مرة ثانية وثالثة ورابعة نتسمر أمام الشاشات، نتفرج على هذا الفيلم المعاد للموت، وعلى هذه الذروة التي تتجدد باستمرار. ليست فقط ذروة تحملنا، ولكن أيضًا ذروة انتقال صراع الموت نفسه إلى الأمام، إلى ذُرىً جديدة بلا خيال أو بوصلة محددة، ولا تقف وراءها سوى غريزة القوة والفناء.
كلُّ مرة، بعد البث المباشر للموت الذي اعتدناه منذ ضرب العراق، وهناك عين جديدة، اعتادت رؤية الموت دقيقة بدقيقة، وبأعداد تفوق قتلى أفلام الحرب، ليتصاعد إحساس القهر، وهو أيضًا إحساس معاد، ويتصاعد إحساس الغضب، وهو أيضًا إحساس معاد، ويتصاعد إحساس الرفض لهذا العالم المملوء بالظلم والشرور.
وعلى بداهة الاستنتاج وطفولية الطرح، إلا أن العالم لا يزال يعيش داخل حكاية أطفال يتلاعب بها الكبار، كلُّ شيء فيها بديهي، وكلُّ شيء أيضًا قابل لأن ينقلب إلى الضد.
مصطلحات مثل الظلم، الحق، المساواة، الخير، الشر، والعدالة؛ تلبس العديد من الوجوه والأقنعة في رحلة استقرارها، فلا يتبقى شيء لا تمكن إدانته، بداية من ذواتنا حتى ذوات هذا الآخر، الذي أفقدنا بوصلة الاعتراف بأنفسنا والإصغاء بهدوء لحكمة الحياة.
بث مباشر
البث المباشر للموت جعلنا جميعًا نتفرج على فيلم واحد لعالم واحد، ولكن بإنسانيات مختلفة، وتصورات مختلفة عن الحياة والعدل والظلم. ترى نفسك مواطنًا عالميًا بسبب التزامن ووحدة الحدث والكارثة، ولكنك مواطن عالمي من الدرجة الثانية، فالتمييز من ناحيتك واضح، ولا يُعدِّله الفهم الصحيح لمن يجلسون بجوارك من العالم "المتحضر"، الدرجة الأولى، أمام هذه الشاشة الكونية لتشاهد معهم فيلم الموت اليومي. وعلى بساطة هذا الطرح الشعبوي أيضًا، إلا أنه يحمل الحقيقة بوضوح.
تحمل الشاشات، أيضًا، بعض العزاء: تلك المسيرات والحشود والحناجر التي تهتف، لتعيد كفة الميزان الإنساني، وتقشر العديد من الأقنعة، وهو أيضًا مشهد معاد، وشعور معاد، لا يصمد كثيرًا أمام عنف ما يحدث. فأمام العنف لا تطلب النفس العدل، ولكن القصاص السريع. ينتشر الدعاء على الصفحات، نبحث عن عنف صادق ومتَّسِع يبتلع هذا العنف الضيق الكاذب والمضلل وغير الإنساني.
تشملنا دوامة عنف لانهاية لها، من فرط الضغط المكبوت بداخلنا، نتجاوز أحيانًا الحدود بين العنف والقصاص، بين الحق والباطل، وندخل أرضًا جديدة للعلاقة مع الآخر بدون أي خرائط مسبقة أو مستقبلية. ربما تكون بداية انفصال اضطراري.
ضمير جمعي
منذ ضرب العراق، وبسبب هذه الحرب التي بُثَّت على الهواء، بُعث ضمير جمعي من الرماد، يذكرنا بما نسيناه أو حاولنا. لو أذيعت هذه الحرب بصيغة الماضي، في نشرة أخبار بائتة، ربما كان أهون، فقد مرَّ العنف من ورائنا، وإن عاد بأثر رجعي فسيكون بائتًا مثل الخبر، ولم يعد حاضرًا، أما أنها تُبث على الهواء مباشرة، فهي تتيح للحاضر، ولنا، أن نشارك في بعث هذا الضمير الجمعي، وأن نمد أيدينا لنوقفها.
وهنا يظهر العجز بكل حمولته الثقيلة، يظهر هذا الموت الداخلي للمشاعر من قوة ضغطها، فعند نقطة معينة يتوقف التماهي مع الحياة، وننسحب إلى نقطة داخلية حصينة، بعد أن احترقت الأرض خارجها، وهذا أيضًا موقف معاد للأسف.
داخل هذا الموت المجاني، نقول لبعضنا البعض أن نقدس أشياءنا الصغيرة وننكفئ على الحياة لنعُبَّ منها قدر استطاعتنا، لأننا يجب أن نعيش، وأن نمجد كل لحظاتنا التافهة أو الثمينة لأنها من نتاج ذواتنا البريئة، وليس لنا أن نضحي بها.
