فرضت الحرب نفسها على كل جوارحي، انغمست فيها ذهنيًا ونفسيًا كما لم يحدث منذ سنوات طويلة، على مدى شهر كتبت ثلاثة مقالات وأجريت حوارين، ومنذ أيام سافرت سبع ساعات لأشارك في المظاهرة الداعمة لفلسطين في العاصمة الأمريكية واشنطن، التي حضرها ما بين 300 إلى 350 ألف إنسان، وهو عدد كبير جدًا في بلدٍ يعد إسرائيل جزءًا لا يتجزأ منه، وهذا الحضور يجب تحيته والإشادة به.
حرب يومية طوال شهر كامل بين القوى الداعمة بشكل مطلق لإسرائيل، ومعها المنصات الإعلامية والمواقف السياسية الرسمية، والقوى الداعمة للحق الفلسطيني، التي تمتلك الشجاعة والاستعداد لمجابهة هذا السعار بالرغم من كل التكاليف التي قد تترتب عليه.
صحيح أن حرية الرأي والتعبير غير مُقيدة في الولايات المتحدة خلافًا لبلد مثل ألمانيا، لكن تكتيكات القمع الأمريكي تأخذ أشكالًا مختلفة، تعتمد بشكل أساسي على حرية سلطة السوق في العقاب والتحجيم والتحييد، وبقدر حجم نفوذ القوى الداعمة لإسرائيل بقدر ما أنت مُعرض إلى قطع الرزق، والفصل من العمل، وحملات التشوية والإلغاء.
لم يصل الأمر إلى مرحلة المكارثية بعد، بمعنى أنه حتى الآن، لم تترتب على السعار الرسمي والإعلامي السائد إجراءات قانونية عقابية مُقيدة للحريات ضد الكتل والأفراد المناهضين لإسرائيل.
بكم ثمن لحمي اليوم؟
سبب رئيسي لتعطيل الماكينة المكارثية المحتملة تلك، هو حضور الكتلة اليهودية الصلبة المعادية لإسرائيل في الصفوف الأمامية أمام الحملة المسعورة الداعمة لها.
بدأت الحملة بمحاولة مقاربة عصيان 7 أكتوبر/تشرين الأول المسلح، بهجمات 11 سبتمبر /أيلول 2001، وهذا التكتيك فشل تمامًا حتى الآن، ليترتب على ذلك محاولة وضع داعمي الحق الفلسطيني في خانة معاداة السامية، كمدخل وحيد لتبرير استمرار السعار ضدهم، وهو الأمر الذي يربكه ويخربه وجود تلك الكتلة اليهودية الصلبة المعارضة لإسرائيل.
لكن ولأن الصراع صار عاريًا ومحضًا، أصبحت يوميات الجدال تدور حول قيمة كيلو اللحم الفلسطيني. بدأها وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت من الأيام الأولى بإعلانه الفلسطينيين حيوانات بشرية. وبينما تدور محرقة الإبادة في غزة، تخرج علينا نيويورك تايمز بقصص مصورة عن إسرائيليين يعانون كرب ما بعد الصدمة من جراء ما شاهدوه يوم 7 أكتوبر، إحدى هذه الصور كانت لسيدة تضع يديها على رأسها حزنًا وقلقًا إلى جوار كلبها، بينما يُباد الأطفال على الجانب الآخر يوميًا وعلى الهواء.
هذه الأجواء تُعيد الجدل إلى مربعه الأول والبدائي، هل قيمة اللحم الفلسطيني أرخص، ولذلك يوغل الإسرائيليون في الانتقام بعد أن مات منهم قرابة 1400 شخص في يوم واحد؟ ومتى ستتوقف شهية الثأر؟ حين يموت أمام كل إسرائيلي خمسون فلسطينيًا مثلًا، أي عندما يموت مائة ألف فلسطيني؟
لذلك، أقسمت بشكل شخصي من اللحظة الأولى على أن يكون هذا مدخل اشتباكي مع كل من أقابله. لن أنطلق من مبدأ أو حق، بل بسؤال عن قيمة كيلو اللحم مني، اللحم وليس الروح. لماذا لحمي أرخص؟ أفعل ذلك بشكل واعٍ ليصل النقاش إلى النقطة التي أريدها بالظبط، وهو أنَّ لحمنا مر، فحذار.
نحن في لحظة تجاوزنا فيها مرحلة توضيح الرؤية، لأنَّ الأمور واضحة والرؤية كذلك، من معك معك ومن ضدك ضدك، يعلم من ضدك الآن أنك تُقذف بالقنابل الحارقة، تجاوزنا مرحلة الإنكار واتهام المقاومة الفلسطينية بقصف مستشفيات غزة بالخطأ. لقد وصلنا إلى مرحلة يقال لك فيها: حسنًا، فلتموتوا وتذهب أرواحكم إلى الجحيم يا من لا تستحقون الحياة. وتلك قواعد اللعبة.
