حين كتبت مقالي عن عيد الأم المكلومة ورمضان الحزين في 30 مارس/آذار الماضي، لم أكن أعرف إذا كان الإفصاح عن تفاصيل مأساة صيّادي قريتي برج مغيزل والسكري مفيدًا لهم ولأهاليهم أم لا؟
كان المقال مبهمًا عن المأساة الإنسانية والاجتماعية التي يعيشها، من ضمن آلاف الغلابة في أنحاء مصر، أفرادُ حوالي 40 أسرة، أغلبها في قرية برج مغيزل، وقليل منهم في قرية السكري المتاخمة لها، التابعتين لمركز مطوبس بمحافظة كفر الشيخ. لكني أبوح وأفصح الآن بعد أن فاض بهم الكيل حتى صار كالطوفان.
البحر من أمامهم والسجن من خلفهم
قرية برج مغيزل هي ملتقى مصب فرع رشيد النيلي في البحر الأبيض المتوسط. فيها شاطئ شعبي مقوّس، يجمع بين الماء العذب من ناحية الغرب والمالح من ناحية الشمال. يقابلها من الناحية الغربية لفرع رشيد، المدينة التي سمّي الفرع باسمها، وتوابعها مثل قرية برج رشيد الأثري.
بحكم الموقع والتاريخ، يعمل أغلب رجال القرية، ومعهم رجال قرية السكري المتاخمة لها من ناحية الجنوب، في مهن مرتبطة بالبحر؛ إما الصيد، أو الإبحار، أو صيانة القوارب وتصنيعها، أو الاتّجار في الأسماك. وبحكم الموقع والاقتصاد والاجتماع والسياسة، كانت برج مغيزل نقطة انطلاق أساسية في عمليات الهجرة غير المنظمة والتسلل البحري من أفريقيا إلى أوروبا.
ولأن رشيد هي الأشهر والأكبر، فإن الحادث المفجع في 21 سبتمبر/أيلول 2016، الذي راح ضحيته أكثر من 200 مهاجر مصري وأفريقي، عرف باسم حادث مركب رشيد. والحقيقة أن أغلب الضحايا المصريين هم من شباب قرية برج مغيزل، كما بحارة المركب أيضًا.
بعد الحادث المرير والمفجع، صُرفت أنظار المتطلعين إلى الهجرة من شباب القرية عن تلك المخاطرة، وقنعوا بما هو مقدر عليهم، كما كان مقدرًا على آبائهم وأجدادهم: أن يطلبوا رزقهم من البحر بالأيام والأسابيع، ثم يعودون بما يجود عليهم، إذا لم يغدر بهم وتمكنوا من العودة أصلًا.
ليسوا كلهم صيادين، بل منهم عمال وبحّارة ورؤساء مراكب، وندرة منهم هم أصحاب مراكب. وبعد إفساد مياه خليج أبي قير بالصرف الصناعي لشركتي الأسمدة (أبي قير) والورق (راكتا)، باتت السواحل المصرية في البحر المتوسط فقيرة الثروة السمكية. ولأن الاتجاه شرقًا غير متاح لأسباب أمنية وسياسية، فإن السعي في طلب الرزق لا يعني سوى الاتجاه غربًا، إلى خليج سرت وغيره من الخلجان التي يكون للصيد فيها عائد مجزٍ.
إذا لم تكن الاتهامات جدية، ولم تُحِلهم نيابة أمن الدولة العليا إلى المحاكمة حتى الآن، فلماذا لا يخرجون؟
في الغرب، يعمل صيّادو برج مغيزل في كل من ليبيا وتونس، كلهم تقريبًا بشكل شرعي. ومنهم مجموعة أرادت أن تعود إلى بلدتها في رمضان 2020 مع أهاليهم، لكن وباء كورونا حال بينهم وبين العودة بالطائرات. أصرّ بعضهم على الإفطار مع أهله، فما كان من البقية غير أن رضخوا، واستقلّوا ميكروباصات عائدين إلى مصر عبر الطريق البري.
في معبر السلوم سُئلوا عن المدينة القادمين منها، فأجابوا بصدق: مصراتة.
ومن هنا بدأت المأساة...
مدانون ولو ثبتت براءتهم
عرفتُ مجموعة صيادي برج مغيزل في سجن بدر 1، حيث قضيت الشهرين الأخيرين من سجني الذي امتد لسبع سنوات، قضيت غالبيتها الغالبة مع الجنائيين. لم أكن سمعت بقضيتهم، لكني شهدت على حسن معاملة ضابط الأمن الوطني لهم، وأخبروني بأنهم تلقّوا وعودًا بانتهاء أزمتهم قريبًا. كان ذلك في أكتوبر/تشرين الأول 2022.
تعلمت من تجربة سجني الطويلة ألا أصدق رواية من طرف واحد، مهما كان تعاطفي مع راويها أو ثقتي فيه. لذلك، لن أحكي كل ما قيل لي على ألسنتهم، رغم صلاحية كثير منه للنشر وجاذبيته في القراءة، ومأساويته منقطعة النظير.
