمة، حيث يتم تبادل اللوم والتوبيخ بين القيادات، وبين هؤلاء والقواعد، حتى لو تم إظهار التماسك في البداية خوفًا من انهيار شامل للتنظيم، وتمكين خصومه منه، أو في مرحلة الانتصار، حيث يظهر الصراع حول "الغنيمة"، علاوة بالطبع على التنازع التقليدي المحتدم دومًا حول تمثيل "الإسلام السياسي" أمام عموم الناس.