من وصل إلى هذه العتبة فهو متحصن داخل خندق كفرد داخل حرب، وهي حرب بالفعل ولكنها دون قوانين.
ما بعد "الحقيقة الأمريكية"
شاع في السنوات الماضية مصطلح "ما بعد الحقيقة" للتعبير عن اختيار الأفراد المنتمين إلى أطراف وانحيازات سياسية متصارعة، بمحض إراداتهم الحرة، رؤية الحقيقة التي يريدون رؤيتها، مهما توَّفرت أمامهم ما قد يدحضها من معلومات ووقائع.
لا يوجد شيء اسمه "ما بعد الحقيقة" في تقديري. كلُّ ما في الأمر أنَّ التكنولوجيا المعاصرة لم تعد تمنحنا قدرة الإنكار الذي يمنحنا الطمأنينة وراحة الضمير، بالشكل الذي يساعد على تشكيل معسكرات للخير المطلق والشر المطلق، لأنه لم يكن هناك في يوم من الأيام "حقيقة" صافية.
الحقائق الآن تُبثُّ حيَّة، ويمكن التأكد طوال الوقت من صحتها أو فبركتها. أما "ما بعد الحقيقة" كمصطلح، فأصبح أكثر شيوعًا لأن الحقيقة صارت أوضح من أي لحظة مضت، بشكل كشف أنَّ المسألة برمتها مسألة اختيار وانحياز، لأنَّ كلَّ شخص ينحاز إلى معسكره في لحظات الصراع.
لكنَّ صميم المشكلة في حالة الولايات المتحدة تتجلى في أنَّ الليبرالية الأمريكية تؤمن بنفسها إيمانًا دينيًا غير عقلاني، حتى إنها صارت في السنوات الماضية تصوب لك لسانك على طريقة "قل ولا تقل". لذا فهي بالتبعية والبداهة تمتلك مجمل الحقيقة من وجهة نظرها، لدرجة اعتبار أيِّ انحياز آخر نوعًا من أنواع "ما بعد الحقيقة".
من يمتلك القدرة والشجاعة على إيجاز تاريخ الإنسانية في 460 صفحة، يسهل عليه التهديد بإفنائها
نحن أمام أصحاب جماعة مهيمنة من البشر لديها حقيقة واحدة، ومن داخل هذه الذهنية الليبرالية التي لا تسمع إلا صدى صوتها الموجود في غرف محكمة الغلق، أصبح أيُّ خروج عن منطقها هو "اللا حقيقة"، بألف لام التعريف، وهنا فقط يمكنك أن تفهم كيف يتمكن هؤلاء من التعايش يوميًا مع الإبادة الجماعية في غزة.
الصراع الآن ليس حول التشكيك في حقيقة تعرِّض الإنسان الفلسطيني للقتل من عدمه، بل في قيمة قتله وأثره على وجودك الإنساني وتعريفك الذاتي للضمير، وهو اختبار تدرك معه أنَّ ما تسميه دائمًا "حقيقة" هو وكالعادة، ترجمة لقناعات نظرية وفلسفية وتعبير عن انحياز فكري ووجداني، أي أيديولوجي بالتبعية، مهما ادعى البعض موت الأيديولوجيا.
إن إدعاء الحياد المجرد والقدرة "العلمية" المحضة على تفسير الأشياء والظواهر، والاستعلاء على الأيديولوجيا باعتبارها شيئًا من الماضي، يثبت يومًا وراء يوم كذبه وتأزمه بشكل يخفي خلفه وجودًا بشريًا شديد الخطورة والكآبة والغرور.
منذ أيام أطلَّ علينا المفكر "الأعلى مبيعًا" يوفال نوح هراري، مؤلف كتاب "العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري"، وهو كتاب حاز شهرة عالمية ومبيعات قياسية، بعد أن حاول فيه تأريخ مجمل الوجود البشري ومستقبله في 460 صفحة من القطع المتوسط.
أطلَّ علينا هذا اليوفال من خلال شاشة تليفزيون يابانية محذرًا بدل المرة ثلاثًا، بأن إسرائيل ستُقدم على استخدام السلاح النووي ضد أعدائها متى رأت ذلك مناسبُا. قال ذلك بوجه بارد لم تتحرك فيه عضلة واحدة، فالرجل الذي امتلك القدرة والشجاعة على إيجاز تاريخ الإنسانية في كتاب باسم "الحقيقة الواقعة الباردة"، يمكن له بنفس درجة اليقين والبرود أن يهدد بإفنائها.
لذا وفي جانب ما من الأمر، هناك حربٌ تدور الآن في مواجهة ما تم فرضه على العالم باعتباره "حقائق"، والتجاسر على خوض هذه الحرب هو ما يفسر هستيرية وجنون الطرف الآخر.