قُبيل عملية طوفان الأقصى، كانت أطروحة أفول نجم الإسلام السياسي أو نهايته، التي لطالما تردد أنها وشيكة ومحققة، تهيمن على السجال القديم/الجديد حول مستقبل الإسلام السياسي، بعد عقد التحولات الكبرى في تاريخه، عندما جرَّب السلطة وواجه الفشل.
فالانكسارات التي مُني بها الإسلام السياسي السُني خلال العقد الماضي، وأهمها تجربة الإخوان المسلمين في مصر، والإطاحة بهم من السلطة في تونس وانحسارهم في المغرب وغيره، وتراجع الجهادية العالمية برأسيها؛ القاعدة وداعش، جعلت من عودة الإسلام السياسي بتنظيماته وجماعاته المختلفة أمرًا مستبعدًا، رغم تحقيقها بعض النجاحات مثلما فعلت حركة طالبان التي عادت للسلطة في أفغانستان بعد 20 عامًا من التفاوض والقتال.
وفي حين سادت نظرة نهاية الإسلام السياسي بصورته التقليدية، حتى داخل جزء لا يتجزأ من المعسكر المؤيد له، جاءت عملية طوفان الأقصى التي قادتها حماس، لتغير الإجابات الجاهزة بشأن نهاية الإسلام السياسي، وتقترح طريقةً أخرى للنظر إلى انكساراته باعتبارها عثرة على دربٍ لم ينته بعد.
فالطوفان الذي انطلق بصورة مفاجئة في قلب دولة الاحتلال، تزامن مع تحولات ديناميكية تتم في إطار الحالة الإسلامية الحركية، كان من بينها طرح جماعة الإخوان مشروعها السياسي بما يحمله من تباين واختلاف في وجهات النظر بين جبهتي صلاح عبد الحق ومحمود حسين، وعودة داعش لتبني نهجه الجهادي القديم الأقل تشددًا في ما يتعلق بالتكفير، واستعادته بعض الزخم.
في سياق هذا المشهد، منَّت قوى الإسلام السياسي نفسها بإمكانية الرجوع إلى المشهد مرة أخرى، بعد أن أثبتت لها عملية طوفان الأقصى أنَّ سقف الممكن ما زال عاليًا، كما أعادت إلى الأذهان فكرة الصراع التاريخي بين الشرق والغرب، بما له من رمزية لدى الإسلاميين.
العودة إلى المربع الأول
على أن جماعات الإسلام السياسي الرئيسية كالإخوان، والجهاديين المُعولمين (داعش والقاعدة)، كانت تحاول، قبل الـ7 من أكتوبر، إنهاء حالة اللا فاعلية التي عاشت فيها بعد انكساراتها الدراماتيكية بعد سقوط نموذجها للدولة التي ظلت تروج له.
ولعل أبرز هذه المحاولات كانت المراجعات الجزئية التي انخرط فيها منتسبو الحركات الإسلامية لأدائها واستراتيجيتها، وسعيهم لإعادة بناء وترميم التنظيمات الحركية التي يعملون في إطارها، فجبهة صلاح عبد الحق داخل الإخوان تبنت خطابًا سياسيًا مغايرًا أبدت فيه استعدادها للتصالح مع النظام المصري مقابل إطلاق سراح سجناء الجماعة، كما أقدمت الجماعة بجبهتيها على إجراء تغييرات تنظيمية أفضت إلى اختيار هيئة إدارية عليا حلت محل مكتب الإرشاد، بشكل مؤقت، للمرة الأولى منذ مغادرتها السلطة في 2013، وهو ما يبيِّن وجود حالة ديناميكية نشطة في الوقت الراهن.
هناك فرصة أمام التيار الإسلامي ليطل برأسه من جديد ويعود بمشروعه العابر للحدود الوطنية
وفي الحقيقة، لا يمكن إغفال أنَّ هذه الجماعات بقيت موجودة، رغم الانتكاسات والانكسارات التي مُنيت بها، نظرًا لاستمرار الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل والنفسية التي أدت لظهورها في البداية؛ ارتباطًا بمواجهة الاستعمار والتغريب والاستلاب الحضاري، قبل أن تصبح حركة شبه سياسية تُبشر بمستقبل أفضل، في مقابل أنظمة سياسية تبنت مشروعات مبتسرة لم يكتب لها النجاح، أدت لتحويل العديد من الدول التي حكمتها إلى أشباه دول.
