منذ أيام، كتب علاء خالد عن "رائحة حقيقة" تسري في الهواء، "الحقيقة" التي لا تأتي إلا مع الكارثة، ندرك من داخلها أنَّ هذه الحرب ستطول وتتمدد، وأنَّ نهايتها ستختلف عن بدايتها، وأنَّ أثرها في المنطقة سيمتد، ومن يعتقد بأنه قادر على النأي بنفسه عنها أبله، نتيجة جُبنٍ أو سذاجة.
أطلق الفلسطينيون في غزة عصيانًا مسلحًا ضد الاحتلال الإسرائيلي، انطلق أولًا على شكل هجمات عسكرية منظمة، ثم اِتَّخذ بعد ذلك أشكالًا مختلفة من العنف الشعبي المنظم وغير المنظم والهمجي، بعدما اِتَّضح للأهالي نجاح المقاومة في كسر الإسرائيليين عسكريًا بشكل استثنائي وغير متوقع.
كان الحدث مُزَلْزِلًا؛ رجَّت هزيمة إسرائيل العسكرية العالم، واضَّطرب وجدان داعميها بشكل عفوي ولا إرادي، مُتجاوزًا المنطق السياسي وحساباته الباردة، فسارعوا إلى دعمها غير المشروط وهي تبحث عن ثأر لائق بهزيمتها.
في الأيام الأولى قدمت أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا شيكًا على بياض لإسرائيل، يضمن لها غطاءً سياسيًا وماليًا وإسنادًا عسكريًا، إلى حد مدِّها بجنرالات متخصصين في حرب المدن وقذائف B52 فائقة الإبادة، تستخدمها الآن في إحراق واحد من أكثر الأماكن اكتظاظًا بالسكان على كوكب الأرض.
أخرجت جميع هذه الدول من أدراج أجهزتها الأمنية خططًا إعلامية مسبقة الصنع، تعتمد على مقاربة عصيان 7 أكتوبر بهجمات 11 سبتمبر، وشددت إجراءاتها الأمنية داخليًا لاحتواء الغضب الشعبي المتوقع؛ منع من التظاهر وتوقيف وفصل من العمل وحتى الاغتيال المعنوي. لقد أعلنت تلك الدول أنها هي الأخرى في حالة حرب.
ربما لا يُدهِش ذلك من يستوعب تاريخ الصراع العربي الصهيوني ويفهم تفاصيله وأبعاده، فبالنسبة للولايات المتحدة إسرائيل ولاية أمريكية ذات وضع استثنائي؛ كيان غرست بريطانيا بذرته، ومدَّته فرنسا بالسلاح النووى، وأغدقت عليه ألمانيا من خزائنها بعدما أعلنته وريثًا شرعيًا لحقوق اليهود بعد إبادة الآلاف منهم في جريمة الهولوكوست.
هناك جوانب معاصرة تفسر هذا الاندفاع العاطفي الجارف نحو إسرائيل
لا نحتاج إلى التذكير بأنَّ إسرائيل أهم المرتكزات الاستعمارية في العالم العربي، تفصل مشرقه عن مغربه وتلعب للغرب دورًا وازنًا في إبقاء الصيغة الجيوستراتيجية لعالم ما بعد الحرب العالمية الأولى، الذي أسس جزءًا كبيرًا من حساباته وتوازناته على ما خلّفه تفكك السلطنة العثمانية من فراغ. هذه نفس الحسابات التي اعتبرت جمال عبد الناصر وطموحاته العروبية خطرًا من الواجب احتوائه ثم تحطيمه، رغم محدودية إمكانيات مشروعه السياسي والوحدوي.
لكن يظلُّ السؤال؛ هل كلُّ ما سبق كافٍ لتفسير هذا الاندفاع العاطفي الجارف نحو إسرائيل في محنتها، أم أن هناك ما هو أبعد من علاقة الامتداد الاستعماري والإمبريالي المعروفة لنا جميعًا، وعقد الذنب المتوارثة عن جريمة الهولوكوست؟ ظني أنَّ هناك جوانب أخرى أكثر حالية ومعاصرة، يمكن الإشارة إليها وتسليط بعض الضوء عليها لربما تساعد ولو قليلا في تفسير الأمر.
