شاءت الأقدار أن يكون عيد الأم المنصرم أسوأَ عيدِ أمٍ مرّ عليَّ في عمري كله؛ أسوأ حتى من سبعة أعياد أمّ مرّت في السجن بعيدًا عن أمي، أو عن قبرها. كانت زيارة واجبة جاهدت من أجل القيام بها باكرًا، عقب خروجي من السجن، لكن ظروفًا خارجة عن إرادتي أخّرتها حتى بداية الربيع الذي فقد معناه.
كان عيد الأم هذا، كما نعلم جميعًا، موافقًا للاستعدادات الرمضانية، حيث الزينات والتحضير للاجتماعيات والاحتفالات، والأطفال يتطلعون إلى ما سيجود به آباؤهم عليهم في الشهر الكريم. وهو جانب آخر من المأساة التي كادت أن تودي بي، كما لم تفعل محنة سجني.
رأيتُ أمي في أربعين أمًا مكلومة من قرية واحدة، يعشْن كالثكالى، وما هنّ بثكالى، ولكن فراق السجن شديد. يعمل أبناؤهن كلهم في حرفة واحدة لا يعرفون لها بديلًا، وهي حرفة يعلم أصحابها وأهلهم أنهم قد لا يعودون من الخروج إليها بسبب الأحوال الجوية ومتغيرات القضاء والقدر، لكنهم أبدًا لم يتوقعوا أن يخرجوا ولا يعودوا بسبب ابتلاعهم في لوري الترحيلات الأزرق اللعين.
أربعون أمًّا اجتمعن في بيت إحداهن، يستقبلن رمضان الرابع من غير أبنائهن العائلين لهن، ولزوجاتهم، وللأطفال الصغار. سالت عبراتهن على خدودهن كما يتدفق الماء من الصنابير، وكنت بينهن وبين أحفادهن في موقف المعين على الصبر، فوجب عليّ أن أكتم نحيبي، وأن أتجه بدموعي الحارقة إلى داخل وجداني الذي لا يحتمل كل هذا البؤس.
أما الذبح الأكبر فكان على يد الصغار، الناشئين كاليتامى وما هم بيتامى، والأمهات اللاتي كالأرامل وما هن بأرامل.
تعلقت بي ابنة أحدهم. لعبت معي. تسلقت كتفي. قبّلتني. لكن ذلك كله لا يعدل مثقال ذرة من ملمس كفّها الرقيق وهي تستكشف، لأول مرة في حياتها، وجه رجل، به شعرٌ في خدّيه وفوق فمه. تركها أبوها وهي في عمر 40 يومًا متغيّبًا لمدة سنة وبضعة شهور سعيًا وراء رزقه في مهنة الأقدار والمخاطر، ثم ثلاث سنوات في غياهب السجن. بلغت من العمر 4 سنوات ونصف السنة ولم تلمس يدها سوى وجه أمها وجدتها وشقيقيْها اللذيْن لم ينبت لهما شعر في وجهيهما بعد.
لم أحلق شعر ذقني وشاربي ذلك اليوم كما اعتدت على "التنعيم"، فكنت على موعد مع تلك اللقطة التي فجّرت فيّ أبوّة مؤجلة، طالما حمدت الله في سجني أني لم أرزق بها قبله أو أثناءه حتى لا تكون عذابًا لا أحتمله.
لا يخفف من حيرتي أن الجهاز الأمني على يقين بأنهم عديمو النشاط السياسي. حائر، وجرحي غائر!
سُكِن خيالي ووجداني في السجن بإنجاب البنات، فأنجبت - وحدي دون أم- فتاة متقلبة الأعمار سمّيتها فيروز، وعشت معها قصة حب عميقة أنتجت نصوصًا أدبية كتبتها لها في عالم خياليّ أخذني بعيدًا عن السجن والسجان. وكنت كلما سُئلت عن "أولادي" أجيب بحمد الله أني، في مثل ذاك الظرف، ليس لدي أولاد. وكنت أكمل العبارة بيني وبين نفسي: فلو نزعوا ابنتي من حضني لأن وقت الزيارة انتهى قد ينخلع معها قلبي وتزهق روحي. ولو حيل بيني وبينها لكان في ذلك عذابي الذي لا يعدله عذاب.
في ختام تلك الزيارة، وحين أزف الرحيل، انفجرت ريتال بنت محمد، زميل سجن بدر، في البكاء حزنًا على فراق "عمو" الذي تعلقت به ساعات معدودة، فسلّمتني إلى مشارف الانهيار العصبي وبكاء لا ينقطع إلى وقت كتابة هذا المقال.
أُفْصِح أم لا أُفْصِح؟
لم أعد أدري إذا كان مفيدًا أم لا إفصاحي عن قضية الأربعين رجلًا من مكان واحد، الغائبين في حبس احتياطي ممتد لأكثر من 32 شهرًا، في تهمة عبثية واحدة، لم تثبت عليها أية قرينة، ولم تتم إحالتها إلى المحاكمة، رغم خطورتها المفترضة. لو كان الاتهام جديّا لكانت الفرصة سانحة قبل إنهاء حالة الطوارئ أن تتم إدانتهم، أو بعضهم، بحكم نهائي بات لا يقبل الطعن.
