مصلون في جامع الأزهر- الصورة: فليكر صفحة صندوق النقد الدولي برخصة المشاع الإبداعي.

أين نحن من دين الدولة ودين المؤسسة؟

منشور الأحد 4 مايو 2025

عبْر التاريخ المصري الحديث؛ ظلَّت علاقة السلطة الحاكمة والمؤسسة الدينية محل استقطاب مستمر، انعكست ظلاله على أحوال المجتمع بأسره.

وبينما نتتبع تحولات هذه العلاقة، ونرصد مساراتها من محاولات الدولة فرض التبعية على السلطة الدينية، وسعي الأخيرة في المقابل لنيل مساحات استقلال وهيمنة، يبدو مهمًا إدراك التمايز بين "الديني" و"الاجتماعي"، من موقعنا كمواطنين. أي أن نتجاوز هالة القداسة التي تحيط بالسلطة؛ سياسية أو دينية، نحو ممارسة حقوقنا النقدية، وتوسيع اختياراتنا فلا تقتصر على ما تطرحه تلك السلطات، بل تنظر خارجه.

فالشأن الديني وإن كان في أحد أبعاده "معرفيًّا" يخص الدارسين والمعنيين به، لكنه في أبعاده الأخرى يطوَّع لعديد من المآرب السلطوية. ولا يكفي تنزيهه وتخويف الناس من النقاش العام حوله، لإقصاء الجميع من الساحة، بحيث تبتلع السلطة الدينية المؤيَّدة سياسيًّا تنوعات المجتمع، وتحتكر خياراته الأخلاقية والفكرية، وتتحكم في مصالح فئاته المختلفة وفق توجهاتها.

دخول المجال الديني ومؤسساته ضمن سلطة الدولة الوطنية الحديثة هو أحد ملامح تثبيت تلك الدولة ومركزيتها، واحتكارها للشأن الأمني والتشريعي، خلافًا للإمبراطورية التي سمحت بأشكال متنوعة للحكم الداخلي تتنوع جغرافيًا ومِلليًّا وطبقيًّا. إلا أن مشاريع السلطات تختلف لأشكال هذه العلاقة، كما تنعكس طبيعة السلطة ومدى التطور الاجتماعي على المسار الذي تتخذه.

خلال القرن التاسع عشر، خصوصًا في عهدي محمد علي والخديو إسماعيل، سعى حكّام مصر إلى تقليص النفوذ السياسي لطائفة علماء الأزهر، في سياق مشروع "تحديثي" تتركز فيه السلطة السياسية في قبضة الدولة، ويتجاوز دور "الوسيط السياسي/الشعبي" الذي لعبه الأزهريون في مراحل تاريخية سابقة.

كانت السلطة تدفع عادةً بعدم قابلية "الطائفة الأزهرية" للتجاوب مع مقتضيات التحديث، وتَشدُّدها في مقاومة الإجراءات التشريعية والتنظيمية التي تقررها الدولة، بحكم قوتها المعنوية المعزَّزة بقوامتها على معارف الفقه والتفسير الإسلامي.

الأزهر في الجمهورية

عبد الناصر يؤدي صلاة الجمعة الأخيرة من رمضان في الجامع الأزهر، 6 يناير 1967

ثم جاء عهد الرئيس جمال عبد الناصر، وهو في نظر باحثي الفكر الإسلامي المعاصر تتويجٌ لهذا المسار، حيث قررت الدولة توجيه ضربة قوية لنفوذ المؤسسة الدينية، مع ضم الأوقاف عام 1953 وإلغاء المحاكم الشرعية عام 1955، ثم إصدار قانون إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها عام 1961. 

بمقتضى هذا القانون، أصبح الأزهر مؤسسة رسمية مموَّلة جزئيًّا من الموازنة العامة. كما تحوَّل العاملون به لموظفين عموميين يتقاضون رواتب شهرية. واستُبدلت بالكتاتيب المعاهد الأزهرية، التي أُدخلت إليها العلوم الطبيعية والجغرافيا والحساب، وافتُتِحت في جامعة الأزهر كليات الهندسة والطب والزراعة والإدارة.

كان للمشروع الناصري دوافعه السياسية ورؤيته الاجتماعية التي سمحت بقفزة كبيرة نحو رسمنة المؤسسة الدينية، لتُنتج الانحيازات المتباينة تجاه السلطة السياسية بين وزارة الأوقاف ودار الإفتاء، في مقابل مؤسسة الأزهر التي احتفظت رغم التضييق بوضعية خاصة.

