حين كان المرور إلى قطاع غزة عبر الأنفاق من رفح متاحًا وميسورًا عقب الثورة، ربما مقابل بضعة دولارات، أو حتى مجانًا إذا كان لدى المار معرفة بالقائمين على النفق، اخترت ألا أذهب. كنت أقف عند محمية الأحراش في رفح المصرية أمتع عينيّ برؤية أقصى جنوب غرب فلسطين، وربما أحبس فيهما دمعتين بقيد العقل اللاجم لفيضان العاطفة.
كان في قراري بُعْدٌ أمني؛ إذ كانت الحركة، خصوصًا حركة الأفراد، مراقبة ومسجلة من قبل أكثر من جهاز أمني، مصري وغير مصري. وكنت صاحب مشروع بحثي وصحفي وإنساني في سيناء، فلماذا الإرباك والتعقيد والتشتيت؟
وكان في الأمر، أيضًا، موقفٌ نقدي. فقد رفضت أن أكون واحدًا من أولئك المخلصين الداعمين لأهلنا في فلسطين في قوافل كسر الحصار على غزة، الذين لم يتوقفوا في سيناء سوى لاحتساء مشروب ساخن على الطريق، في وقت كان أهل سيناء يتعرضون لما لا يمكن تصوره من قمع، بمعايير زمان مبارك.
أنا واحد من أولئك الذين تشكَّل وجدانهم بالانتفاضتين الأولى والثانية، وشبّوا على صورة فارس عودة الذي واجه الدبابة الإسرائيلية بحجر، وقهرهم مشهد تصفية محمد الدرة. تركت الإسلاميين منذ زمن، وتجاوزت خطابهم الأيديولوجي وعارضته وحاربته، لكن لا يزال في أعماق روحي شيء يحوم في سماء فلسطين لامَستْه مظلات المقاومة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 فأفاض الدمع المحبوس على أعتاب أحراش رفح.
صحّحت وجهتي؛ فلم أعد أرى الصراع دينيًا، ولم تعد مشكلتي مع اليهود، بل ضد الصهاينة المعتدين العنصريين، وضد المتصهينين المتواطئين. راجعت نفسي على مراحل؛ فاستمعت إلى ما قال القرضاوي واتبعتُ أحسنه، وأشهد له أنه كان من الأصوات القليلة التي نبّهت أن تعميم الدعاء على اليهود من الاعتداء في الدعاء، وأنه مخالف للسنة. ولا ينفي ذلك أخطاءً أخرى اقترفها.
بعد مرحلة قصر الدعاء على المعتدين، راجعت نفسي وأفكاري، فرأيت الانتصار للحق ضد المعتدي واجبًا ولو كان مسلمًا، ونصرة الضعيف والمظلوم فريضةً مهما كان دينه. وقرأت وعرفت أن المضطهدين في فلسطين ليسوا فقط من المسلمين، بل فيهم مسيحيون أرثوذكس وكاثوليك وطوائف أخرى، وأن بعض المسيحيين الأقباط شاركوا في كتائب المتطوعين في حرب 1948.
تركت الإسلاميين وأفكارهم الأيديولوجية، ولم أترك الإسلام كدين عظيم يرى القتال لنصرة المستضعفين واجبًا، ويجعل إنصاف الحق فريضة مكتوبة وأمرًا إلهيًا ولو على أنفسنا والوالدين والأقربين. فاحتفظت بكل معاني الفداء والتضحية والاستماتة من أجل الاستشهاد لنصرة الإنسان، فإن لم يكن هذا الإنسان فلسطينيًا فمن يكون؟!
ويوم السبت الفائت، بكيت كما لم أبكِ يوم الجمعة القريب حين خُلع مبارك، أو تنحّى، وذلك حين أبهرتني المقاومة الفلسطينية العظيمة بما فعلته يوم السابع من أكتوبر. وكتبت على السوشيال ميديا ما معناه: إذا سألك ولدك ماذا حصل بعد السبت 6 أكتوبر؟ فقل له: السبت 7 أكتوبر. الفارق بينهما نصف قرن، لكننا أصحاب الحق!
لقد صنعت المقاومة عبورًا ثانيًا عظيمًا من فوق الجدار المحاصر لغزة، من دون أن يكون لفلسطين دولة كاملة السيادة ومطارات ومواني وصفقات سلاح سوفيتي واعتراف دولي وسفارات في العواصم المهمة، كما كان لمصر إبّان حرب أكتوبر 1973. كما أن المقاومة لم تنسّق مع أطراف عربية أخرى على جبهات شمالية وشرقية، ولم تدعمها اقتصادات النفط العربي ولا كتائب من الخليج والجزائر والسودان.
لقد صنعت المقاومة في ذلك اليوم الخالد تاريخًا ودروسًا عميقة للأكاديميات العسكرية والاستراتيجية والآداب والفنون، ستظل مصدر إلهامٍ ومحلَّ احتفاءٍ وتدوين وجدال لعقود طويلة مقبلة، ولن يقلل منها شكوك المرتابين ولا انهزام ذوي الخيال الأسير، فضلًا عن المتصهينين والمطبّعين العرب، أو أذيال المجرمين في بلادنا وحول العالم.
