في كتابه دفاتر فلسطينية الصادر عام 1978 يمزج الشاعر الشيوعي الفلسطيني معين بسيسو (1926 - 1984) مذكراته الشخصية بالحوادث التاريخية التي عايشها خلال فترة شبابه وما تلاها، ومن بين ما أسهب في شرحه قصة انتفاضة قطاع غزة عام 1955 والتي أنهت مشروعًا مصريًا أمريكيًا بمشاركة مندوبين عن وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، لتوطين اللاجئين في سيناء.
بحسب الدكتور إبراهيم حمامي رئيس مركز الشؤون الفلسطينية، فإن مشروع التوطين جاء نتيجة قدر كبير من التفاهم المشترك آنذاك بين حكومة حكومة جمال عبد الناصر الثانية التي تشكلت بقرار من الرئيس محمد نجيب من جهة، ووكالة الغوث من جهة أخرى، لتصفية القضية الفلسطينية، أو بشكل أدق تصفية الجزء الذي حكمته الحكومة المصرية.
ويستطرد حمامي بأن الأمر تجاوز مرحلة التفاهم إلى مرحلة الاتفاق الرسمي، وهي المرحلة التي قادها حسن إبراهيم وزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية، ليوقع في النهاية وزير الخارجية محمد فوزي على الاتفاق، الذي خصص لتنفيذه مبلغ 30 مليون دولار أمريكي تنفق لأغراض الإنشاء والاستيطان.
ويضيف الدكتور إبراهيم حمامي أن بنود مشروع التوطين ألزمت مصر بتقديم الآتي:
- 230 ألف فدان من الأراضي شمال غرب سيناء إلى وكالة الغوث لإجراء اختبارات زراعية عليها مع إعطاء الحق للوكالة بانتقاء 50 ألف فدان صالحة للزراعة من أجل اللاجئين.
- إيصال 1% من حجم مياه نهر النيل سنوياً إلى هذه الأراضي بسيناء.
- أن تتمَّ التجربة بدايةً على عشرين ألف لاجئ فلسطيني داخل قطاع غزة، ومن ثمَّ إرسال الدفعات الأخرى من اللاجئين والبالغ عددهم 59500 لاجئ من كل ربوع فلسطين، وقد توقع القائمون على المشروع أن تصل الزيادة في عدد سكان مخيمات سيناء خلال 25 عاماً إلى 85000 ألف نسمة.
- إعطاء الفلسطينيين سلطة للحكم المحلي لهذه المخيمات في سيناء، وذلك في محاولة لتسوية النزاع العربي-الصهيوني.
وعلى الرغم مما جاء في تقرير خبراء الأونروا من اعتراف المختصين باستحالة الحياة في تلك المنطقة، لقلِّة المياه والتكاليف الباهظة لاستصلاح التربة، ورأي الأطباء عن الأمراض التي ستداهم اللاجئين وتُهّدّد حياتهم. إلا أن مشروع التوطين قد حَمل في ذات الوقت موافقة خبراء وكالة الغوث والمضيِّ قدمًا في تنفيذه بمساعدة الحكومة المصرية.
مشروع التوطين
يسرد بسيسو -الذي حلت أمس الأربعاء الذكرى الخامسة والثلاثون لوفاته- في دفتره الثاني من الكتاب، الوقائع الإجتماعية والثورية التي تزامنت مع مشروع توطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء.
ومنذ أن تشكلت ملامح مشروع التوطين أخذ الحصار على المخيمات الفلسطينية بقطاع غزة يشتد من قبل وكالة الغوث إضافة إلى بعض المخاتير في بعض المخيمات، الذين اختاروا أن يقدّموا عيون الأطفال الفلسطينيّين في المخيمات، بيضات مسلوقة للمخابرات المصرية وغيرها، بتعبير بسيسو. بالإضافة إلى تشديد الحاكم العسكري المصري سعد حمزة إجراءاته القمعية مثل إلغاء حق الاجتماع والنشر والتظاهر، وكان يذهب إلى مخيمات في وسط قطاع غزة مثل البريج والنصيرات والغازي، ليصرخ في اللاجئين "الأفضل أن تذهبوا إلى سيناء في اللوريَّات بدل أن تذهبوا إليها مشيًا على أقدامكم".
