تصوير: خالد منصور - بإذن خاص للمنصة
استعراض عسكري لهيئة تحرير الشام في ساحة الأمويين، دمشق، ديسمبر 2024

رسالة من سوريا الجديدة| تمارين السير على حبل مشدود

هيئة تحرير الشام من القاعدة وداعش إلى قصر الشعب

منشور الجمعة 17 يناير 2025

أسير في شوارع الشام(*) القديمة فألتقي بين الحين والآخر جنود إدارة العمليات العسكرية، وهي الميليشيات التي تسيطر على العاصمة السورية بقيادة هيئة تحرير الشام التي يجلس قائدها في قصر الشعب الرئاسي. وعلى عكس من وجدتهم يحرسون الحدود التي عبرتها بعد الغروب، وبدا بعضهم في الأربعينات والخمسينات، وجدت معظم الجنود المنتشرين داخل دمشق شبابًا في العشرينات أو أوائل الثلاثينات، مهندمي الزي العسكري في الأغلب، ويرتدون ملابس مدنية في أحيان. تتدلى مدافع كلاشنكوف من أكتافهم وأغلبهم ملثمون.

يوزّع الجنود المنتشرون في شوارع دمشق ابتساماتهم المهذبة وهم يحرسون المحتفلين بالكريسماس والساهرين في المطاعم والبارات. يقفون على مقربة من التظاهرات في ساحات المدينة، ينتشرون في الأسواق الكبيرة، مثل سوق الشعلان في وسط المدينة بالقرب من شارعي الحمرا والصالحية الحيويين، وسوق الحميدية في قلب المدينة القديمة. يبتاعون شرائحَ لموبايلاتهم، أو يعطون بنادقَهم لصبيةٍ وفتيات ليلتقطوا صورًا معهم وهم يحملونها. يشترون ساندوتشات شاورما أو يتناولون الفول وفتة الحُمُّص في مطعم بوز الجدي الشهير، في فرعه الرئيسي بحيِّ الميدان الشعبي العريق.

يبدو المشهد كله سرياليًا في بعض الأحيان، خصوصًا عندما يقف بعضهم بتراخٍ في ساحة الأمويين، ومن حولهم يتحلق فتية وفتيات، وإلى الجوار رجل يرفع صليبًا مع آخر يرفع مصحفًا، بينما يشرف جندي ثالث على المنصة التي تذيع أغاني مطرب الثورة عبد الباسط الساروت.

قد تسمع خبرًا أو تشاهد فيديو عن انتهاكات ارتكبها مسلحو هيئة تحرير الشام منذ تمام سيطرتها المفاجئة على البلاد الشهر الماضي، بعد زحف مذهل تساقطت معه المدن التي كان يسيطر عليها الأسد واحدة تلو الأخرى. لكنَّ نمطَ هذه الانتهاكات حتى الآن، بعد شهر على فرار بشار وتبخر جيشه، لا يبدو متكررًا أو واسع النطاق. وعادةً ما تلي كلَّ حادثة تفسيراتٌ أو اعتذاراتٌ سريعة. وإن كان ارتفاع وتيرة هذه الانتهاكات وفضحها على السوشيال ميديا يزدادان مع الوقت.

علم سوريا الجديد في سوق الحميدية، دمشق، ديسمبر 2024

يثير ذلك، بالإضافة إلى بعض القرارات المرتبكة، قلقًا مُبررًا، مثلما حدث وقت حرق شجرة عيد ميلاد قرب حماة، أو عند محاولة تغيير مناهج التعليم لإزالة تمجيد النظام السابق فانزلقت إلى تبنّي وجهات نظر محافظة اجتماعيًا أو محل جدل تاريخي. وكذلك التصريحات المفاجئة من مسؤولين جدد حول وضع المرأة أو العلاقات مع إسرائيل، والأعمال الانتقامية ضد أشخاصٍ يُزعم تورطهم في مجازر أو أعمال عنف واسعة النطاق لحساب النظام السابق. ويشتد القلق في أوساط الأقلية العلوية في مناطقهم الساحلية في محافظتي اللاذقية وطرطوس شمال شرق البلاد.

بعض من هذه التقارير خاطئ أو مُضلل عمدًا، وبعضها يعيد تدوير أحداث قديمة، ولكنَّ قسمًا لا يستهان به منها حقيقي. وتلعب منصة تأكَّد السورية للتحقق من صحة ودقة الأخبار دورًا مهمًا في هذا الصدد، غير أن الأمر يتطلب عملًا صحفيًا جادًا ومستمرًا في أنحاء سوريا، لمعرفة الوقائع وتوثيقها وفهم ما إذا كانت تمثل ظاهرة هناك من يدعمها، أم أنها حوادث وحالات فردية.

هل حقًا سوريا ليست مصر أو إيران؟!

