منشور
الخميس 19 أكتوبر 2023
- آخر تحديث
الخميس 19 أكتوبر 2023
منذ بواكير علاقتي الميدانية بسيناء، ولم أتوانَ عن رفض مقولة "سيناء بوابة مصر الشرقية". حتى في حواراتي مع أهل سيناء الغاضبين من تهميشهم تنمويًا وسياسيًا، وكان بعضهم، للمفارقة، يكررون هذه المقولة، وكنت أرفضها رغم ذهابي أساسًا للاستماع؛ لا للمحاضرة ولا التوجيه. وكانت مجادلتي واضحة وبسيطة: لا أحد يسكن بوابة ويقيم بها!
كنت أراها، ولا أزال، مقولة متسربة من الأدبيات العسكرية والاستراتيجية إلى الفضاء المدني، الذي يشمل الإدارة والحكم السياسي. فلم يتم التعامل مع سيناء كمحافظة، أو محافظتين، كسائر محافظات وادي النيل، من حيث التخطيط التنموي والإدارة والتنفيذ والمتابعة، بل مجرد بوابة وأرض عمليات محتملة. وفي هذا من الخطورة والحماقة ما فيه، بل إن هذا ما دفع بالأمور منذ تحرير سيناء واستردادها (1973 - 1982) إلى ما وصل إليه حالها عشية ثورة يناير 2011، وما أعقبها.
قلت إن بوابة مصر الشرقية هي الشريط الحدودي من رفح المصرية، المستعادة بمعاهدة السلام في أبريل/نيسان 1982، إلى طابا، المستردة بالتحكيم الدولي في مارس/آذار 1989. هذا ما يمكن التعامل معه كبوابة ومعبر، بالمعنى الإداري الشامل، وليس بالمعنى العسكري فقط. أما شبه جزيرة سيناء التي تبلغ مساحتها ثلاثة أضعاف دلتا النيل، وضعفي مساحة فلسطين التاريخية الكاملة، فلا يمكن أبدًا اعتبارها مجرد "بوابة".
حين زرت لبنان مرة، وقطر ثلاث مرات، وكان ثمة احتمال لزيارة لم تتم للإمارات، لم أتوقف أبدًا عن مقارنة مساحة سيناء بكلٍّ مِن هذه الدول، مع استعادة معلوماتي عن مواردها وإمكاناتها الاقتصادية، فأزداد في كل مرة رفضًا لتوصيف "البوابة". فهذه المساحة الشاسعة، بتنوعها الذي يحتوي 14 مدينة وعشرات القرى ومئات التجمعات البدوية، قائمة على خليط من الأنشطة الزراعية والبترولية والصناعية والتجارية والسياحية والتعدينية، لا يمكن اختزالها في "بوابة"!
هل أخطأ من اتهم مصر بالمشاركة في حصار غزة؟
على صعيد آخر، كنت أشتبك مع الذين يدافعون عن حق مصر السيادي في إغلاق معبر رفح في أوقات الأزمات، أو غيرها، باعتباره حقًا أصيلًا لها كدولة مستقلة لا سلطة احتلال عليها التزام قانوني بتحمُّل مسؤولية قطاع غزة.
معبر رفح هو بوابة أهل غزة الوحيدة إلى مطار القاهرة ومنه إلى العالم
كانوا يزعمون أن علاج الأزمات الإنسانية الطاحنة في القطاع مسؤولية دولة الاحتلال، وأن غزة لديها معبر آخر وعلى الغزّاوية أن يلجأوا إليه، وكأن هذه المقولات التافهة الجهولة بحقائق الجغرافيا وأبسط الخرائط السياسية تقول للفلسطينيين: عليكم الذهاب بأنفسكم إلى قوات الاحتلال على المعبر الآخر لتسليم المطلوبين لديهم من أبطال المقاومة أو المشتبه بهم، ثم تدعون هذه القوات تقرر إذا كانت ستسمح لكم بالخروج للعلاج أو التعليم أو لأي سبب آخر، وربما لا يسمحون. وإذا سمحوا فاذهبوا إليهم بأنفسكم لكي تتعرضوا للتعنت والتفتيش المهين!
والحقيقة أنَّ قطاع غزة مفصول عن الضفة الغربية الموصولة بالأردن، ومحاط بالأراضي المحتلة من كل اتجاه، سوى حدوده مع سيناء البالغ طولها 14 كيلومترًا تقريبًا. أما عن الحصار البحري، فيشكو الفلسطينيون أنهم عاجزون عن الصيد في مياههم الإقليمية بسبب دوام تقليل المسافة المسموح لهم بالصيد فيها من قبل بحرية الاحتلال. كما أن ذكرى العدوان على سفينة مرمرة التركية التي حاولت كسر الحصار على غزة في 2010 لا تزال حاضرة.
وكانت مجادلتي، المبنية على المعايشة الميدانية، أن معبر رفح هو بوابة أهل غزة الوحيدة إلى مطار القاهرة، سواءً عبر مطار العريش، أم بالطريق البري، ومنه إلى العالم. كنت على اتصال ببعض الأصدقاء الفلسطينيين الذين كانوا يريدون السفر لاستكمال دراستهم، التي بدؤوها بالفعل، في أوروبا. لم يكونوا ينتوون الإقامة في وادي النيل عمومًا، ولا القاهرة خصوصًا سوى لليلة واحدة، حتى موعد إقلاع طائرتهم.
