تصوير سالم الريس- المنصة
توافد نازحون من شمال قطاع غزة إلى مركز إيواء وسط مدينة خانيونس- الأحد 15 أكتوبر 2023

هل تقبل مصر لاجئين فلسطينيين؟

خيارات صعبة للحكومة المصرية في وجه الطوفان

منشور الأربعاء 25 أكتوبر 2023

تواجه مصر أسئلة صعبة وخيارات مرّة بسبب الهجوم الإسرائيلي الكاسح على قطاع غزة، أهمها وأكثرها تعقيدًا هو ما سيتعيَّن عليها فعله إذا تجمع عشرات أو مئات آلاف الفلسطينيين على الجانب الفلسطيني من معبر رفح بفعل القصف الإسرائيلي المستمر على القطاع؟

هناك زوايا عدة للتعامل مع هذه المسألة، سيكون صعبًا أن تُفضِّل مؤسسات السلطة في مصر واحدة على الأخرى فتبني عليها قرارها.

ينطلق التعامل الشعبي والجماهيري والمجتمع المدني مع هذه المسألة بشكل أساسي من زاوية التضامن الإنساني أو القومي المستحقة والواضحة، ولكن حتى هذا ربما يصبُّ في نهاية المطاف في نفس اتجاه القرار الحكومي، الذي يبدو لي مُتَّخذًا وصلبًا حتى الآن، هذا بالطبع رغم اختلاف حسابات الحكومات والمؤسسات الأمنية، خاصة لو كانت تجري في غرف مغلقة دون محاسبة برلمانية أو إعلامية حقيقية.

الأهل في العراء

سيكون من الصعب إعلاميًا، وبسبب التعاطف الإنساني متعدد الأسباب، أن يقف آلاف الفلسطينيين بأطفالهم ومتاعهم على الجانب الآخر من الحدود، يرهقهم الجوع والعطش وبالقرب منهم أو فوق رؤوسهم القنابل الإسرائيلية، وأبواب الأمان النسبي على الجانب الآخر من الحدود في مصر مغلقة.

لا تزال أعداد الفلسطينيين في خانيونس، وقُرب معبر رفح في الأسبوع الثالث للحرب قليلة، ولكنه سيرتفع مع الدخول البري المحتمل للقوات الإسرائيلية لشمال القطاع واستمرار القصف الوحشي.

هذه الشحنات الضئيلة لن تجدي إلا في دعم الادعاء الفارغ بأن هناك "تعاملًا إنسانيًا"

وتُقدِّر الأمم المتحدة أن نحو مليون ونصف المليون فلسطيني صاروا مشردين بسبب العمليات العسكرية الإسرائيلية المسماة "السيوف الحديدية"، والمستمرة منذ أن شنّت حماس عملية "طوفان الأقصى" المباغتة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وحتى اليوم ترك نحو 700 ألف فلسطيني هم ثلث سكان غزة، شمال القطاع متوجهين لجنوبه الأقرب لمصر.

تبلغ مساحة قطاع غزة 365 كيلومترًا مربعًا، ويمتد نحو 40 كيلومترًا من الشمال في بيت حانون إلى الجنوب في رفح، بينما لا يتعدى أقصى عمق له من البحر حتى صحراء النقب 12 كيلومترًا.

ورغم أن إسرائيل وافقت، بعد طلب من الرئيس الأمريكي جو بايدن، على مرور شاحنات إغاثة من الجانب المصري لغزة، فالإجراءات الأمنية التي فرضتها، وعوامل أخرى متعددة، جعلت الحد الأقصى لعدد الشاحنات المارة يوميًا نحو العشرين وبشرط ألَّا تنقل وقودًا.

هذه الشحنات الضئيلة لن تجدي إلا في دعم الادعاء بأن هناك "تعاملًا إنسانيًا"، وهو ادعاء فارغ لأن حوالي 500 شاحنة كانت تتدفق على القطاع كل يوم لتلبية احتياجاته، كما أن الوقود يوشك على النفاد مما يجعل توفير المياه وتشغيل المستشفيات والاحتياجات الأساسية الأخرى مستحيلًا.