فمن ناحية؛ اعتبرت السلطة أن الأزهر بشكله القديم من ملحقات النظام الملكي/الإقطاعي، تهيمن عليه تبعية المشايخ لأصحاب النفوذ والثروة، كما ظهر في خطاب ناصر عن شيوخ الديك الرومي، البعيدين عمّا وصفه بالطابع "الاشتراكي" للإسلام الذي يتجلى في أداء الزكاة والجمع بين العمل الديني والانخراط في شؤون الدنيا.

ومن ناحية أخرى؛ كانت السيطرة على الأزهر ضرورة فرضتها الاستقطابات السياسية بين المشروع الناصري وخصومه، داخل ما سُمِّي "معسكر الرجعية" العربي وجماعة الإخوان المسلمين، بعد تفجر العداء معها. كان دمج الأزهر ضمن مؤسسات الدولة الرسمية، وفق تلك الرؤية، تدعيمًا لمشروعها، يكتسب أكبر المؤسسات الدينية لصفها، في مواجهة تحديات التأسيس.

رهانات التداخل

في ورقتها البحثية التي تتابع تحولات العلاقة بين الأزهر والدولة المصرية على مدى أربعين عامًا "الدين والسياسة في مصر: علماء الأزهر، الإسلام الراديكالي، والدولة (1952-94)" الصادرة عام 1999 عن جامعة كامبردج، تلفت الباحثة مليكة زغال النظر لاقتراح طه حسين الذي سبق إصدار القانون، بإدماج جامعة الأزهر ضمن منظومة التعليم الحكومي الموحَّد، بصفتها كلية دراسات فقهية يُلتَحق بها في مراحل الجامعة والدراسات العليا، على أن تُلغى الكتاتيب لطلاب المراحل الابتدائية والإعدادية، وهو ما يحافظ برأيه على استقلالٍ نسبيٍّ للمؤسسات الجامعية عن سلطة الدولة.

تجاهل عبد الناصر المقترح، ليس فقط بسبب المعارضة الشرسة التي لاقاها من الأزهريين كما تعتقد مليكة زغال، بل أيضًا لاستشرافه الدورَ الذي تلعبه المؤسسة الدينية في إضفاء "الشرعية السياسية" على النظام الحاكم، ما لمسه شخصيًّا خلال خطابه الشهير من فوق منبر الأزهر في نوفمبر/تشرين الثاني 1956، مع بدء العدوان الثلاثي على مصر الذي رسَّخ عبدُ الناصر بعده رئاستَه واستأثر بالسلطة الدستورية.

بعكس ما افترضه الحاكم أدى توسع البيروقراطية الدينية تدريجيًّا لإتاحة مساحات حركة

تُركِّز مليكة زغال على ضرورة التفرقة بين مفهومي "التحديث" و"العلمنة" في توصيف إجراء عبد الناصر إزاء المؤسسة الدينية وما ترتب عليه. فالرابط بينهما ليس شرطيًّا، وإن كانت ثمة علاقة بينهما، تدور حول مسعىً مفترضٍ للدولة الحديثة نحو المواطنة الدستورية المتساوية، وفق معيار قانوني واحد، ونظام تعليمي موحَّد، لا يُقسِّم الطلَّاب على أسس دينية، ولا يُفرِّق بينهم في المصروفات، ولا ينتهج تقديرًا لقدراتهم يخضع لسلطة تنسيق منفردة.

قُدِّم القانون الجديد تحت لافتة "تطوير الأزهر"، لتجنب ما يثيره مصطلح "تحديث" من استفزاز لقيادات الأزهر ومشايخه، الذين انقسموا بين مؤيدين للقانون ومعارضين يعتبرونه اعتداءً سافرًا على استقلال المؤسسة. اعتمد التطوير على إحداث تداخل بين مساحات التعليم المدني والديني، واستحداث سياسة مستقلة للقبول في المعاهد الأزهرية وجامعة الأزهر، مقابل زيادة مساحة التعليم الديني في المدارس العامة، كنوع من التعويض عن النفوذ "السياسي" المنتزع.

في رأي مليكة زغال، غيَّر ذلك التداخل من طبيعة التعليم الديني نفسه، إذ لم تعد تتوفر لطالب المعاهد والكليات الأزهرية مساحات التفرغ نفسها، وبات ملتزمًا باستذكار مواد التعليم الديني والمدني معًا سعيًا إلى مكانتين؛ إحداهما لها امتياز ديني بعضوية الطائفة المشايخية، والأخرى تحوز التقدير بوصفها شهادة "حديثة".

