كما كشفت المجازر اليومية وعمليات الإبادة الجماعية التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بحق المدنيين الفلسطينيين في غزة، منذ نحو 45 يومًا، زيف مزاعم الدولة العبرية عن احترامها الديمقراطية والقانون وحقوق الإنسان والحريات العامة، فإنها عرَّت أيضًا عنصرية وإجرام قادتها الذين يفاخرون بالدعوة إلى اقتلاع شعب من أرضه بأي وسيلة حتى وإن كانت "القصف النووي"، أو بعمليات التطهير العرقي لضمان السيادة اليهودية على كل فلسطين، إلى حدِّ التهديد بـ"نكبة جديدة" للخلاص من صداع القطاع.
كان من بين نتائج عملية طوفان الأقصى وما تبعها من ممارسات انتقامية ضد المدنيين العزل، التي شارك فيها رعاة إسرائيل الغربيون بالدعم العسكري والاقتصادي والسياسي، سقوط أوهام السلام التي سعى البعض للترويج لها منذ توقيع كامب ديفيد، ووضعت أدعياء التطبيع الإبراهيمي في موقف حرج، لا سيما بعدما انحاز بعضهم للاحتلال وأكاذيبه عن عملية "طوفان الأقصى".
أثبت هجوم المقاومة أيضًا فشل مشروع أوسلو الذي لم يجنِ الفلسطينيون منه شيئًا سوى إقامة سلطة تلعب عادة دور شرطي إسرائيل في الضفة الغربية، فتحاصر المقاومة وتنزع سلاح كوادرها وتعتقلهم، وفي أوقات أخرى توارب الباب ليتمكن الاحتلال من تنفيذ عمليات التصفية الجسدية لعناصر فصائل المقاومة.
ولا يمكن إغفال أنَّ من ضمن إيجابيات "طوفان الأقصى" التي تحدث عنها مرارًا كاتب السطور وغيره من الكُتَّاب والمحللين، أنَّها أعادت الاعتبار للقضية الفلسطينية وجعلتها قضية الشعوب المحورية، حتى صار "من النهر إلى البحر" شعارًا شعبيًا ترفعه الجموع في عواصم دول العالم. ثم إنَّها دبَّت روحًا بعد تغييب طويل، وأيقظت وعيًا دخل في سبات طويل، ليصبح الشغل الشاغل للشباب العربي هو ما يدور في فلسطين من انتصارات وانكسارات ومآسٍ دموية أكبر من طاقتهم على الاحتمال والاستيعاب.
السعي إلى الانتقام
ووفقًا للسوابق، فالشباب العربي والمسلم الذي أعياه العجز وقلة الحيلة، سيسعى إلى التفكير في "الانتقام والثأر"، بعد تراكم كلّ هذه الصور للدماء المتفجرة في كلِّ شبر من قطاع غزة والضفة الغربية، وقصف البيوت والمستشفيات والمدارس والكنائس والمساجد بطائرات الاحتلال الذي يتفاخر قادته بأنه "لا يوجد في غزة مكان لن تصل إليه قواتنا"، ومشاهد الإذلال المتعمد التي يمارسها الجيش الإسرائيلي بحق سكان الضفة الغربية من تفجير مسجد أثناء صلاة الفجر، وسحب مسنة أمام أبنائها وأحفادها، واعتقال الآلاف، وتعمُّد تصوير المعتقلين وهم مقيدين وراكعين.
بغض النظر عما ستؤول إليه المعركة، فالشعب الفلسطيني في غزة والضفة قام ويقوم بما عليه من صمود وتحمل واستبسال بطولي في الدفاع عن الأرض، ما أعاد إلى الأذهان الملاحم الأسطورية التي تختلط بها الحقائق والوقائع بالمبالغات، لكن لا يمكن إغفال أنَّ سقوط عشرات الآلاف من الضحايا بين شهداء وجرحى، فضلًا عن الأحياء العالقين تحت ركام الأنقاض، وقتل الأطفال بتبجح في المستشفيات والشوارع، ونقل كلِّ ذلك على الهواء مباشرة، سينتج طبقات جديدة من العنف المضاد بحق كل من نفَّذ وشارك وتواطأ وتخاذل عن رفع هذا الظلم عن أهل فلسطين.
"الظلم مؤذن بخراب العمران" حسب ما ذهب ابن خلدون في مقدمته. وليس الظلم فقط ظلم الحاكم للرعية، لأن ظلم الدول للدول والأمم للأمم والجماعات للجماعات "مؤذن بخراب العمران" أيضًا، فجماعات العنف المنظم لم تظهر في أي وقت من التاريخ إلا ردَ فعل على هضم الحقوق وضياعها، والعمليات الفدائية أو الاستشهادية أو الإرهابية لم تنفجر إلا بعد ارتفاع منسوب الإحباط واليأس من بلوغ الحقوق بالطرق السلمية السياسية والدبلوماسية.