وهكذا مع استمرار القصف الإسرائيلي، وارتفاع أعداد القتلى لأكثر من 6000، وشح المياه والغذاء والوقود، سيتوجه مزيد من أهل غزة للجنوب، وسيتولد ضغط من أجل العبور، سواء من جانب عدد منهم أو من جانب المجتمع الدولي لأسباب إنسانية، وسياسية، وأيضًا، وربما بشكل غير مباشر، كما ترغب تل أبيب، في تسهيل مهمة إسرائيل العسكرية في الغزو البري.

هل تستطيع مصر الرسمية تجاهل هذا الضغط؟ الإجابة نعم، بسبب وجود العوامل الأخرى.

النكبة II

من بين أكثر من 2.3 مليون فلسطيني يعيشون في قطاع غزة هناك نحو 1.7 مليون هم أحفاد من شرَّدتهم العصابات الإرهابية الصهيونية في نكبة التطهير العرقي عام 1948. ويتخوف كثيرون في غزة أن يصبح خروجهم لمصر فرارًا بحياتهم من القصف الإسرائيلي نكبة ثانية.

لا شك أن مصر الرسمية والدبلوماسية واعية بهذه المسألة، وتعرف أن مئات آلاف اللاجئين الفلسطينين الذين ستستقبلهم لحمايتهم من ويلات القصف، لن يتمكنوا من العودة لغزة على الأغلب، أو ستكون عودتهم صعبة للغاية في أحسن الأحوال، فتتورط مصر بالمشاركة في استراتيجية تطهير سكاني ونزوح إجباري لا يتورع سياسيون إسرائيليون عن التصريح والحلم بها علنًا.

ولهذا أكد أكثر من مسؤول مصري رفض "تصفية القضية". وحتى عندما عرضوا حلًا وسطًا لقبول النزوح الفلسطيني من غزة، كان لمجرد التعجيز أو إظهار النفاق الدولي في هذه المسألة، ومنها مثلا إبلاغ الأوروبيين أن يمنحوا الفلسطينيين ما شاءوا من تأشيرات الدخول لبلادهم، وستسمح لهم مصر بعبور الحدود، أو عندما أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي نفسه أن بإمكان إسرائيل نقل فلسطينيين من غزة إلى صحراء النقب لديها، ثم إعادتهم بعد أن تنتهي من عملياتها العسكرية في غزة.

بيد أن هناك عاملان آخران هما ربما الأهم في تشكيل حسابات وقرار مصر في هذه المسألة الشائكة: الأمن والاقتصاد.

الوقوف على مسافة مريحة من الحرب

كان الرئيس السيسي واضحا في لقائه مع المستشار الألماني في زيارة الأخير للقاهرة هذا الشهر، عندما قال إن انتقال أعداد كبيرة من الفلسطينيين من غزة لسيناء يعني أننا "ننقل فكرة المقاومة (..) القتال من قطاع غزة إلى سيناء وتصبح سيناء قاعدة للانطلاق بعمليات ضد إسرائيل (...) ويبقى من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها وعن أمنها القومي... وتقوم بتوجيه ضربات للأراضي المصرية".

كان الرئيس واضحًا في لقائه مع المستشار الألماني هذا الشهر برفض التهجير إلى سيناء.

هكذا لخص الرئيس زاوية المخاوف الأمنية المصرية، بعد أن قضت قرابة عشر سنوات في القضاء على الجماعات الإسلامية في شمال سيناء أو تحييد خطرها، ودفعت ثمنًا كبيرًا ماديًا ومعنويًا ومن أرواح جنودها. لن تستبدل بهذا الانتصار مصدر خطر أكبر قد يجرها لنزاع خارجي، ويُهدد اتفاق سلام بات جزءًا من تصورات الدولة عن أولويات أمنها القومي، وإن بقي باردًا.