هذا أيضًا سلوك مكرر. عقب كل كارثة نبحث عن هذا الاتزان غير العادل بين الذات والحياة، نضع الاثنين في رهان، فيما تغيِّر تحولات شديدة القوة من طبيعة هذه المعادلة، وتجعل من التمسك بالحياة والأشياء الصغيرة منهجًا نفعيًّا أو قناعًا لعدم المواجهة. ولكن أيضًا أين مكان المواجهة لهذه الكارثة؟ وهو أيضا سؤال مكرر، ربما لا يوجد مكان لمواجهة الكارثة.
تنبت ذروة جديدة
تشعر بظلم العالم لك ولقبيلتك وجنسك. مهما كان سبب هذا الظلم فإنه يردك لحالة غريزية قديمة، وهي أيضًا معادة. ربما توقظ هذه الحالة المنابع الأولى لوجودك، بعد أن وصلت للذروة، فتعود مرة أخرى، عابرة بالزمن، إلى الأعماق، بحثًا عن صياغة صفرية جديدة.
تتحول إلى كائن غريزي، لأن الآخر أيضًا كائن غريزي. تُبرر العنف في كلِّ اتجاه بعد أن ينفصل عن أسبابه، حتى ولو كان واقعًا عليك، لتستريح. ربما تدين المجني عليه، وربما أيضًا يتوه الجاني ويتماهى مع المجني عليه، وهي الصيغ التي تتولد لمحاصرة هذا العنف المنفلت، ومحاولة وقفه ووقف آثاره الهستيرية. وهي أيضًا ممارسات معادة.
نكرر أفعالنا، وانفعالاتنا. بعد كل ذروة قديمة تنبت ذروة جديدة، ويُسدل ستار جديد على الحواس والمخيلة. تغيَّرنا، ولم تتغير بعد أهوال الذروة، ولم تتغير بعد الشاشات والكلمات التي تصاحب هذا الفيلم أو الحكاية الجديدة.
ربما هي أزمات تاريخية لايمكن أن يستوعبها الإنسان بمفرده، ولا شيء يتحرك أبعد من هذا، ربما هناك بطن لهذا التاريخ ولهذه الحياة تطحن الزلط، وتُظهِر لنا فقط هذا الأزيز الصاعق لهضم كل هذه الخروقات والتناقضات والغرائز الوحشية.
يتناسخ الخراب، ويحتل ذلك المكان الذي بنيناه داخلنا لنعيش فيه وقت الأزمات. المكان المجازي الذي يجتمع فيه كل البشر، مرة واحدة يتحول لحطام، وهنا ذاتية العنف وأنانيته؛ أنه لا يحب الجماعة والتواصل، وغريمه هو الذاكرة الجمعية بكل ما تحمل من اتساع وتعدد وخيال. العنف أصمٌّ بلا خيال، ليس له مكان محدد يتوالد ويموت فيه، ولكنه عابر للقارات، كمادة وكمعنى، ويدمر كل الصيغ المشتركة الحالمة التي زرعت فينا تجاه محبة الحياة.
تسليم وتسلم الأعمار والقضية
نجلس أمام الشاشات، تتحرك عليها وجوه الأطفال في هذه المدن المنكوبة بملابسهم الرثة وهجراتهم الطويلة المكتوبة عليهم، حتى وهم نطاف في خيال آبائهم وأمهاتهم. يحملون مع عائلاتهم متاعهم البسيط. هؤلاء هم، وأجدادهم، وأجداد أجدادهم، الذين يمثلون هذا الفيلم الطويل الذي استمر لسنوات طويلة، حتى قبل أن تخترع الميديا.
وقتها كان الخيال والماضي هما الحافظان لشريط التهجير الطويل. حتى ولو استُبدل بهم أطفال جدد، وصار الأطفال القدامى أجدادًا وجدات. هناك دائرة لم تتوقف عن الدوران حتى الآن، في معاهدة التسليم والتسلم للأعمار والقضية.
هؤلاء في الماضي والحاضر من يتفرجون علينا كشهود بدون إدانة، ويعاينون تحولاتنا وتحوراتنا الإنسانية وعداءنا لأنفسنا.
أين نحن؟
نعيش سنوات ملتبسة مع " الآخر"، نشعر معًا بأن العالم واحد، وهناك تبادلات تسمح بهذه الهوية الكونية أكبر من أي انقسام، وهي حقيقة أيضًا. ولكن بعد هذا النسيان نستيقظ على الكارثة، ذهبت السكرة وجاءت الفكرة.
