كل الشواهد تشير إلى أن الإدارة المصرية تعرضت لضغوط لقبول المخطط الإسرائيلي المدعوم أمريكيًا وغربيًا، بتهجير الفلسطنيين من قطاع غزة وتوطينهم في سيناء، وهو ما أكدت مصر رفضها له؛ للوسطاء بـ"شكل قاطع" داخل الغرف المغلقة، وعلنًا على لسان الرئيس عبد الفتاح السيسي، بتحذيره من أن تهجير الفلسطينيين إلى سيناء سيجر مصر لحرب مع إسرائيل.
منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة قبل أسبوعين، لم تتوقف تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، حاليين وسابقين، بضرورة دفع الفلسطينيين خارج قطاع غزة حتى يتمكن جيش الاحتلال من تنفيذ هدفه، والقضاء على فصائل المقاومة التي مرغت أنفه في الوحل، وأسقطت هيبته في عملية العبور الأسطوري إلى مستوطنات غلاف غزة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
رئيس حزب "إسرائيل بيتنا" أفيجدور ليبرمان، المنضم مؤخرًا إلى حكومة الطوارئ التي شكلها رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، كانت تصريحاته كاشفة للمشروع الإسرائيلي، الذي تسعى تل أبيب إلى فرضه على دول المنطقة منذ سنوات، "يجب إنشاء مدينة إيواء، خارج غزة في سيناء وتزويد الفلسطنيين هناك بالمساعدات التي يريدونها، بهدف إخلاء القطاع وتحويله إلى منطقة عازلة تفصل بين إسرائيل وأعدائها".
ليبرمان الذي أطلق دعوته قبل أيام، في إطار الرد على مطالبات الأمم المتحدة بإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، دعا المجتمع الدولي للضغط على القاهرة لقبول هذا الحل حتى تنتهي مشكلة سكان القطاع.
خطة قديمة متجددة
لم تختلف دعوة الوزير الصهيوني المتطرف عن دعوات أطلقها رفاقه من المسؤولين الإسرائيليين في سياقات مختلفة، وتبنتها بعض الحكومات الغربية، ومارست ضغوطًا على الحكومة المصرية لقبولها، وبلغ الأمر عرض بعض الإغراءات الاقتصادية "تصفير الديون، ومنح القاهرة مساعدات ومعونات مالية، على غرار ما جرى عندما وقعت مصر كامب ديفيد مع إسرائيل، وهو الأمر الذي تشددنا في رفضه"، يقول مصدر رسمي مطلع على تفاصيل هذا الملف لكاتب هذه السطور.
منذ الإعلان عن صفقة القرن، لم تتوقف محاولات أمريكا وإسرائيل للضغط على مصر لربط قطاع غزة بسيناء
في إطار مقاومة تلك الضغوط، سعت الحكومة المصرية إلى خلق رأي عام رسمي وشعبي "مصري وفلسطيني عربي"، يهدف إلى التمسك بموقف موحد لإجهاض هذا المشروع، "لم يتوقف التنسيق بين الحكومة المصرية والأطراف الفلسطينية، سواء سلطة رام الله، أو فصائل المقاومة وفي القلب منها حركة حماس، والتي تبنت الموقف المصري بل وأشادت به"، يضيف نفس المصدر.
حركة حماس أعلنت بشكل حاسم انحيازها للموقف المصري الرافض للتهجير "قراركم برفض التوطين هو نفس قرارنا"، يقول إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي للحركة في تصريحات متلفزة، مضيفًا أن "الإدارة الأمريكية فشلت في توفير الدعم الدولي والإقليمي للعدوان، وتطويع الموقف العربي الرسمي لقبول التهجير، وإننا نشيد بالموقف العربي والإسلامي وخصوصًا المصري تجاه قضية تهجير الفلسطينيين".
واعتبر مصدر دبلوماسي فلسطيني أنَّ مخطط التهجير، الذي يتم الترويج له منذ بدء العدوان، لا يستهدف فقط تصفية القضية الفلسطينية، بل أيضًا تصدير قلاقل إلى مصر بما يضر بأمنها القومي.