كما ساهمت أنظمة سلطوية في تبييض وجه الإسلاميين، مع استمرارها في استخدام المؤسسات الدينية الرسمية لتطويع النصوص لخدمة مصالحها، ما أفقد هذه المؤسسات جزءًا من مصداقيتها وتأثيرها لدى الجماهير، لصالح الإسلاميين.
وبالطبع، لا يمكن إغفال العوامل الذاتية المرتبطة بالجماعات الإسلامية، التي راكمت خبرات طويلة في العمل السياسي السري مع ظروف أمنية مشددة، ما ضمن لها البقاء في دول تصادمت فيها مع الأنظمة الحاكمة، فحتى الآن لا يزال "إخوان الداخل" في مصر يعملون بشكل سري كما أنهم ممثلون في الهيئة الإدارية العليا للجماعة بـ7 أعضاء، أي حوالي نصف أعضاء الهيئة التي تؤدي دور مكتب الإرشاد حاليًا، وفقًا لوثيقة تأسيس الهيئة.
ومع أن النظرة الأولى إلى المواجهة بين الإسلاميين و"محور الاعتدال" بقيادة مصر والسعودية والإمارات، تُظهر أن المحور حسم جُل جولاتها، فإن توالي السنوات أظهر فشل أو تعثر المشروعات البديلة للإسلاميين، وظهر أنَّ المهمة أعقد مما يتصور البعض، وأنَّ هناك فرصة أمام التيار الإسلامي ليطل برأسه من جديد ويعود بمشروعه العابر للحدود الوطنية.
أثر الطوفان
وفي هذا السياق، جاء طوفان الأقصى ليمنح الإسلاميين زخمًا إضافيًا، فوجدنا رسائل أسامة بن لادن التي كتبها قبل أكثر من عقد تعود للحياة على أيدي الأمريكيين أنفسهم، وجماعة الإخوان الحائرة والمنقسمة على ذاتها كثفت من أنشطتها في "المهجر"، وعادت تستعطف الشعوب وكأنها وجدت أخيرًا ما تفعله، بعد سنوات التشتت وفقدان البوصلة.
أسهم الطوفان وما أعقبه من عدوان إسرائيلي على قطاع غزة، في إظهار الإسلام السياسي، الذي تُعد حماس من تمثلاته، في صورة الوحيد الذي يتصدى للاحتلال الإسرائيلي في زمن التطبيع، كما جاء الانحياز الأمريكي والغربي الرسمي لإسرائيل ليهدر دعاوى التعايش ومناهضة الانعزالية، ويدعم بصورة أو بأخرى أطروحات الإسلاميين عن استحالة التعايش.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن الواقع الحالي يجعل الظروف مُهيَّأة، أو تتم تهيئتها، بسبب التطورات الحاصلة على الساحتين الإقليمية والدولية بجانب فشل المشروعات البديلة، لعودة الإسلاميين مرة أخرى، فما يحدث تكرار لأخطاء سابقة وفرت مناخًا خصبًا لنمو الإسلام السياسي وتمدده، أو بتعبير آخر عودة للمربع الأول من جديد.
لا تزال العوامل التي أفضت إلى تشكيل وبروز جماعات الإسلام السياسي موجودة، فضلًا عن أن أيديولوجيتها حاضرة أكثر من ذي قبل في وعي ولا وعي فئات عدة، خاصةً الشباب الذين يعيش كثير منهم حالة فراغ وتيه هوياتي تجعلهم مهيئين للتجنيد والاستقطاب بالطرق والآليات التي تستخدمها الجماعات الإسلامية.
وفي المقابل، ليس متوقعًا أن يكون مستقبل هذه الجماعات أفضل من ماضيها، ما لم يكن هناك تغيير جذري في نهجها وعقلها الاستراتيجي. فالتجارب السابقة تبرهن على أنها لم تتعلم من أخطائها بما يكفي لتداركها، ليبدو التاريخ وكأنه يُعيد نفسه بمآسيه ومهازله، ويؤكد لنا الإسلام السياسي بانتشاره وانحساره أنه باقٍ ما بقيت الأسباب التي أدت لوجوده، وأيضًا أنه عاجز عن الحل وإن كان في السلطة.
لذلك على خصوم الإسلاميين أن يجدوا نهجًا أشمل للتعامل معه، إذا أردوا حقًا أن يكتبوا فصل النهاية في سيرته.