وبعكس ما افترضه الحاكم من تقليص نفوذ الأزهريين وإحكام تبعيتهم للنظام السياسي، أدى توسع البيروقراطية الدينية تدريجيًّا لإتاحة مساحات حركة، في وجود هيئة كبار العلماء ومجمع البحوث الإسلامية، اللتين أصبحتا هيكلين نافذين، يتمتع ضمنهما العلماء/الدعاة بدرجات وظيفية ومهنية متعددة على السُلَّم الإداري.

ريميكس السبعينيات

لكنَّ المتغير الذي دفع بتلك التناقضات لآفاق أبعد أتى بعد انتكاس المشروع الناصري في 1967، ثم في عصر الرئيس أنور السادات، الذي شَهد انبعاث تيارات الصحوة الإسلامية بقياداتها القادمة من صفوف الطبقة الوسطى المتعلمة، حيث مؤسسات التعليم المدني التي شكَّلت حاضنة دعوية وجماهيرية لهم.

عَبَّر مُركَّب الداعية الصحوي الآتي من خلفية تعليمية مدنية، عن مزج/remix بين عالمين، حيث الخطب والفتاوى التي تجمع شروحاتٍ تراثيةً مع توجهاتٍ علمويةٍ مع كتالوجاتِ تنميةٍ بشريةٍ وحواديتَ جنسيةٍ ومواعظَ اجتماعيةٍ وآراءٍ فنيةٍ. شكَّل هذا الريميكس امتيازًا للداعية الصحوي وسَّع قدرته على التأثير الاجتماعي والثقافي، وحضوره الشعبي الذي تجاوز صورة "عالِم الأزهر"، الملتزم بالزي والمنهج التقليدي، والموصوم من تيارات الصحوة بالانتماء لمؤسسة "تابعة" للنظام السياسي.

وفي مواجهة الداعية الصحوي تنبهت إدارة الأزهر لضرورة اقتحام المجال العام بصورة أوسع، اعتمادًا على فكرة شبيهة: أداء الوظيفة الدعوية وجمعها بالاستحقاق المهني/المدني.

مانشيت الأهرام السادات يؤكد للمجاهدين الأفغان دعم مصر لهم في حربهم ضد الاتحاد السوفيتي. أبريل 1980

كانت الغبطة التي شعر بها المشايخ التقليديون تجاه شعبية الداعية الصحوي دافعًا لإشعال سباق المزايدة الدينية على ملعب المجتمع، مع الانحياز للسلفية الوهَّابية الصاعدة والمُموِّلة في السبعينيات وبعدها. وفي الخلفية كان قرار السلطة السياسية بتعويم العملة الدينية؛ سلعة منافسة في سوق غير منضبطة، تتوجه سهامها نحو أعداء النظام، وتمتص حالة التيه الاجتماعي والغضب السياسي التي تلت هزيمة 1967.

تناغم خطاب شيوخ الأزهر مثل محمد الفحّام وعبد اللطيف السبكي ومحمد متولي الشعراوي مع خطابات الصحوة، التي صوَّرت الهزيمة عقابًا لنظام يوليو على تبنيه الاشتراكية. ثم شاركوا في الحملات التكفيرية التي شُنَّت على اليسار في 1972 مع صعود الحركات الطلابية اليسارية.

ودعم الشيخ عبد الحليم محمود جبهات ضاغطة داخل البرلمان المصري، تدعو لتطبيق الشريعة الإسلامية واستعادة المجتمع لـ"هويته الإسلامية" عبر صياغة دستور إسلامي بين الأعوام 1969 و1976. وخلال فترة توليه رئاسة الأزهر، بدأت خطط توسُّعِ المعاهد الأزهرية نحو نظام تعليمي موازٍ، من 212 معهدًا عام 1963 إلى 1256 في 1973، وهي مستمرة حتى اليوم. كما خاطب الدول العربية مطالبًا بالتبرع لتوسعات الأزهر، مشيرًا لأنه طالما حارب "الأفكار المنحرفة" مثل الاشتراكية.

ومع ظهور جماعة التكفير والهجرة، وزيادة التوترات بين الأزهر ونظام السادات، تمسكت رئاسة الأزهر، للغرابة، بقانون عام 1961، في مواجهة محاولة الرئيس نقل سلطاتها لوزارة الأوقاف في 1974. وتقدمت نحو الوساطة السياسية، وفق صيغة مساومة تحتفظ لها بموقعها مقابل تقديم فتاوى مساندة للنظام السياسي، خصوصًا بعد حادثة اختطاف وقتل الشيخ الذهبي على يد "التكفير والهجرة"، حيث وصفت مجلة الأزهر الجماعة بـ"الخوارج"، في الوقت نفسه الذي كان فيه شيخ الأزهر جزءًا من حملات إعلامية تنبذ ممارسات تكفير المسلمين!