أود فقط أن أسأل بعضًا من الأسئلة المنطقية، رغم الهراء الذي تصل إليه أية محاولة للتفكير المنطقي في مثل ظروفنا وأحوالنا.
بدأت معاناة صيادي برج مغيزل في مارس 2020، أي أنهم تخطوا الحد الأقصى للحبس الاحتياطي، فماذا يعني بقاؤهم في السجن لأكثر من 3 سنوات واستمرار تجديد حبسهم؟ وإلى متى؟
قُبض عليهم تباعًا، من معبر السلوم، أو من المطار، أو من بيوت بعضهم، في ظل حالة الطوارئ. ووُجّهت إليهم في التحقيقات تهمة خطيرة متعلقة بتهريب السلاح في المراكب إلى أحد أطراف النزاع المسلح في ليبيا. فإذا كان ذلك الاتهام الخطير جديًّا، فلماذا لم تتم إحالتهم إلى محكمة أمن الدولة العليا طوارئ التي لا يُستأنف على أحكامها؟ وهو السؤال نفسه الذي سألته المحامية الحقوقية ماهينور المصري للقاضي في جلسة التجديد الأخيرة.
إذا لم تكن الاتهامات جدية، ولم تُحِلهم نيابة أمن الدولة العليا إلى المحاكمة حتى الآن، فلماذا لا يخرجون؟
ألا يعلم القضاة الذين يُصدرون قرارات تجديد الحبس أن 3 سنوات في السجن هي عقوبة قاسية تعرّض لها من لم تثبت إدانتهم؟ بل لم تبدأ محاكمتهم من الأساس؟
وبعيدًا عن القوانين وتطبيقها والعمل بمقتضاها، عندي سؤال من قلب الواقع العملي كما اعتركتُه واعتركني: إذا كان ضباط الأمن الوطني غير مضطرين إلى حسن معاملة سجناء واقعين في قبضتهم، مقارنةً بغيرهم من الذين تساء معاملتهم، لأسباب موضوعية (كالتورط في قتل زملائهم أو التحريض على ذلك أو الشماتة فيهم) أو حتى من غير أسباب، فماذا نفهم من المعاملة الحسنة للصيادين؟
يضاف إلى ذلك أن صيادي برج مغيزل لم يسمع بهم أحد تقريبًا، فلا يوجد ارتباط بين حسن المعاملة وضجة إعلامية أو حقوقية، بل هم أغلب من الغُلب. وحتى حين أنتجت بي بي سي تقريرًا مصورًا عنهم، كان تعليق عصام شيحة، عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، أنه لم يسمع عن صيادين يتم التجديد لهم في قضية سياسية، وأنه لن يتعاطف مع خرق القوانين، ربما لظنه أنهم متهمون بالتورط في هجرة غير منظمة.
الخروج أو المحاكمة
فجر الأحد الماضي، الموافق 21 مايو/أيار، احتشدت نساء أسر الصيادين من قريتي برج مغيزل والسكري، وركبن معًا حافلتيْ ميكروباص، ليصِلْن على باب المجلس القومي لحقوق الإنسان في تمام الساعة التاسعة.
كانت المحامية ماهينور المصري في انتظارهم، بحسب موعد مسبق رتبته الحقوقية راجية عمران، العضوة السابقة بالمجلس. استقبلهن موظفو المجلس، على رأسهم نبيل شلبي، الذي وعد بإيصال صوتهن لأعضاء المجلس المشغولين في الحوار الوطني.
وهناك، قمن بملء استمارات العفو بأنفسهن، بعد أن كان أهل الخير قد ساعدوهن في إرسال تلك الاستمارات إلكترونيًا أكثر من مرة إلى لجنة العفو. وبعد ملء الاستمارات، قدمت ماهينور المصري طلبًا، بصفتها وكيلة المتهمين، ومعها الأهالي، يطلبن فيه أن تحال القضية إلى المحاكمة، فإذا كانوا، أو بعض منهم، مخطئين فلينالوا ما يستحقونه من عقوبة.
تقول ماهينور إن محكمة الموضوع تضمن على الأقل نقل المتهمين إلى المحكمة، عوضًا عن الفيديو كونفرانس الذي لا يتاح فيه التواصل بين المحامين والمحبوسين، ولا يكون فيه فرصة للحديث والمرافعة.
لقد وصلنا إلى مرحلة يتمنى فيها المحبوس وأهله أن يحال إلى المحاكمة، فحتى لو حكم عليه بثلاث سنوات سيخرج، نظريًا، فورًا؛ لأنه قد قضى أكثر من مدة العقوبة محبوسًا احتياطيًا بالزي الأبيض، رمز البراءة الأصلية، التي لا تزول إلا بحكم قضائي.