الولايات المتحدة كراعٍ للمسألة اليهودية
عام 2022، بلغ عدد اليهود في العالم حوالي 15 مليون نسمة. تتقاسم إسرائيل والولايات المتحدة 92% منهم بالتساوي. لذا فلو وضعنا في الاعتبار واقع إسرائيل كولاية أمريكية ذات وضع استثنائي، تصبح المسألة اليهودية حول العالم، ووفقًا للحسابات الرقمية، شأنًا أمريكيًا داخليًا خالصًا.
تتفاوت مواقف اليهود الأمريكيين من إسرائيل، فهناك قطاع صهيوني نافذ وصلب يدعمها بلا شروط، وآخر صهيوني ليبرالي أصبح تأييده لها ناقِدًا ومشروطًا وحذرًا، فيما تبلورت في السنوات العشر الماضية كتلة يهودية صلبة معادية لإسرائيل لدرجة اعتبارها كدولة صهيونية خطرًا على اليهود، وهي ترفع هذه الأيام شعار Not in Our Name/ليس باسمنا، في إشارة إلى إدانة التطهير العرقي المستمر في غزة. هذه الكتل الثلاث تخترق عموديًا وقطاعيًا المجتمع اليهودي الأمريكي، العلماني منه والديني.
لكن، ولأن أمريكا بلد العجائب في العالم الجديد، فإننا سنرى آلاف اليهود المعادين للصهيونية يقتحمون محطة القطار المركزية في مدينة نيويورك رافعين علم فلسطين مطالبين بالوقف الفورى لإطلاق النار، مثلما سنجد أنَّ أكبر كتلة تدعم وجود وسياسات إسرائيل وبشكل حديدي، رقميًا، هي كتلة المسيحيين الصهاينة المنبثقة عن كنائس اليمين المسيحي الإيفانجيلكال، وينطلق تأييدها من دوافع دينية بالأساس، إذ تعتبر استيطان اليهود في فلسطين خطوة أولى نحو عودة المسيح وخلاص البشرية.
تتشكل هذه الكتلة من عشرات ملايين المسيحيين المتطرفين المعادين للسامية في سلوكهم الاجتماعي اليومي. تطرف يقع على يمين أقصى تصور سيئ عن اليمين، لدرجة أن جون هاجي، القس الإنجيلي المؤثر ومؤسس منظمة المسيحيين المتحدين من أجل إسرائيل، يصف أدولف هتلر تحقيرًا بأنه كان مجرد نصف يهودي!
تتداخل في الدعم الأمريكي المطلق والمشروط لإسرائيل وكذلك عدائها، المصالح الإمبريالية والهوس الديني المسيحي ومعاداة السامية والنفوذ الصهيوني العابر للدين ومخاوف اليهود من ردة الفعل العكسية على جرائم إسرائيل. خليط عجيب ومتنافر يؤكد أنَّ المسألة اليهودية عالميًا مسألة أمريكية محلية بامتياز، وأنَّ مصير إسرائيل ومستقبلها ستحدده التفاعلات الأمريكية الداخلية، لا سيما صراعات اليهود الأمريكيين أنفسهم.
في هذا المشهد الأمريكي المعقد سيصبح دم الفلسطيني رقمًا حسب قدرته على تلطيخ المعادلة الأمريكية الداخلية نفسها، فالداخل الأمريكي كوكب لا يرى إلا نفسه، والعالم بالنسبة له مجموعة من الحكايات، وعليه أن يفهم أن هذه الحكاية "عالمية".
عندما رأت فرنسا "ضواحيها" في غزة
حين رأى رجل المصارف إيمانويل ماكرون الفلسطينيين وهم يعبرون السور إلى الجانب الآخر، لم يكن يشاهد مستوطنات غلاف غزة، بل الضواحي الفقيرة في المدن الفرنسية التي يسكنها ملايين الفرنسيين ذوي الأصول الإفريقية والشمال إفريقية، والتي تعدُّ أكبر بؤرة فقر في أوروبا، وقد تحولت إلى ما يشبه الجيتوهات التي ينتهز سكانها أيَّ فرصة للتعبير عن الغضب.
يشاهد ماكرون وأمثاله كابوس ضواحي باريس ومرسيليا؛ إذ ينتفض الخدم المفترض بهم تنظيف المراحيض جيلًا تلو آخر، بالسلاح ضد سادتهم، سعيًا للحرية السياسية والتمكين الاجتماعي، لا السلب والنهب.