يتمحور هذا الهاجس الأمني حول الخوف من مرور عناصر من حماس والجهاد الإسلامي وسط مئات آلاف الفلسطينيين الذين قد يُسمح لهم بالعبور (مبدئيًا بشكل مؤقت). خاضت بعض العناصر المسلحة المتطرفة، في مجتمع قوامه 450 ألفًا يسكنون شمال سيناء، مواجهات دموية في السنوات الماضية، فكيف سيكون الحال مع أعداد مشابهة من "اللاجئين"؟

تُفضِّل مصر بوضوح أن تساهم بوساطتها في خفض التوترات الأمنية بين غزة وإسرائيل، والتواصل مع حماس لتهدئة المواجهات، ولكنها لا تريد أن تكون على خط المواجهة، وهذا خيار واقعي. وتريد الحكومة المصرية بوضوح أيضًا أن تستمر معاهدة السلام القائمة منذ 45 عامًا مع إسرائيل، بما فيها من تعاون أمني ومنافع اقتصادية، وتأمين العلاقات المصرية الأمريكية الحيوية.

اللاجئون مقابل المساعدات

رغم حرص مسؤولين أوروبيين وأمريكيين على توضيح أن المحادثات الجارية بشأن منح مصر مساعدات اقتصادية لا علاقة لها بقبول لاجئين من غزة، إلا أن عدة تقارير صحفية نقلت عروضًا عن زيادة قرض صندوق النقد الدولي المتوقفة بعدة مليارات، أو منح مصر حزمة مساعدات أوروبية إضافية، للتعامل مع مسألة اللاجئين.

ستواجه مصر ضغطًا أكبر وعروضًا أسخى، ولكن يظلُّ صعبًا تخيَّل أن تستقبل لاجئين تعلم جيدًا أنهم لن يعودوا

وتعاني مصر مأزقًا اقتصاديًا حادًا مع الزيادة المضطردة في نسب التضخم وارتفاع الديون وعجز الموازنة، وستتفاقم الأزمة ليس فقط بسبب السياسات المحلية الموغلة في مسارها، ولكن أيضًا بسبب التضرر من الحرب الجارية التي ستضرب الموسم السياحي المهم المقبل، وربما ترفع أسعار النفط في العالم.

ورغم أن البعض يشبه الوضع الحالي بما حدث عام 1991، مع إسقاط جزء من الديون المصرية وجدولة الباقي بعد المشاركة في حرب الخليج،، فإن تركيبة الديون الآن تختلف كثيرًا، فمعظمها مستحق عبر سندات وصكوك لمستثمرين في القطاع الخاص أو لدول في الخليج، وبالتالي يصعب تخيل إلغائها كثمن سياسي.

في النهاية، ومع التكاليف الباهظة لرعاية اللاجئين إنسانيًا ومع إضافة النفقات الأمنية والاجتماعية، ناهيك عن الثمن السياسي والتاريخي، يصعب أن تكون هذه الزاوية بمفردها سببًا لتغيير مصر لموقفها.

وماذا بعد؟

ستتعرض مصر لضغط دولي أكبر وربما تتلقى عروضًا أسخى، ولكن يظلُّ صعبًا تخيل أن تستقبل لاجئين تعلم جيدًا أنهم لن يعودوا، وأنها هكذا لن تحصل على ثمن ملائم على المدى الطويل، وستواجه ربما حسابًا شعبيًا وتاريخيًا عسيرًا، وفاتورة أمنية تتضخم مع مرور الوقت.

المؤلم لا شك في كل هذا هو أنه على بعد حجر فعليًا تتصاعد معاناة مئات آلاف الفلسطينيين يوميًا، لدرجة لا تجدي معها الاكتفاء بتوجيه اللوم المستحق للجانب الإسرائيلي المسؤول عن هذه المأساة.

ربما الحل الوحيد الذي تواصل مصر دفعه ودعمه هو الضغط على إسرائيل لقبول شحنات إغاثة أكبر وأسرع، وهو ما ترفضه إسرائيل، وسيستمر هذا الموقف المخزي حتى تشعر ومن خلفها الولايات المتحدة بأن الأهداف العسكرية تحققت، حتى لو كان الثمن آلافًا إضافية من القتلى الفلسطينيين، ومعاناة ستظلُّ ذكراها محفورة في أذهان الملايين داخل وخارج قطاع غزة.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.