لن تفرَّق تلك الجماعات بين معتدٍ ومتواطئ ومتخاذل وصامت.. ستوجه غضبها للجميع
ما يُرجِّح دخول العالم في دورة جديدة من دورات العنف، أو بالأحرى تفجر "طوفان عنف"، هو استمرار العدوان على الشعب الفلسطيني دون أن يتدخل أحد لإنقاذه قبل فوات الأوان، أي قبل أن تنفذ إسرائيل مخططها بتهجير الفلسطينيين قسرًا من غزة إلى مصر ومن الضفة إلى الأردن، وإقامة دولتهم اليهودية نقية العرق، حسب ما يروج ساسة ومنظرون صهاينة علنًا بدون مواربة في كلِّ مكان منذ بدء المعركة الأخيرة.
حتمًا سيكون رد الفعل على الحرب التي يروج الصهاينة وحلفاؤهم أنها دينية جمعت أتباع الصهيونية اليهودية والمسيحية في إسرائيل وأمريكا وبعض الدول الأوروبية، عنفًا دينيًّا أصوليًّا إسلاميًّا يستدعي معه كلَّ الاجتهادات الفقهية التي وصلت إليها الجماعات الجهادية في النصف الثاني من القرن الماضي، وانطلقت منها جماعات الجهاد والجماعة الإسلامية، ثم القاعدة وداعش وأخواتهما لتبرير عملياتها.
عودة أسامة بن لادن
لست بحاجة إلى التذكير بأنَّ أحد المرتكزات التي انطلقت منها عمليات "القاعدة" ضد الأهداف الغربية هو الظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون على أيدي دولة الاحتلال الإسرائيلي وبمباركة أمريكية غربية، فرسالة الزعيم السابق لتنظيم القاعدة أسامة بن لادن، التي انتشرت بضراوة خلال الأيام الماضية على السوشيال ميديا بعد 21 سنة على كتابتها في العام التالي لهجمات 11 سبتمبر، بعنوان "رسالة إلى أمريكا"، تتضمن هجومًا على ما وصفه بـ"التدخلات الغربية في الدول الإسلامية"، و"سياسات أمريكا في الأراضي الفلسطينية"، مبررًا تلك الهجمات بـ"الدعم الأمريكي لإسرائيل".
وبعد انتشار تلك الرسالة بين المؤثرين في أمريكا والغرب، وتوقفهم عندها بالتحليل والشرح وتحذير حكوماتهم من ردات الفعل المنتظرة، انتشرت رسالة صوتية أخرى بثها تنظيم القاعدة لابن لادن في 2008، دعا فيها الفلسطينيين لاستخدام "الحديد والنار" لإنهاء الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة، وحثَّ المسلمين على مواصلة النضال ضد قوات الاحتلال الأمريكي في العراق باعتباره سبيلًا "لتحرير فلسطين".
وقبل تأسيس أسامة بن لادن لتنظيم القاعدة ولـ"الجبهة العالمية لمكافحة اليهود والصليبيين"، كانت القضية الفلسطينية ورغبات الانتقام من أمريكا باعتبارها راعية إسرائيل، مداخل أساسية جذَّابة لتجنيد شباب الدول العربية والإسلامية في صفوف الجماعات الأصولية الإسلامية مثل الجماعة الإسلامية والجهاد وطلائع الفتح والتوحيد والجهاد.. إلخ.
لا محالة ستنفجر عمليات عنف أصولي، وستتحيَّن تنظيمات القاعدة وداعش وغيرهما الفرصة لاستعادة زخمها ونشاطها، وستستثمر حالة الاحتقان والغضب ومشاعر الثأر والانتقام التي تتراكم يومًا بعد يوم، في جذب أعضاء من الشباب الذي رأى بعينه كلَّ ما يجري ولم يتمكن من رفع الظلم، وعجزت حكوماته عن القيام بما عليها لوقف المذبحة المستمرة.
ستوجه تلك الجماعات "طوفان العنف" القادم تجاه الجميع. لن تفرَّق بين معتدٍ ومتواطئ ومتخاذل وصامت، ولن ترتب أولويات أهدافها على النحو السابق؛ "عدو قريب" ثم "عدو بعيد"، فالجميع من وجهة نظرها ونظر جنودها الجدد مدانون، وستتناقل منصات الإعلام مجددًا أخبار عمليات "الذئاب الغاضبة" و"التفجيرات الكبرى" ضد مصالح إسرائيل وأمريكا وحلفائهما في الغرب والمنطقة.