توقَّعت سلطة الأزهر في المقابل أن يمنحها نظام السادات امتيازات تتفق ومطالباتها العلنية بتطبيق الشريعة، وأن ينصاع للحملات التي شنَّتها ضد مقترح قانون الأحوال الشخصية، الذي عُرِف إعلاميًّا باسم "قانون جيهان السادات"، بدعوى مخالفة بعض مواده لنصوص الشريعة. لكن مجلس الشعب وافق على القانون عام 1979. ولم يكفِ التعديل الدستوري في 1980، الذي جعل مبادئ الشريعة الإسلامية "المصدر الرئيسي للتشريع" بعد أن كانت "مصدرًا رئيسيًا"، لترضية الغاضبين داخل المؤسسة، الذين تفاقم تأثيرهم خلال عهد الرئيس مبارك.

في التسعينيات، ظهرت جبهات داخل الأزهر تنافس الإسلام السياسي في نطاق "الحرب ضد العلمانيين". تشكلت "ندوة العلماء" من أساتذة كلية الدعوة بالأزهر، وطالبت الرئيس مبارك برفض ترخيص "حزب المستقبل" للكاتب فرج فودة، في بيان نشرته جريدة "النور" الإسلامية قبل يومين من اغتيال فودة.

بعد تفككها، أعيد إحياء جبهة العلماء، الكيان الأزهري الذي نشط بين عامي 1946 و1960، وتداخَل في حينه مع الإخوان المسلمين، في مواجهة مفكرين مثل طه حسين وأحمد محمد خلف الله. بعد إحيائها، خاضت الجبهة أولى معاركها شريكةً للإسلام السياسي، ضد مؤتمر السكان الذي عُقد في مصر سنة 1994، ثم أعقبتها بالانضمام لمجمع البحوث الإسلامية في حملة تكفير المفكر نصر حامد أبو زيد.

خلال عهد مبارك، التقت أطياف أزهرية متعددة مع تيارات الإسلام السياسي على أرضية المرونة التي يوفرها الريميكس المدني/الديني، ما أنتج كوكتيلات لا نهائية من الفتاوى والتأويلات تناسب تحورات الميديا المعاصرة.

وجمعت المؤسسة داخلها الفتاوى المركزية المؤيدة لاتجاه النظام السياسي مع أقصى الفتاوي التكفيرية تشدُّدًا. إذ توزعت الاتجاهات بين رموزها المركزية والطرفية؛ فكان منهم الذين أشرفوا على مراجعات الجماعة الإسلامية في الثمانينيات، وظهر منهم الشيخ عُمر عبد الرحمن وجبهة العلماء، والشيوخ الأقل رسمية، مثل عبد الحميد كشك والمحلَّاوي وصلاح أبو إسماعيل، الذين مارسوا نشاطهم الدعوي غالبًا عبر المساجد والمؤسسات الخاصة.

بعد 2011، نجحت المؤسسة الدينية في تثبيت وساطتها السياسية دستوريًّا، واستثمرت جرائم الإسلام السياسي وابتزازاته لتتمسك بوصايتها على شؤون المجتمع؛ تعليمًا وثقافةً وتشريعًا، كما حدث غالبًا مع كل منعطف تاريخي يستعر فيه الصراع بين النظام الحاكم والإسلام السياسي.

يبدو إذًا أن مسار التحديث الرسمي لم يدفع تلقائيًّا المؤسسة الدينية في اتجاه المعيارية القانونية الموَّحدة والمواطنة المتساوية، بل دفع السياق السياسي عكسيًّا لمساومات وصيغ تهجينية، طيَّفت النفوذ الديني، سعيًّا لتشكيل فضاء سياسي-ديني يقبض على روح المجتمع وأفراده. لا تُقترح فيه الحلول للأزمات الاجتماعية إلا من داخل المرجعية الدينية وباللجوء إليها، وتُصادَر كل مرجعية معرفية وأخلاقية تخرج عن نطاق هذا المُركَّب المهيمن، الذي يتقرَّب له الجميع تزلُّفًا، ويتحدثون تحت لافتته، من وزير التعليم والكتاتيب، إلى مقترحات المدارسية المساجدية، إلى الفنانين والمثقفين ومؤثري تيكتوك.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.