ولفت المصدر الذي تحدث مع كاتب السطور، إلى أن محاولات واشنطن وتل أبيب إقناع المصريين بقبول هذا المقترح ليست بجديدة، "منذ الإعلان عن صفقة القرن، لم تتوقف محاولات أمريكا وإسرائيل للضغط على مصر لربط قطاع غزة بسيناء"، تقول المصادر، مشيرة إلى أنه تم مناقشة الأمر مع السلطة المصرية قبل 4 أعوام وأكدت القاهرة حينها أنها لن تقبل به مهما كانت الضغوط، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية سامح شكري عندما صرح قبل انعقاد مؤتمر المنامة في يونيو/حزيران 2019 بأن "مصر لن تتنازل عن حبة رمل واحدة من سيناء".
مشاهد لم يكن لها داعٍ
يُحسب للإدارة المصرية موقفها الرافض لتصفية القضية الفلسطينية، وللمشروعات الإسرائيلية الرامية إلى تهجير أهل غزة وتوطينهم في سيناء، ويُحسب لها أيضًا مقاومة الإغراءات التي عُرضت عليها. ولكن في إطار سعيها لصناعة رأي عام داخلي شعبي يدعم موقفها؛ استخدمت السلطة في مصر أساليب لا تتناسب مع موقفها، ولا مع القضية التي تتعاطى معها.
جرى تدوير تعبيرات "تأييد ودعم رئيس الجمهورية في كل ما يتخذه من خطوات وإجراءات لحماية وتأمين الأمن القومي المصري"، بحسب برقيتين صدرتا عن مجلسي الشيوخ والنواب، كما استُدعي تعبير "التفويض" في وسائل إعلام تقع تحت سيطرة السلطة، وكان شعارًا لعدد من المظاهرات والوقفات التي دعت لها كيانات وهيئات تعبر بشكل أو بآخر عن توجهاتها، ما "شَوْشَر" على الموقف والقضية معًا.
خلال المؤتمر الصحفي الذي جمعه بالمستشار الألماني أولاف شولتس الأسبوع الماضي، لم يطلب الرئيس تفويضًا لموقفه الرافض لتهجير سكان غزة إلى سيناء، "إذا طلبنا من المصريين الخروج للتعبير عن رفض التهجير سنجد الملايين يخرجون رفضًا للفكرة"، قال السيسي، مشددًا على "رفض مصر حصار غزة الهادف إلى نقل الفلسطينيين من القطاع بغرض تصفية القضية الفلسطينية".
لم تُطرح فكرة "التفويض" إذن في حديث السيسي، لكن ما جرى على الأرض خلال الساعات التي لحقت بالمؤتمر الصحفي، يُدلل على أن الموضوع نوقش وصدر القرار بالنفخ فيه عبر مؤسسات رسمية ومنصات إعلامية لا تعرف للاجتهاد سبيلًا، ما دام هناك نص تم اعتماده.
كان يكفي أن يُسمَح للمصريين بالتعبير عن مشاعرهم الغاضبة جراء ما يجري في الأرض المحتلة من إبادة جماعية وتطهير عرقي للفلسطينيين، ورفض أي مشروعات لطرد أهل غزة من أرضهم بما يعيد إنتاج نكبة 1948.
وهذا ما حدث بالفعل، إذ خرجت في الجامعات والنقابات والميادين مسيرات احتجاجية عفوية تصلح لأن تكون دعمًا وسندًا لصانع القرار، بدلًا من المشاهد المعلبة المصنوعة التي لا تنطلي على أحد، ودرءًا للأزمة التي كادت أن تقع بعدما أُخرجت فئة من الشعب لـ"تفوض"، وعبرت أخرى عن رفضها لـ"التفويض"، رغم أن الفئتين تدعمان الحق الفلسطيني، وترفضان مشروعات تهجيره، فالقضية الفلسطينية لم تكن يومًا محل خلاف بين المصريين.
لا يحتاج رئيس الجمهورية إلى تفويض للاضطلاع بصلاحياته التي حددها الدستور، فرعاية مصالح الشعب والحفاظ على استقلال الوطن ووحدة أراضيه وسلامته هي من صميم مهامه وواجباته، وإن استدعى الأمر استصدار إجراءات طارئة أو استثنائية كإعلان الحرب، أو اتخاذ إجراءات تخص المصالح العليا للبلاد، فالدستور رسم أيضًا كيفية استصدار مثل تلك القرارات.