ملاحقات المعترضين
ملاحقات كثيرة طالت المعترضين على مشروع التوطين؛ خاصة من الشيوعيين، بعضهم أرسل إلى مصر ليحاكموا بتهم تصل عقوبتها إلى السجن المؤبد، رغم وجود بعض النماذج المضيئة مثل الضابط المصري لطفي واكد –وصفه معين بسيسو بالوطني- والذي حكم على شيوعيين فلسطينيين بأحكام مخففة أقصاها خمس سنوات واعتبرهم جماعة وطنية تدافع عن أرضها، ولكن كان واجبًا عليهم أن يحصلوا على إذن لطباعة المنشورات.
أسهمت إسرائيل في المشروع بإسهامها عندما شنت هجومًا على مخيم البريج راح ضحيته 26 شهيدًا وعشرات الجرحى بالإضافة إلى البيوت التي تم تدميرها. وكان هذا بمثابة إعلان بداية عصرِ الغارات الإسرائيليَّة على المخيَّمات في قطاع غزة من أجل تفكيك المخيمات، وترحيل لاجئي قطاع غزة لتوطينهم في سيناء.
انخراط بسيسو في المشهد
في صيف العام 1953، عاد معين بسيسو إلى قطاع غزة -في لحظة فارقة- بعد رحلة إلى العراق حيث كان يعمل مدرسًا للغة الإنجليزية في مدرسة الشامية المختلطة، وهو العام ذاته الذي قدم والتحق بالحزب الشيوعي العراقي. ونتيجة الصراع الدائر وقتها في العراق بين الحزب الشيوعي ونوري السعيد، اشتدت الرقابة البوليسية على نشاط الشيوعيين ومع انتهاء عقد عمله في المدرسة لم يتم التجديد له واضطر لمغادرة العراق.
وفي هذه الأثناء مع تطور المباحثات حول مشروع التوطين قد تحولت عصبة التحرر الوطني في فلسطين إلى الحزب الشيوعي الأردني، بعد إلحاق الضفة الغربية بالأردن. وأصبح أعضاء العصبة في الأراضي المحتلة 1948 أعضاء في حزب راكاح الإسرائيلي. لهذا رأى بسيسو ضرورة إنشاء حزب شيوعي فلسطيني. وبالفعل كتب على كعب إطار كاوتشوك النشرة الأولى "الشرارة" وبدأ نشاطه الحزبي في القطاع.
أطلق بسيسو المؤتمر الأول للحزب الشيوعي الفلسطيني في غزة، وكان يضم خمس مندوبين شُكّلوا اللجنة المركزيَّة الأولى للحزب الشيوعي في القطاع. وانتخب بسيسو سكرتيرًا عامًا لها. وكتب لأئحة داخلية للحزب، وبرنامج مرحلي جاء على رأسه ضرورة إسقاط "مشروع توطيين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء".
وتحوَّلت حصص التاريخ في المدارس، إلى حصة لفضح تقرير مشروع سيناء. مما أطلق حملة تفتيش مسعورة من قبل شرطة المباحث على الكثير من البيوت، بحثًا عن آلة "الرونيو" التي تُطبع عليها المنشورات الشيوعية التي تنشر أفكار مناهضة لمشروع التوطين. كانت المباحث تحفر أرضيات البيوت لتجد هذه الآلة، لكن بسيسو كان يخبئها تحت حوض من الأسمنت ترشح حوله المياه، لهذا كان يصفها بأنها آلة تطبع فوق الأسمنت منشور الماء.
وفي ليلة 28 فبراير 1955، شنت إسرائيل غارة على محطَّة السكّة الحديد في غزّة، وهو ما اعتبره بسيسو بدءًا في تنفيذ مؤامرة تهجير الفلسطينيين بقوة أكبر. ولكن في اليوم ذاته، كتب معين منشورًا موجهًا إلى الحاكم الإداري العام في قطاع غزة ومدير المباحث بالقطاع، ضد مشروع سيناء، ووقع عليها الفلاحون. وتم توزيع المنشور من رفح المصرية إلى بيت حانون.