هناك ارتباك واضح لدى سلطة الأمر الواقع الجالسة في مقاعد الحكم بقوة السلاح. فرغم الاعتدال والحنكة البادية في تصريحات مسؤوليها، تظل هناك مخاوف عميقة خاصة لدى كثيرين من تكرار السيناريو الإيراني في 1979، عندما أزاح الإسلاميون، بدموية، حلفاءهم في الثورة على الشاه الديكتاتور بعد وقت قصير من خلعه، وتأسيس حكم الولي الفقيه. أو محاولات الإسلاميين المتعجلة والفاشلة للسيطرة على الحياة العامة والهيمنة على مؤسسات الدولة في مصر وتونس، واستبعاد حلفاء الأمس في ثورتي البلدين وصبغ التشريع بلون محافظ، وهو السلوك الذي أسهم مع أسباب أخرى في إعادة النظامين القديمين، لكن بثوبٍ جديدٍ أكثر شراسة.

مع كل هذا، أعتقد أن هيئة تحرير الشام أظهرت مستوىً عاليًا من الخبرة السياسية والاستماع لصوت الشارع والفئات المختلفة والدول المعنية، ولم يتجاوزها في مهارة إدارة الواقع الجديد المؤقت الهش سوى ملايين السوريين الذين تحاشوا الانزلاق في مسلسل انتقامي رغم تركة الانتهاكات الثقيلة التي خلفها النظام الأسدي خلال 53 عامًا من القمع الدموي، الذي أضيفت إليه انتهاكات الفصائل الإسلامية وغيرها من الميليشيات المسلحة خلال العقد الماضي. 

غير أن تلك الرزانة النسبية لا تعكس مدى هشاشة الوضع، لأن حركة خرقاء واحدة كافية ليتبدل الحال. في أكثر من مكان زرته في دمشق خلال أعياد الميلاد/الكريسماس، تخوفت من حركة كهذه: قنبلة يلقيها أحمق داخل كنيسة يحتفل رعيتها بالعيد، أو شبيح سابق يمطر جنود الميليشيات الإسلامية المسيطرة بالنار أثناء استعراض ساحة الأمويين، أو عميل لدولة أو ميليشيا خاسرة أو سلفي جهادي رافض لتحولات فريقه يفتح النار خلال حفل كورال في أرض المعارض، خطف صحفي أجنبي.. إلخ.

عمل صغير وسهل التنفيذ، عشوائي أو مقصود، سيكون أكثر من كافٍ لإيقاف هذه الحفلة الدائرة وإطفاء زخمها البهيج، حتى لو كانت خسائره المباشرة ضئيلة، قد يوقع البلاد في مأزق كبير ويفتح هوة عميقة تحت أقدام السوريين المنهكين، بملايينهم السبعة المُهجرّين قسرًا، الذين يرغب معظمهم في العودة، خاصة من دول الجوار.

انتصرت المعارضة أم فشل الأسد؟

أحد عناصر المعارضة السورية المسلحة في دمشق، 8 ديسمبر 2024

يرى سيلڤان سبيل وباتريك هاني وسارة قريرة في تحليل لنشأة وتحولات الهيئة على موقع أوريان 21، أن نجاح مقاتليها الذين لا يتعدون 15 ألف شخص في إلحاق هزيمة ساحقة بالجيش السوري خلال عشرة أيام، كان بسبب "بيروقراطية عسكرية فاشلة، وسلسلة قيادية عاجزة وأوامر لا تصل إلى المأمورين. كما لم يكن هناك تواصل بين الخطوط الأمامية ومستودعات التخزين. وهكذا، لم يكن الجيش في مواجهة الحرب الخاطفة التي شنتها قوات المتمردين قادرًا على إعادة تجميع صفوفه. أما على الأرض؛ امتنع الجنود عن القتال، وتعطلت الدبابات بسبب نقص الوقود، بعد أن بيعت الاحتياطات في السوق السوداء من قبل الجنود، وهم غالبًا من المجندين الشباب السنة، ومن قبل ضباطهم الذين يتقاضون أجورًا زهيدة. ومع اقتراب المعارك من حمص، لم تعد الميليشيات العلوية مستعدة لتحمل المزيد من سفك الدماء في صفوفها".

كان هناك فشل عسكري أسدي أكثر منه انتصار وتحرير من جانب الهيئة. وكان هناك أيضًا دعم تركي فائق الأهمية على مدى سنوات، إضافة لتواطؤ أمريكي عن طريق قصف ميليشيات عراقية شيعية مؤيدة لنظام بشار الأسد، أو تحريك ميليشيات جيش سوريا الحر من قاعدة التنف جنوب شرق البلاد، أوائل ديسمبر/كانون الأول الماضي، وفق عدة مصادر.