ينهض هذا الضمير الجمعي من رماد الكارثة، يجرف أمامه أي مصالحات، ويذهب بسرعة للسؤال الأساسي؛ أين رتبتنا في هذا النظام الكوني؟ وهل الـ"نحن" هذه لا تتبلور إلا في هذا الوضع الدوني؟ وهل هذه الـ "نحن"، لا يستوعبها حق الاختلاف الذي تنص عليه الحياة؟
وللأسف أيضًا هذه أسئلة معادة، كأننا من كثرة تكرار الأزمات أصبحت لنا عدة نسخ شخصية من الأسئلة والحيرة والقلق، مثل مضادات الألم واللقاحات، نحتفظ بها تحت جلودنا لأي طارئ مستقبليٍّ متكرر، كالأزمة بين الشرق والغرب أو مفهوم العدالة، أو ظلم العالم الحديث واستغلاله. ليس لنا فقط ولكن له ولنا معًا.
نحن وهُم
ينقسم الوعي إلى "نحن وهم" مثل قصيدة محمد الماغوط الشهيرة "الظل والهجير" عندما يقول "هم يملكون المشانق ونحن نملك الأعناق". نحن دائما الأضعف لأنهم "هم" دائمًا الأقوى.
نشم رائحة حقيقة في هذا الهواء المعبأ بالبارود والموت والقتلى من حولنا
الضعيف هو الذي يرى الفارق، أما الـ"هم"، فلا يرونه، بل يعيشونه زمنيًا باستحقاق قدري، ربما يتعالى ويكتسب صيغا استعمارية، في نظرتهم لهؤلاء من يملكون الأعناق، فالعلم أيضًا يُسخَّر لصالح تثبيت الفوارق وامتصاص تعالي الأقوى، بل وإخفائه، بمفاهيم ونظريات.
من كثرة استخدام الـ"نحن" في تاريخنا الحديث، أصبحت لها عدة انقسامات؛ نحن الذاكرة الجمعية، نحن المذنبون، نحن المظلومون، نحن الظالمون لأنفسنا. ومنها أيضًا "نحن التاريخية النقية" التي نودُّ استعادتها من الماضي، ونحن المستقبلية وهي الأكثر غموضًا من كل ماسبق.
من الطبيعي أن تكون هذه الـ"نحن" مبتورة من "نحن" أكبر منها شاملة وكونية، وهذا البتر يجعلها ترى بعين مبتورة هي أيضًا. وهذه ضريبة الانفصال، أو تنامي الحدود بيننا والآخر، وبيننا والحياة.
هناك تناسخات مستمرة لهذه النحن، لا يوجد مكان لنا إلا خلفها، وبتكرار الأزمات ستزداد النُسخ، وستزداد المسافة بُعدًا بيننا وسطح الحياة، وستزداد عزلاتنا قوة، وأن ما ينوب عنَّا في الخارج هم أشباحنا التي لم يتبقَّ منها سوى هذا النفس الضعيف للمشاركة وتبادل الحب والمتعة والسعادة والألم مع الآخرين.
دورة الزمن البطيئة
أعرف تمامًا أنها ليست لحظة استثنائية بل لحظة مكررة في تاريخ العالم والحياة، تصفيات لقضايا وأزمات ومشاعر وخسارات، وعودتها جميعا للحالة الغريزية، بدون إضافات أو محسنات. عودة للذروة بصورتها الأنقى، التي لا تقدر قيمة الحياة أو الإنسانية، بل تقدس الصراع فقط، حتى يتولد شيء جديد! فالأزمة والتكرار بالتأكيد يحملان حلولًا داخلهما، ولكنها حلول طويلة الأجل.
ربما دورة الزمن أبطأ مما نتوقع، لأن حيواتنا قصيرة أمام أي دورة زمنية، وربما هذه الدورة أبطأ من رغباتنا وأمنياتنا، مهما كانت عادلة، ربما يتبلور الآن مفهوم جديد للصراع في الهواء من حولنا، مثل بشائر المواسم السنوية، ولكن لن يمشي على الأرض إلا بعد أن يمتلك القوة ليسير.
يأخذ المفهوم الجديد سنوات وعقودًا وقرونًا ليصبح حاضرًا بيننا، كحقيقة تضاف لحقائقنا عن الحياة والعالم. الفارق بين مواقيتنا وظهور هذا الجديد الكامن في ضمير الغيب، ربما هو سبب كلُّ هذه الأسئلة والكتابات، والنزاعات والأحاسيس.
ربما لن نشهد هذه الحلول لمعضلات عصرنا، ولكن لا شك نشم رائحة حقيقة في هذا الهواء المعبأ بالبارود والموت والقتلى من حولنا. ربما هناك عالم جديد ينتظر وراء هذه الأزمات المكررة، وراء هذه الشاشات المعلقة.