خضت هذا الجدال الحقوقي الإنساني، نائيًا بمصر أن تكون شريكًا في إحكام الحصار على أكبر وأطول سجن بشري في العالم. وقلت مرارًا وتكرارًا إن معبر رفح لفلسطينيّي القطاع هو بوابتهم للعالم. فهو الجدير بأن يسمى "بوابة غزة الجنوبية".
والآن.. تغيَّرت بعض الثوابت
لم أكن أرجو، ولا أتخيل، أن تجتاح قاعدة "لا شيئًا ثابتًا في السياسة" مسلّماتي وثوابتي، أو ما كنت أظنها كذلك. وها هي الأيام تدور وتدول، وأصير أنا من يدافع عن الإبقاء على سيناء ممرًا ومعبرًا وبوابة. ولا أتحدث عن الشريط الحدودي وما يتاخمه، بل عن جميع أراضي سيناء.
طبعًا لا أريدها مجرد "بوابة شرقية" لمصر، فهي أكبر وأعظم من ذلك بكثير، لكني متمسك ببقائها بوابة جنوبية لقطاع غزة لحرية الحركة المنظمة وفق القوانين الدولية ومواثيق حقوق الإنسان. فالمستجدُّ الخطير هو احتمال أن تكون مساحة (أو مساحات!) مقتطعة من سيناء مستقرًا بديلًا لعدد غير قليل من اللاجئين الفلسطينيين بسبب حرب الإبادة الجارية الآن عقب عملية طوفان الأقصى.
هذا السيناريو يتفرع لاحتمالين؛ أهونهما خطير.
الاحتمال الأول هو أن تستغل دولة الاحتلال هذه الفرصة التعبوية الاستثنائية لإحياء مخطط كان يفترض به الموت، وهو توطين نسبة كبيرة، تقترب من النصف، من سكان قطاع غزة في سيناء. وستدفعهم إلى ذلك دفعًا بالقوة العسكرية الغاشمة المفرطة في إجرامها، تحت غطاء دولي يضغط على مصر، ويفاوضها بأوراق تحتاجها احتياجًا حيويًا، وربما وجوديًا.
سيخلق الوضع الجديد المحتمل توترًا اجتماعيًا بالغًا. وبحكم الضرورة، ستتم إدارة المخيم المصري إدارة بوليسية
والاحتمال الثاني أن تكون "إزاحة" بعض السكان جزئية، وليست كلية، أي بنسبة صغيرة من سكان القطاع، لكنها ستكون نسبة كبيرة جدًا من سكان هذه المنطقة الحدودية في سيناء، بعد أن تم إخلاؤها في سياق عمليات مكافحة تنظيم "ولاية سيناء" الموالي لتنظيم "داعش".
الاحتمال الأول كارثي بكل المعايير. وأرجو أن تكون لدى مؤسسات الدولة، سواء في تفاعلاتها الداخلية أم في اتصالاتها ومفاوضاتها الخارجية، من الأدوات ومن التمسك بالمبادئ والثوابت ما ترفضه وتقاومه بها. ربما لا يكون لدى الدولة المصرية ما يكفي من معطيات لفرض إرادتها في مثل هذا التوقيت المعقد والموقف المتشابك، لكن الخطر، كل الخطر، أن يعتبره النظام فرصة لتحقيق مكاسب قصيرة الأجل.
الاحتمال الثاني أيضًا كارثي. ربما لا يكون كارثيًا على القضية الفلسطينية إجمالًا، لكنه بالتأكيد سيكون كارثيًا على علاقة مصر بالقضية. فوجود عشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين في مخيم إيواء مصري، لأول مرة منذ 1948، حيث لم يسبق أن تمت إحاطة الفلسطينيين بسياج مصري من قبل، على أرض تم تهجير أهلها منها منذ عدة سنوات، مع الخصوبة الفلسطينية العالية، سيغيّر من علاقة المصريين بالقضية، خصوصًا أهل سيناء الذين يعيش بينهم الفلسطينيون في وئام ممتد لعقود.
سيخلق الوضع الجديد المحتمل توترًا اجتماعيًا بالغًا. وبحكم الضرورة، ستتم إدارة المخيم المصري إدارة بوليسية عسكرية استخباراتية، وسيطول النفق الأسود الذي أُدخلت سيناء فيه عنوة من فترة زمنية تقدر بالعقود، إلى تقدير ربما يكون قرنًا أو يزيد.
فما الحل إذن؟
لا يجرؤ إنسان أن يقول لمن يتعرضون للإبادة لا تتحركوا ولا تنزحوا، لكن يمكن أن يقال لحراس "البوابة" افتحوا ممرًا آمنًا للعلاج والإنقاذ، وأحكموا إغلاق الحدود. واضغطوا على الأطراف الدولية بإبداء الغضب الشعبي وراءكم. وما دمتم قد لوّحتم ولعبتم بورقة التهديد بالهجرة غير النظامية عبر البحر المتوسط من قبل، فلديكم من الأدوات والأوراق التهديدية ما يمكّنكم من النجاة من سيناريو النكسة الثانية.