ربما كان إنجاز الهيئة الأكبر هو التحول الأيديولوجي والخبرة في إدارة تجمعات سكانية ليستْ بالصغيرة على مدار سنوات؛ ما جعلها مستعدة للوصول لسدة الحكم.

بدأت تحولات الهيئة الأيديولوجية قبل ثماني سنوات، ومن كانوا يتابعون أخبارها عن قرب لم يُدهشهم سلوكها الحذر والحامي للأقليات، ومنع وقوع أعمال سلب ونهب وانتقام ضد أهالي المدن التي دخلوها بغض النظر عن طوائفهم، وتحاشي أي صدامات مع الأكراد، بل وتبني لغة واقعية إزاء الغزو الإسرائيلي المحدود والقصف المتواصل لما تبقى من أصول المؤسسة العسكرية السورية، خاصة ما يشتبه في أنها بقايا مخزونها من الأسلحة الكيماوية. وبرز الشرع بتصريحاته الماهرة المعتدلة حول قضايا سياسية معقدة.

من السلفية الجهادية للشافعية

بعكس بعض المراجعات السطحية التي جرت في صفوف الجماعات الجهادية في مصر وليبيا،  يبدو أن هيئة تحرير الشام لم تغير فقط اسمها، من جبهة النصرة، بل خاضت تحولات متعددة منذ 2017. بدأت بقطع صلاتها التنظيمية مع القاعدة والدخول في مواجهات دموية مع داعش، ثم تحوّلت مذهبيًا إلى الشافعية وتصالحت مع الطرق الصوفية.

كما أن الحركة شكَّلت حكومة ومؤسسات في إدلب، كانت هي مفرخة المسؤولين الحاليين في حكومة تسيير الأعمال، ومنهم رئيسها محمد البشير، وهو أكاديمي ومهندس ذو خلفية إسلامية، ولكن ليس له ماضٍ إسلامي راديكالي، وفق تحليل أوريان 21.

الاختبار الأصعب هو كيف ستدير هيئة تحرير الشام العملية الانتقالية

كما تولت وحدات خاصة من الهيئة "تعقب الخلايا المتبقية من تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية"، والعمل مع رجال الدين المحليين وخطباء المساجد، والسماح "بالاحتفال بالمولد النبوي وجلسات الذكر الديني وزيارة أضرحة الأولياء".

وبعد 2020 قدمت الهيئة بوادر حسن النية تجاه الأقليات من المسيحيين والدروز الواقعين تحت سيطرتها.

كل هذا، يجعلنا لا نستغرب تصريحات الشرع، كما يشير كل هذا أيضًا إلى تحولات عميقة في تفكير الهيئة، دون أن نقلل من تأثير وأهمية تاريخها الديني وتشدد بعض أجنحتها التي ربما خفت صوتها مؤقتًا ولكنها لم تختفِ تمامًا. ومن هذا المنطلق، يجب النظر إلى التصريحات المطمئنة للأقليات باعتبارها مؤشرَ تحوُّلٍ فعليٍّ، لا مجرد مغازلة للمحيط الإقليمي والمجتمع الدولي الخائفين من ولادة نظام جهادي في قلب بلاد الشام.

كما لا يمكن إغفال الدور التركي في إنجاز هذا الانتقال الأيديولوجي، الذي باتت معه الهيئة أقرب للفكر الإسلامي الوسطي. ما زال على الهيئة إنجاز الكثير على صعيد التحول الأيديولوجي، وكذلك رؤيتها لدورها المستقبلي في حكم البلاد، حيث يستحيل أن تنفرد بالسلطة طويلًا.

كما أن الهيئة تفتقر للكوادر الكافية للسيطرة عسكريًا وسياسيًا وأمنيًا على كل سوريا، خاصة لو انتهى شهر العسل وتبلورت توجهات مناطقية وعرقية وطائفية معارضة أو عنيفة.

سيكون الاختبار الأصعب هو كيف ستدير هيئة التحرير العملية السياسية الانتقالية، وهل سيمكنها التأكيد الفعلي، وليس التصريحات، على أنها لا تعمل على إقامة دولة دينية، حتى وإن استمرت في استلهام القيم والشريعة الإسلامية في عملها السياسي، وهناك فرق ضخم بين الطريقين.

سيكون هذا تمرينًا في السير على حبل مشدود، يمكن أن تساعد فيه أو تقوضه قوى سوريِّة متعددة، بينما تتحلق حول هذه الساحة، بل وتوجد بداخلها، قوى إقليمية ودولية متضاربة المصالح، ولكنها معنية أيضًا بكيفية إظهار الهيئة قدرتها وأهدافها بشكل واضح وفعلي.

سوريا لا شك انتهت من شهر العسل الممنوح لهيئة تحرير الشام، والجميع الآن في مرحلة الاختبارات الصعبة.


(*)بالعامية السورية، يُشار إلى العاصمة دمشق باسم "الشام".

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.