وفي اليوم التالي خرج الآلاف من رفح حتّى بيت حانون، تحت شعار واحد؛ لا توطين ولا إسكان يا عملاء الأمريكان.
وبالرغم من تهديدات ومداهمات المباحث المصرية بقطاع غزة، سرعان ما تزايد نفوذ الحزب الشيوعي في نقابة المعلمين وبدأ المدرِّسون في المخيَّمات جمع توقيعات ضد مشروع سيناء.
وفي مارس/ آذار 1955 أي بعد سقوط أول شهيد فلسطيني برصاص الأمن الفلسطيني، وكان عضوًا بالحزب الشيوعي في غزة واسمه حسني بلال، عامل نسيج من المجدل واللاجئ إلى غزة وهو محتضنًا شعار "كتبوا مشروع سيناء بالحبر، وسنمحو مشروع سيناء بالدم".
اشتدت المظاهرات المناهضة لمشروع تهجير الفلسطينيين وإعادة التوطين في سيناء، وانتخب المتظاهرون في ساحة التاكسيات بالقرب من محطة السكة الحديدة التي تم قصفها من الاحتلال، لجنتهم الوطنية العليا لإدارة التظاهرات. وفي كل مخيم بقطاع غزة بدأ تعيين واختيار مندوبين عنهم وتشكيل لجان لحراسة مقر اللجنة العليا للتظاهرات، والذي كان في نقابة المعلمين بالقطاع.
لم يكن أحد يملك مسدسًا لا بسيسو ولا لجنته ولا كل من شارك في المظاهرات، فقط عرفوا أن أجسادهم بجوار بعضها ستشكل حائط الصد، ولهذا امتلأت شوارع غزة بالمتظاهرين في كل مكان. وأدى الغضب الجماهيري لهرب اللواء عبد الله رفعت الحاكم الإداري للقطاع إلى مدينة العريش، وإرسال سعد حمزة الحاكم العسكري للتفاوض مع اللجنة الوطنية العليا لمعرفة مطالبهم.
استجابة كاذبة
ظل حمزة ينتظر ما يقرب من ساعة للسماح له بلقاء أعضاء اللجنة العليا، وعندما دخل بدأ معين بسيسو وفتحي البلعاوي يمليان عليه قرارات اللجنة العليا والتي تمثلت في أن تعلن وسائل الإعلام العربية الرسمية إلغاء مشروع توطين الفلسطينين بسيناء، والبدء في تدريب وتسليح الفلسطينيين بالمخيمات، ومحاكمة المسؤولين عن مقتل حسني بلال وأصحاب قرار إطلاق النار على المتظاهرين، وإطلاق الحريات العامة وعلى رأسها حرية الإضراب والإجتماع والنشر. وعدم المساس بحرية أي متظاهر.
حمل سعد حمزة مطالب اللجنة الوطنية العليا ورحل، وتم إعلان حظر التجول في قطاع غزة كلها، ولم يستجب له أحد فظلت الجماهير الغاضبة تجوب الشوارع، وظل قميص بلال حمزة معلقًا أعلى سيارة جيب يجوب بها أعضاء اللجنة العليا الوطنية شوارع القطاع.
جاء الحاكم العسكري سعد حمزة مكلفًا من الحاكم الإداري الهارب من القطاع اللواء عبد الله رفعت ليعلمهم بأن مشروع سيناء أصبح غير ذي موضوع، ووعدهم بإصدار قانون لتدريب وتسليح المخيمات وفرض قانون للتجنيد الإجباري، والعمل على منح كل الحريات في القطاع. وأقسم على عدم المساس بأي شخص شارك في مظاهرات مارس 1955.
لن نموت
هذا القَسَم سرعان ما سيموت، إذ انطلقت اعتقال واسعة استهدفت شيوعيي غزة الذين نقلوا إلى السجون المصرية، خاصة أعضاء اللجنة الوطنية العليا خلال مظاهرات مارس 1955. حملة الاعتقالات هذه نفذها جنود سودانيين، بالتزامن مع إعلان وسائل الإعلام الإسرائيلية أن الحكومة المصرية تقوم بسجن عناصر الشغب في القطاع.