تذكر 7 أكتوبر الفلسطينية ماكرون بأول نوفمبر الجزائرية عام 1954، عندما أطلقت جبهة التحرير الجزائرية ثورتها المسلحة ضد المستوطنين الفرنسيين من العسكريين والمدنيين على السواء، لينفجر طوفان عنف حرر الجزائريون أنفسهم به واستردوا إنسانيتهم، وألقوا بالاستيطان الفرنسي إلى البحر بعد ثمانية أعوام فقط.
ربما نكأ المشهد الفلسطيني جرحًا فرنسيًا لا علاقة له بالصهاينة أو الفلسطينيين، لكنه لا يزال متقيحًا، وتعجز فرنسا المغرورة عن لمسه، لكنَّ صديده يتقيَّح في وجهها عامًا تلو آخر.
ظلت المواقف الرسمية لفرنسا إزاء الصراع العربي الإسرائيلي هي الأكثر توازنًا في أوروبا كلها منذ عهد شارل ديجول، لكن يبدو أنَّ العاطفة الاستعمارية غلبت الواجب هذه المرة، فطغى الحماس على ما عداه.
ألمانيا وهي تعيد تدوير فاشيتها
من اللحظة الأولى، أعلنت ألمانيا أنها ستؤيد أيَّ شيء وكلَّ شيء ستفعله إسرائيل، واعتبرت أيَّ موقف غير ذلك عداءً للسامية.
قد يفسر البعض ذلك بأنَّ الألمان وهم يتَّخذون هذا الموقف، فإنهم يغسلون أيديهم من جريمة الهولوكوست بدمائنا نحن، لكن هذا ليس إلا مجرد جانب من المشهد. ما لن يقوله الألمان إن معاداة السامية لا تزال متجذرة في قطاعات معتبرة من المجتمع، وهم بهذا التوجه يريدون قمع هذه الميول الموجودة عندهم قبل إطلاقها، عبر اتخاذ "الدولة الألمانية" موقفًا شديد التطرف في دعم إسرائيل.
تعلم المؤسسة السياسية الألمانية أنَّ لديها أقليات عربية ومسلمة كبيرة لن يرضيها هذا التوجه، لكن لا مانع لديها من إدارة معاداة السامية المتأصلة في قطاعات معتبرة من الشعب، وإعادة توجيهها نحو "الساميين الجدد" من المهاجرين العرب. فالساميون القدامى قُضي عليهم بالفعل في المحرقة، ولا مانع من السعى إلى استرضاء روح معاناتهم، بمعاداة نوع جديد من الساميين.
الألمان غارقون في مصيبتهم الممتدة التي تشكِّل علاقتهم بذواتهم وبالعالم، كوجود مشترك لجماعة قومية "ألمانية"، وهذا أمر يحتاج إلى مقال مستقل بذاته، لأنه يتعلق بالصيغة التي تأسست عليها القومية الألمانية من البداية والروح الرومانسية التي شكلتها، وأصبحت في لحظات الصراع والالتهاب تصيغ عوالم أضداد من الخير والشر على إطلاقهما.
هذه أيام تفوح منها رائحة "الحقيقة" التي تعزز قدرتنا على التعبير عن أنفسنا معًا
من اليقين المطلق في أنَّ "الذات الألمانية" مرادف مطلق للخير، يولد ما يعتقد الألمان أنه "استقامة ذاتية" في المواقف، وهو ما يؤصِّل الغطرسة بعمق في وعيهم القومي، فيرتكبون أبشع الجرائم إذا اِستُفزَّوا. النازيون أنفسهم لم يعتبروا أنفسهم أشرارًا في أيِّ لحظة، بل على العكس تمامًا، حتى في لحظاتهم الأخيرة، كانوا يعتبرون أنفسهم منقذي الإنسانية وحماة الحضارة الغربية من البربرية والتخلف.
أخيرًا؛ هذه أيام تفوح منها رائحة "الحقيقة" كما قال علاء خالد. ولكنَّ الحقيقة التي أعنيها هنا، هي قدرتنا على التعبير عن أفكارنا ومشاعرنا ووجداننا معًا، دون أن يُسلِّط السياسي الأبيض خوارزمياته علينا، أو يُشهِر سيف أخلاقويته الكذوبة في وجوهنا.
في هذه الأيام فرصة للتفكير والتعبير بحرية، قدر الإمكان، من داخل كل هذه الآلام.