منشور
الخميس 9 نوفمبر 2023
- آخر تحديث
الخميس 9 نوفمبر 2023
في المقال السابق، قلت إن قضيتنا الفلسطينية إنسانية وليست طائفية، لكني لم أضع "الإنسانية" مقابل "الدينية" في ثنائية متقابلة أو استقطاب جديد مصطنع. ولا يعني وقوفنا في مواجهة المتعصبين عقائديًا أو قوميًا رافضين مجاراة الصهاينة في اعتبار الصراع دينيًا أو عرقيًا، أن نفتعل مفاصلة بين ما هو إنساني وما هو ديني.
لا أظن أننا، في مصر، نعاني من عبء موروث من القرن العشرين أثقل من الاستقطاب الإسلامي العلماني، بكل ثنائياته البائسة وضيق أفقه. وحتى لا أترك فكرتي عرضة للتأويل بأنها تصبُّ في تغذية هذا الاستقطاب اللعين، وجب الإيضاح.
السبت لأجل الإنسان
عاب الفرّيسيّون على المسيح ابن مريم ترك تلاميذه يقطفون سنابل قمح ليأكلوا منها عندما جاعوا في يوم السبت؛ إذ رأوهم بذلك مخالفين للناموس/الشريعة التي تحرِّم العمل في هذا اليوم. فأجابهم المسيح إجابته الخالدة "السَّبْتُ إِنّمَا جُعِلَ لِأَجْلِ الإِنْسَان، لَا الإِنسَانُ لِأَجْلِ السَّبْت".
وهكذا، لا تعني نزعتنا الإنسانية أن نترك شرائع أدياننا، بل أن نفهمها فهمًا يصب في خدمة مصلحة الإنسان. وليس في ذلك شيء غريب على شريعة الإسلام؛ تلك التي اتفق جماهير علمائها على أن لها خمسة مقاصد كلية، أربعة منها متعلقة بالإنسان؛ حفظ النفس والعقل والنسل والمال، ويضاف إليها حفظ العِرض، أي السمعة والكرامة.
العصبية الدينية التي نسميها بالنزعة الطائفية هي، بالمصطلح الإسلامي، عصبية جاهلية
فإذا أمكن قراءة شريعة موسى وعيسى أنها من أجل الإنسان، بتعليم المسيح نفسه، وإن كانت شريعة محمد تقصد إلى حفظ حياة الإنسان وجسده وكرامته ونسله وعقله وماله، فأين التضاد بين النزعتين الإنسانية والدينية؟
النزعة الطائفية نزعة تعصب بالأساس، وليست مجرد حماسة وتديّن. والمرفوض فيها ليس حب الدين والغيرة عليه والتمسك به، أو حتى الاستشهاد في سبيله، وإنما نرفض انحياز المتعصب الطائفي بشكل مطلق أعمى لأتباع دينه مهما أخطأوا أو أجرموا، أو عداءه لأي مخالف في العقيدة، مهما كان صاحب حق ومجنيًّا عليه. تلك النزعة العصبية هي التي كانت تمثلها مقولة عرب الجاهلية القديمة "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، والأخ هنا هو أخو القبيلة.
لذلك، استغرب الصحابة أن يُكرر النبي محمد في حديث نبوي في المدينة، أي بعد مرور سنين طويلة من التربية والتهذيب، المقولة الجهولة المتعصبة ذاتها، وهو الذي أبلغهم بأمر الله لهم أن يكونوا "قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِين". فبيّن الرسول مقصده بأن نصر أخيك المظلوم إنما يكون بكفه عن ظلمه، أي كأنه استعمل المقولة الشهيرة في مجتمعهم القديم لجذب الانتباه وتغيير المفاهيم.
إذن، فمواجهة الظالم من دين المتدين وكف أذاه عن المظلوم من دين آخر هو في حقيقة الأمر وجوهره نصر ومؤازرة منه لأخيه في العقيدة الدينية، حتى لو كان في الظاهر نصرًا للمظلوم المخالف فقط. بمعنىً آخر، هو نصر للظالم على نفسه الظالمة الأمّارة بالسوء. لكنَّ العصبية الدينية التي نسميها بالنزعة الطائفية فهي، بالمصطلح الإسلامي، عصبية "جاهلية"، تنحاز للأخ ضد ابن العم، ولابن العم ضد الغريب، مهما كان القريب ظالمًا أو جائرًا.
وهنا نكتشف مفارقات التناقض لدى الطائفيين من المسلمين. فهؤلاء يؤمنون بأحاديث نصّت وفصّلت في وجوب الرحمة بالحيوان؛ مثل دخول امرأة النار لحبسها قطة، أو غفران الله لبغيّ (عاهرة) بسبب سقايتها لكلب عطشان. وفي الوقت ذاته، يستكثرون على أخيهم الإنسان المخالف لهم في الدين أن يُنصَف ويُنصَر على ابن دينهم إذا ظلمه، وهم المؤمنون بأن الله كرَّم بني آدم، وأنه جعل الناس شعوبًا وقبائل ليتعارفوا، وأن الناس سواسية كأسنان المشط!
