لقطة من فيديو لكتائب القسام
مقاتل فلسطيني يستهدف دبابة إسرائيلية بعبوة ناسفة من المسافة صفر، 2 نوفمبر 2023

الحرب البرية.. تيه آل إسرائيل في أرض غزة

منشور الخميس 9 نوفمبر 2023 - آخر تحديث الخميس 9 نوفمبر 2023

لا صوت يعلو في إسرائيل، فوق صوت الاجتياح البري لقطاع غزة، ولا أولوية تسبق سفك دماء أهلها، وتدمير بنيتها التحتية، تنكيلًا بكل ما هو فلسطيني، وانتقامًا للهزيمة في عملية طوفان الأقصى، التي لا افتئات ولا تجاوز للحقيقة، إن قيل إنها سترسُخ في كوابيس الاستيطان، تحت عنوان "نكسة السابع من أكتوبر".

دوافع الاجتياح لا تقتصر على انتشال هيبة الجيش، "الذي قُهِر" فبالإضافة إلى ذلك، ثمة أسباب ذاتية لدى رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، إذ تحتاج صورته ترميمًا عاجلًا، خاصة بعد أن فار تنور المعارضة، فإذا باستطلاعات الرأي تُحمِّله مسؤولية "الهزيمة"، ومنها استطلاع لـ"مركز الحوار" كشف عن أن أربعة من كل خمسة مستوطنين، يعتبرون الائتلاف الحكومي بقيادته فاشلًا.

كذلك يصفه كتّاب صحفيون وجنرالات متقاعدون واستخباراتيون وخصوم سياسيون بـ"العاجز المتهافت"، والأخطر أن الغضب شبَّ في أوساط الجيش، إلى درجة أنه فرَّ جَزِعًا من اجتماع مع جنود احتياط مؤخرًا، لأنهم شتموه وصرخوا في وجهه "كذَّاب وقيادتك صفر".

هكذا تمضي الدوافع والضغوط جميعها، تجاه حتمية الاجتياح، فماذا عن الأهداف؟

ما يؤكده نتنياهو والذين معه، أن الحرب لن تضع أوزارها، إلا بعد توجيه ضربة قاضية لحركة حماس، وهناك إلى جوار ذلك، همهمات بشأن مؤامرة لتهجير أبناء غزة إلى سيناء، فهل هذان هدفان يمكن تحقيقهما؟

إشارات خضراء لبدء الغزو

الواضح لكل ذي عينين أن هناك تواطؤًا مفضوحًا مع العدوان، فثمة قصور حكم عربية، ترى في حماس خطرًا أكبر من الاحتلال، وهو الأمر الذي فضحه مبعوث السلام الأمريكي الأسبق، دنيس روس إذ كتب في صحيفة نيويورك تايمز مؤخرًا "إن قادة عربًا قالوا لي إن انتصار حماس، سيعطي نفوذًا أوسع لطهران، ويضع حكوماتهم في موقف دفاعي".

أما بالنسبة للموقف الدولي، الذي تُحرِّك خيوطه الولايات المتحدة، فالإشارة خضراء، والرئيس جو بايدن لم يستنكف عن شيطنة حماس، ومن ذلك ادعاؤه أن مقاتلي القسام، ذبحوا 40 طفلًا، مستندًا إلى خبر كاذب بثته شبكة سي إن إن، وسرعان ما تراجعت عنه، كما أصدر البيت الأبيض بيانًا يتراجع فيه عن ذلك التصريح، في حين أن بايدن لم يعتذر أو حتى يتراجع، بل كرر التصريح مرتين.

البيت الأبيض "شريك أصيل"، في الجرائم المقترفة، ضد الشعب الفلسطيني

ترديد رأس النظام الأمريكي خبرًا كاذبًا كهذا، لا يجب أن يُؤخذ على سبيل حُسن النية، ولا يُعلَّل بضعف ذاكرة الرجل العجوز، ذي "التخاريف المضحكة" التي يلتقطها خصمه الرئيس السابق، دونالد ترامب، فيشبعه سخرية.

حين يتعلّق الأمر بمواقف واشنطن، فسوء الظن فرض عين، بعدما عوّدت العرب، على تطفيفها الميزان، ولعل الدعم العسكري الذي تعهد به بايدن لجيش الاحتلال، يُعد دليلًا قاطعًا على أن البيت الأبيض "شريك أصيل"، في الجرائم المقترفة، ضد الشعب الفلسطيني، وكذلك الجرائم التي سوف تُقترف.

أيما يكن، فإن المعادلة صارت صفرية، لا بد لطرف فيها، أن يسحق الآخر، والغزو البري "جواب نهائي"، بينما تكمن المعضلة الإسرائيلية في عدم تحديد ميقاته بشكل حاسم، وهذا مرده على الأرجح إلى التشوش، إزاء الأهداف المرجوة والأهداف الممكنة، أو قل بين الأوهام والحقيقة.