لجام العقل للعواطف والأدرينالين
في اليوم نفسه كنت على موعد مع أسرة الصياد علاء فتح الله أبو هيكل لتقديم واجب العزاء في فقيدهم، المتوفى في سجن العاشر من رمضان بعد 3 سنوات من الحبس الاحتياطي العبثي من غير إحالة للمحاكمة. وصلت رشيد في طريقي إلى قرية "السكري"، المتاخمة لقرية "برج مغيزل" على الضفة الشرقية من فرع رشيد قبيل مصبه في البحر المتوسط، فكان في استقبالي على الكورنيش لوحة فنية تخلد ذكرى معركة رشيد التاريخية ضد الاحتلال الفرنسي، فابتسمت للمصادفة.
سرتُ تتضاربني المشاعر بين القمامة والمصرف الملوث حتى وصلت البيت المكلوم، فرأيت أرملته وأيتامه وأقاربهم. أديت الواجب ووصّلت الأمانة، وأجرى الله على لساني ما رفع من معنويات ابنته الكبرى التي كانت في حالة بالغة السوء. فرثيتُ أباها، الذي تعلم القراءة والكتابة على يد توفيق غانم في سجن أبي زعبل قبل ترحيله إلى سجن العاشر، وبدأ حفظ بعض السور بعد أن قرأ في المصحف لأول مرة في حياته، وشجّعتُها أن تستكمل الطريق وألا تترك التعليم.
كان السياق مناسبًا للخطاب الديني الداعم المصبّر، بلا تخدير ولا تواكل، فذكّرتها بحديث النبي "مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ الله حَتّى يَرْجِعَ"، ولم يرجع أبوها، فنحتسبه شهيدًا عند الله، سيشهد يوم القيامة على ما تعرض له من الظلم في الدنيا. فعليها أن تفتخر بأبيها الذي لم يمت ظالمًا ولا جاهلًا، بل ختم حياته متعلمًا مظلومًا صابرًا.
طريقنا طويل بطول الزمن الذي سنستغرقه في تضميد جروح سيناء ووادي النيل
لملمتُ شتات نفسي وقلبي المنفطر، وعدت أجرّ قدمين لم تتجلّدا لحملي أكثر من ذلك، وفوق كتفيّ رأس تدور به أسئلةٌ شتى؛ وأهمها: كيف يمكننا أن نكون ظهيرًا للمقاومة وهذه أحوالنا؟ أليس الطريق طويلًا طويلًا؟!
بيان الأزهر المزعج
حين حل المساء، أصدر الأزهر بيانه الذي أزعج السلطات، وأزعجني لسبب مختلف. أوصت السلطات شيخ الأزهر، شفهيًا/تليفونيًا، بتخفيف اللهجة وتبنّي خطاب يدعو إلى التهدئة وتخفيف خطاب دعم المقاومة ونصرة القضية الفلسطينية. كما اتجهت، عبر وزارة الأوقاف، إلى التجهيز لاحتواء المشاعر الجماهيرية في صلاة الجمعة المرتقبة.
وهكذا، انزعجت السلطة لما يهمها. وانزعجت أنا للسبب ذاته الذي صدّرت به مقالي؛ إذْ أن الطريق من الأزهر إلى فلسطين لا بد أن يمر، حتمًا، بسيناء. فحتى متى يقفز أهل وادي النيل من فوق الطريق، أو يمرون على جزيرة الصمود مرور الضيوف الكرام؟
إذا كانت قضية الصيادين في مطوبس-كفر الشيخ مجرد مثال على العقبات التي تعيق تقدمنا نحو نصرة المقاومة والإنسان الفلسطيني، فكيف لنا أن نصمت عن العقبة الكؤود في سيناء؟!
لا تُذكر سيناء الآن إلا في سياق التخوّف من مخطط إسرائيلي لتهجير أهل فلسطين وتوطينهم فيها، وهو ما يرفضه إجماع الشعب الفلسطيني قبل أن ترفضه الدولة المصرية. ولا يذكر الأزهر، ولا غير الأزهر، أهل سيناء أنفسهم، الذين اعتادوا أن ينكروا ذواتهم ويكتموا جراحهم إذا تعلق الأمر بفلسطين.
فإذا كان الوجدان في فلسطين، والمشاعر في ربوعها، والروح تحلّق في سمائها، فإن العقل هنا في القاهرة والإسكندرية وعموم وادي النيل يعلم أن طول طريقنا نحو تحرير الإنسان الفلسطيني ليس في المسافة التي يقطعها الراكب من قناة السويس إلى معبر رفح أو طابا وما بينهما. فطريقنا طويل بطول الزمن الذي سنستغرقه في تضميد جروح سيناء ووادي النيل.
فالبداية من هنا...