ننصر الأقصى وكنيسة المهد والمعبد
لا أريد الاستفاضة في مجادلات مستندة إلى نصوص دينية، خصوصًا المثيرة لكثير من القراءات والتأويلات المتباينة. لكني أذكر بالخير الدكتور طه جابر العلواني الذي رفض إغراءً صهيونيًا بالدعم السخي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي في مقره الأم بولاية فيرجينيا الأمريكية، حين كان رئيسًا له، مقابل زيارته للمسجد الأقصى.
حكى لي العلواني أن الوفد الذي زاره حاول إغراءه، وهو العراقي البصري ثم الأزهري المصري، بزيارة المسجد الأقصى، ليستثمروا في رمزيته وشهرته ويروجون أن كبار العلماء يزورون القدس الشرقية، بأريحية، عبر مطار بن جوريون في تل أبيب، فكان رده مفاجئًا لهم؛ إنه مسجد من بين مساجد كثيرة ويمكنه الصلاة في أي مكان.
بالطبع كان العلواني يعلم قيمة المسجد الأقصى وخصوصيته التي تجعله تاليًا في المكانة للحرمين في مكة والمدينة المنورة على الترتيب، لكنه أراد أن يرفض هذه اللعبة. فالحق الفلسطيني ليس متمحورًا حول الأقصى كمسجد ذي مكانة استثنائية عند المسلمين، كما هو ليس مرتكزًا على تحرير المقدسات المسيحية، ولا يرفض وجود دور عبادة لليهود وآخرين خارج الأوقاف الإسلامية والمسيحية.. فالأمر أكبر من ذلك.
لو كانت فلسطين تخلو من مقدسات دينية، لما نقص ذلك من قدسية قضيتها الإنسانية شيئًا
فإذا كان الحديث النبوي يضع حرمة دم الإنسان (المسلم) أكبر عند الله من أن تهدم الكعبة حجرًا حجرًا، فمن باب أولى أن تكون حرمة دم الطفل الواحد، أيًا كان دين والديه، أعظم حرمة عند الله من أن يهدم المسجد الأقصى حجرًا حجرًا. فكم مرة هُدم الأقصى منذ احتلال القدس في يونيو/حزيران 1967؟
الدوافع دينية.. والغاية إنسانية
لكل ما سبق، فإنَّ المتدين الذي يرى في نصرة فلسطين واجبًا مقدسًا، ليس مطالبًا أن يتخلى عن دوافعه الدينية وحماسته، بل أن "يؤنسنها". فمن مات دون نفسه أو ماله أو أهله فهو شهيد، وهذه كلها حقوق إنسانية يجب حفظها والذود عنها. والشهادة مصطلح ديني ومكافأة آخروية يطمح إليها المؤمنون.
فلتكن القدسية، إذن، ليست في الدفاع فقط عن مسجد بعينه أو مساجد عدة، بل كما فرض الله القتال على المسلمين دفعًا أن تُهدّم "صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ الله كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ". والعطف يقتضي المغايرة، فالمساجد معطوفة على الصوامع والبيع والصلوات، أي دور عبادة تغاير المساجد وتختلف عنها.
ولو كانت القضية الفلسطينية تخلو من مقدسات دينية كأراضٍ وأبنية، لما نقص ذلك من قدسيتها الإنسانية شيئًا، ولا كان في ذلك إعفاء للمؤمنين الصادقين من واجبهم تجاه أصحاب الحق في الحياة وسلامة الأجساد، والحق في تمسكهم بأرضهم ووجودهم فيها كأفراد وكشعب ذي ثقافة وتاريخ وهوية. ولو تردد أحدٌ إلى أي جانب ينبغي له أن ينحاز لو كان معاصرًا لجرائم الإبادة الجماعية للسكان الأصليين "الوثنيين" في القارات التي ادعى المستعمرون من "أهل الكتاب" أنهم "اكتشفوها"، فيكون المتردد أبعد ما يكون عن فهم القرآن، فضلًا عن الامتثال له.
فالدوافع الدينية لنصرة صاحب الحق؛ أي الإنسان "ولو مالوش عنوان"، مطلوبة ومشكورة، وهي ليست طائفية في ذاتها. أما الغاية والمقصد من هذه النصرة فقد يكون طائفيًا متعصبًا، أو دينيًا متسامحًا مع الغير، أو إنسانيًا جامعًا معتزًا بدينه مستمسكًا وجاهرًا به. وإلى الأخير أميل وأنحاز، وبهذا عرفت الله، وأتقرب إليه.