كما يرجع التردد إلى تعقيدات عسكرية، تتجلى كلما أجرى جيش الاحتلال "بروفة غزو بري"، أي عملية توغل برية محدودة، إذ سرعان ما يتقهقر منسحبًا، أمام صلابة المقاومة، ومن دون تحقيق أهداف عسكرية، أو جني فوائد معنوية ذات قيمة، بل إنه يخرج على الأرجح مدحورًا، مثلما حدث في العملية التي أطلقت المقاومة عليها اسم "المسافة صفر"، وفيها "تفّرج العالم" على فيديو تدمير مقاتل "واحد" من كتائب القسام، دبابة إسرائيلية، بمنتهى اليسر والسلاسة، في نحو دقيقتين.

مشهد سيتكرر على الأرجح في حال مضت إسرائيل قدمًا، في تنفيذ تهديداتها بالغزو البري، والظاهر أن حرص الإعلام العسكري لحركة حماس على توثيقه وبثه، هو رسالة تفيد أن غزة لن تكون نزهة لجنود الاحتلال.

استئصال حماس.. أضغاث أحلام

على أي حال، فإن استئصال شأفة حماس، لن يكون مطلبًا يسيرًا، بالنظر إلى ما أظهره مقاتلو جناحها العسكري القسّام، من كفاءة قتالية يوم شنوا هجومهم برًا وبحرًا وجوًا، على جيش الاحتلال، والمؤكد كذلك أن حرب شوارع مع هؤلاء فوق أرضهم وتحت أرضهم (في الأنفاق) ستكون ضارية وطويلة ومؤلمة.

ولكن يبقى الاجتياح ضرورة صهيونية، باعتباره ضربة البداية لخطط التهجير، التي تعد الخيار الأفضل بالنسبة للاحتلال، كونه سيخلصه من هجمات المقاومة الآخذة في التطور كمًا ونوعًا، وهو سيناريو تؤازره واشنطن، وفق ما تسرّب بشأن طلب إدارة بايدن إلى الكونجرس، في خطاب رسمي، تخصيص 106 مليارات دولار، لدعم "المُهجّرين من غزة وأوكرانيا إثر الصراع الدامي هناك"، كما تقول الترجمة الحرفية للخطاب.

القصف الانتقامي لقطاع غزة، لم يزحزح المقاومة عن مواقفها قيد أنملة

كما سيجنب التهجير الكيان الإسرائيلي مغبة الانتقادات الدولية، جراء استمرار حصار غزة، ذلك مع الأخذ في الاعتبار أن الرأي العام العالمي، رغم هيمنة الدعاية الصهيونية على محتوى أكبر الشبكات الإخبارية، ورغم حصار السوشيال ميديا، ورغم ممارسات التضييق على الخبر والمعلومة والرأي، لم يعد مؤمنًا بالرواية الإسرائيلية، أو على أقل تقدير، لم يعد مؤمنًا بها كليًا، خاصة بعد جريمة حرب المستشفى المعمداني، ومن بعدها مجزرة جباليا، ومن بينهما اغتيال أسرة مراسل الجزيرة وائل الدحدوح.

والمعلوم أن غضبًا شعبيًا ضد جرائم إسرائيل، سيؤرق ساسة البلدان التي تختار صناديق الانتخاب فيها حكوماتها، ناهيك عن مظاهر الغضب في المحيط الإقليمي، ومن تجلياتها حملات مقاطعة السلع الأمريكية، وتلك مظاهر لا يرتاح لها ساكنو قصور الحكم العربية، سواء انتموا إلى معسكر الممانعة أو التطبيع، فجميعهم يخشون التقاء نيران الغضب من التخاذل عن نصرة الأشقاء، مع نيران الغضب جراء تدني الأحوال الاقتصادية، أو تقهقر حقوق الإنسان، وحينئذٍ قد يغدو عديدٌ من حاملي ألقاب الجلالة والسمو والفخامة بدورهم في مواجهة "طوفان موازٍ"، ما سيُسفر عن توابع تتصدع لها إسرائيل كذلك.

جبهات مفتوحة

على صعيد متصل، فإن التهجير ليس إلى أرض بغير أصحاب، وإذا كانت شبه جزيرة سيناء، عليها "العين والنية" كما يُشاع، فإن القاهرة رفضت رسميًا حتى مناقشة الموضوع، ذلك أنه سيُصفّي القضية الفلسطينية، كما سيخلق مشكلات أمنية على البوابة الشرقية للمحروسة، فالسيطرة على حراك فصائل المقاومة سيغدو عندئذٍ مسؤولية مصرية.