ليس في الاتهام أية جدية، وليس في حسن معاملة ضابط الأمن الوطني لهم في السجن، كما شهدت على ذلك، ما يدل على خطورتهم بأية درجة. بل الأنكى أنهم تلقّوا وعودًا بخروجهم الذي لم يحدث.
فهل إذا أفصحتُ وكتبت بعض التفاصيل أكون قد حرّكت مياهًا راكدة؟ هل سيصب ذلك في مصلحتهم؟ أم أن متخذ القرار في وقتنا الراهن يزايد على حسني مبارك الذي قال عن نفسه ذات مرة إنه حاصل على "دكتوراة في العناد"؟!
لا أريد أن أقوم بدور خليفة الغائبين في بيوتهم، وليس لي بذلك طاقة ولا وُسع. ولن تغريني دعوات الأمهات وضحكات الأطفال أن أعوّض ما فاتني من سماع دعاء أمي، رحمها الله، وما أخّره الله من رزقي بالأولاد. لا ألعب تلك الألعاب النفسية، لا عمدًا ولا غفلةً، بل أعيها وأدركها جيدًا وأتيقّظ لها ولحبائلها. كل ما أريده هو أن يعود الغائبون إلى ذويهم.
في سبيل ذلك، أعلن حيرتي: هل أكتب عنهم التفاصيل وأعرّف الناس بهم حتى لو لم يؤثر ذلك في اتخاذ قرار خروجهم؟ أم أن ذلك سيعود عليهم بما لا يسرهم ولا يسرني؟ ولا يخفف من حيرتي أن الجهاز الأمني على يقين بأنهم بُرَءاء وأنهم عديمو النشاط السياسي، سواء كان سلميًا أم غير ذلك. حائر، وجرحي غائر!
جانب من المأساة
أكتفي، في هذا المقال، بسرد جانب صغير من المأساة مجرَّدًا عن تفاصيل الأربعين مظلومًا، وقريتهم المنكوبة. فحال أهالي هؤلاء تشبه أحوال عشرات الآلاف من "الغلابة" الذين ينفطر قلب الحجر رفقًا بآلامهم، ولا قلب لدولة "القوة الغاشمة".
فمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد فله أن يعرف أن الأمهات ينفقن ما يتحصلن عليه من معاشات على تكلفة الزيارات، ثم يتجهن إلى السؤال ليتدبرن أمور معيشتهن. أما الزوجات فقد بِعْنَ حُليّهن وأنصبتهن في مواريثهن، إذا كنّ ممن يمتلكن شيئًا مثل ذلك. وذهبت المدخرات كلها، على قلّتها، في مصاريف البيت والزيارات وتعليم الأولاد وعلاجهم.
هن نساء ريفيات، لم يعتدن الخروج من منازلهن إلا لضرورة. صرن الآن مشهورات في سوق القرية بإعداد متطلبات الزيارات، وصار الرجال يعرفونهن ويسألونهن عن الزيارات، وهو ما يسبب لهن آلامًا حادة لا يدركها أهل المدن. وصار الجيران يخبّئون الفواكه والحلويات من أطفال الغائبين/المعتقلين، كما باتت القريبات والجارات يخفين على زوجات المعتقلين أخبار عودة أزواجهن من السفر. وهي كلها سلوكيات ذات دلالات قاسية في الثقافة الريفية.
يتعرض أبناء المعتقلين للتنمر من أقرانهم في المدرسة وفي الشارع. وقد أثر غياب الآباء في مستوى تحصيل الأبناء في دراستهم من ناحيتين؛ نفسيًا، واقتصاديًّا، حيث تعجز الأسر عن توفير متطلبات الدروس الخصوصية ومجموعات التقوية، وهي كلها أساسيات لا رفاهية فيها. كما يتجه بعض الأطفال إلى العمل الموازي للدراسة، أو يتسربون من التعليم الأساسي بالكلية.
هل القارئ الأريب في حاجة إلى شرح المزيد من الآثار النفسية والجسدية لغياب الرجال عن نسائهم، اللاتي لا يخطر الطلاق ببال إحداهن، وقد قارب الغياب ثلاث سنوات، دون إدانة، أو محاكمة، أو إحالة، أو اتهام جدي؟!
تعليق أخير
كُتِبت مسودة هذا المقال يوم الثلاثاء 28 مارس/آذار، وصبيحة الأربعاء كانت أول مرة يزورني السجن في منامي منذ خرجت قبل أربعة أشهر تقريبًا. فإذا كنت لا أرجو السجن وقهره حتى لألدّ الأعداء، إلا أني أدعو الله أن يذيق الظالمين طرفًا من كوابيس السجن لعلهم يتذكرون!