9 مارس 1955 يصل معين بسيسو إلى محطة مصر مقيدًا بالكلبشات من قطاع غزة، ليتم وضعه في سجن مصر العمومي. بعد أن كتب قصيدة في اللوري العسكري الذي نقله.
لن نموت .. نعم سوف نحيا
ولو أكل القيد من عظمنا
ولو مزقتنا سياط الطغاة
ولو أشعلوا النار في جسمنا
نعم لن نموت، ولكننا
سنقتلع الموت من أرضنا
خرج بسيسو من السجن عام 1957، قبلها كان ورفاقه رفضوا عروضًا للإفراج عنهم مقابل عدم عودتهم إلى القطاع، بل وأعلنوا إضرابًا عن الطعام استمر سبعة أيام ثم فكوه مقابل الإفراج عنهم على دفعات وإعادتهم جميعًا إلى قطاع غزة. وبالفعل صدر قرار الإفراج عنهم.
مشروع جديد يظهر
وفي بداية العام 1958، بدأ مشروع توطين جديد بإلحاق قطاع غزة بالأردن، تحت قيادة الملك حسين، وهو ما اعتبرته المخابرات المصرية مؤامرة. ومع مطلع العام 1959، تبدأ معه بحملة إعتقالات أكثر قوة ضد الشيوعيين، فكانت الإذاعة المصرية تبث الأخبار عن صيد الشيوعيين وتطلب من المواطنيين الإبلاغ عنهم.
وفي 23 أبريل 1959، هذه المرة لم يُعتقل بسيسو بمفرده ولكن برفقة زوجته صهباء البربري، وكانت أول فلسطينيَّة مصريّة تدخل السجن الحربيّ، قضت فيه أربعة أشهر في زنزانةٍ انفراديَّة، تمَّ ترحيلها بعدها إلى سجن النساء في القناطر الخيريّة. وفي اليوم التالي 24 أبريل 1959، طردت الكويت أسرة بسيسو متمثلة في أبيه وأمه وأخوته، ومئات العاملين الفلسطينيين بتهمة الشيوعية، أو على حد وصف بسيسو هجوم الهكسوس الجدد.
إلى أن جاء مارس 1963، وأتى قرار الإفراج عن المعتقلين الشيوعيين الفلسطينيين، فالسجن الحربي يغلق أبوابه وراء أبناء غزة. وعلى جدران الزنازين كان يرسم معين بسيسو الطائرات والسفن قائلًا "لن يتمكنوا من قتلك ما دُمت تسافر".
النهاية
بقى بسيسو وفيًا للقضية الفلسطينية، ولفكرة حزب موحد للشيوعيين الفلسطينيين، فقد مثل شيوعيو قطاع غزة الصوت الأول والعمود الفقري للمقاومة التابعة للجبهة الوطنية المتحدة، وكانوا ضد مؤامرة "تدويل القطاع" بعد جلاء القوات الإسرائيلية منه، وضد التوطين في أي أرض غير أرضهم الفلسطينية. بل وساهموا في إعادة مندوب الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر – الفريق محمد حسن عبد اللطيف، إلى أرض القطاع.
رحل بسيسو في 23 يناير 1984 مُنهك القلب في زمن فلسطيني صعب، ولكن دفاتره تفتح أبواب الأمل لمقاومة أي مشروع حالي لقتل القضية الفلسطينية، مثل ما يُعاد تقديمه اليوم بوصفه صفقة القرن، على الرغم من أن لا أحد يعلم بشكل يقيني ما هي بنود الطرح الأمريكي الجديد تحت قيادة ترامب لنسف القضية الفلسطينية. ولكن المعروف أن التاريخ عندما يعيد نفسه، يعود كمهزلة.
المصدر: كل المعلومات في هذا المقال تستند إلى كتاب معين بسيسو "إلا إذا ذكر غير ذلك".