جبهة لبنان مرشحة أيضًا للاشتعال

ومما يزيد خطة التهجير صعوبة، أن القصف الانتقامي والوحشي والعشوائي لقطاع غزة، لم يزحزح المقاومة عن مواقفها قيد أنملة، بل إنها تترقب دخول الجيش الإسرائيلي بريًا، حتى تسنح الفرصة لمقاتلي القسام لتدشين جولة من الصراع، فيها درجة من التكافؤ، قياسًا بالضربات الجوية التي يعجزون عن التصدي لها، لعدم امتلاك منظومة دفاع جوي.

وعلى الجبهة الأخرى، تتزايد احتمالات دخول حزب الله اللبناني ساحة الصراع، إذا ما تحركت الآليات العسكرية الإسرائيلية غربًا، فالمناوشات الطفيفة حاليًا، قد تصير حرب استنزاف.

وفي أول كلمة له بعد صمت سبع سنوات، هدد الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، بأن الحرب قد يتسع نطاقها، معتبرًا أن كل الخيارات مطروحة.

ورغم أن سقف الكلمة لم يأت على مستوى توقعات الذين يرون أن الحزب رقم مهم في اللعبة حاليًا، فإن تحليلها بموضوعية، بغير تهويل أو تهوين، يؤشر إلى أن جبهة لبنان مرشحة أيضًا للاشتعال، مع مراعاة أن الحوثيين بدورهم دخلوا على الخط، بإطلاق صواريخ باليستية وطائرات مسيّرة.

والمؤكد أن إيران التي ترقب بعين الحذر، من موقعها في مياه الخليج الدافئة، لن تقف كالخُشب المسنّدة، في حال تعرضت حماس أو حزب الله لخطر وجودي، كونهما حجرين مركزيين في بنيان المقاومة، وسقوطهما سيسفر حتميًا عن أضرار على إيران ذاتها، وفي ظل ذلك، ربما يصير نشوب مواجهة خشنة "ولو محدودة" مع القوات الأمريكية في المنطقة، حتمية صيرورة وضرورة.

خسائر باهظة وسلطة مهتزة

وفقًا لتقرير لمجلة إيكونوميست البريطانية، فإن الجيش الإسرائيلي تنتظره حرب "قاسية وطويلة" في قطاع غزة، مما سيكلف الاحتلال خسائر بشرية فادحة، مع استبعاد إمكانية القضاء على حماس، نظرًا لتعقيدات متشابكة، منها أن ذلك يتطلب احتلالًا مباشرًا للأرض.

وعندئذٍ سيكون على الائتلاف الحكومي، مواجهة رأي عام داخلي غاضب، حانق، ويُحمله مسؤولية الفشل الذريع، الذي أسفر عن "نكسة السابع من أكتوبر".

كما ذكرت المجلة ذاتها، في تقرير آخر، أن قرار الحرب البرية يبدو مشوشًا، لأن هناك أزمة ثقة بين نتنياهو وقادة جيشه، "وهم منقسمون بشكل مدمر"، في الوقت الذي تضغط فيه القاعدة اليمينية المتشددة، على الحكومة لتنفيذ الوعود بسحق حماس.

 قد يشكل عرب 48 في أية لحظة شوكة في ظهر جيش الاحتلال

كلام لا يحتمل تأويلين، فتصريحات نتنياهو بسحق حماس محض "طق حنك"، وفق التعبير الفلسطيني، أو لعله أدلى بها قبل التشاور مع القادة العسكريين، الذين شرحوا له فيما بعد، الصعوبات التي تكتنف مطالبه، لكنه رغم ذلك لم يستطع التراجع.

ووفقًا لهذه المقدمات، فإن إسرائيل إزاء ورطة كبرى، إذ لا تعرف ماهية القرار العسكري المناسب، لحفظ ماء وجهها، فخوض حرب برية طويلة سيفرز خسائر وتداعيات فوق الاحتمال، وشن حرب محدودة النطاق، لن يؤدي إلى تقليم أظافر حماس، مع مراعاة أن مقاتلي الحركة متغلغلون في النسيج الاجتماعي لقطاع غزة، كما لن ترفع عملية محدودة رأس الجيش ولا رأس نتنياهو المنكستان، أمام المستوطنين.

فضلًا عن ذلك، هنالك جبهة عرب 48 التي يتخوف ساسة الكيان وجنرالاته من وصول شرارة الغضب إلى صدورهم، إذ ليس مأمونًا الرهان على استكانتهم، أمام الوحشية التي يكابدها بنو وطنهم في غزة، وقد يشكلون في أية لحظة شوكة في ظهر جيش الاحتلال، بينما يخطط لاجتياح بري، وإذ يحدوه الخوف والرهبة، من أن تغدو غزة "أرض تيه" يدخلها فلا يعرف كيفية الخروج من متاهاتها.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.