يتكرر السؤال بخبث مع كل أزمة اقتصادية واجتماعية يعاني منها المصريون: هل يندم المسيحيون على مشاركتهم في الاحتجاجات الواسعة في 30 يونيو، التي أطاحت بحكم جماعة الإخوان المسلمين؟
يتضمن السؤال اتهامًا مبطنًا للمسيحيين بالمسؤولية عن الأوضاع الحالية، من تراجع للحريات، وغلق للمجال العام، وأزمة اقتصادية طاحنة، فشلت السياسات الاقتصادية الحكومية المنحازة للأغنياء في وضع حد لها.
يستند أصحاب هذا الرأي إلى تصريحات قيادات جماعة الإخوان قبيل عزلها، بأن معظم المشاركين في الاحتجاجات في مختلف أنحاء مصر من المسيحيين والعلمانيين. ويتم التغافل عمدًا عن أن الرافضين لحكم الإخوان كانوا يمثلون تيارات متنوعة، من بينها المسيحيين بطبيعة الحال، وأنه ليس من المنطق أن يعاقَبوا على ممارسة حقوقهم الدستورية والقانونية.
ويقارن هؤلاء بين الزخم السياسي والإعلامي والحراك المجتمعي خلال المرحلة الانتقالية 2011-2013، وبين الجمود والتراجع والأزمات الاجتماعية المتلاحقة، التي انعكست على قدرة المواطنين على التعبير عن همومهم واحتياجاتهم.
تتطلب الإجابة عن السؤال، أولًا إدراك السياق وحجم التهديد الذي تعرض له المسيحيون خلال الفترة الانتقالية، التي لعبت تيارات الإسلام السياسي الدور الأساسي فيها. وثانيًا، تحليل طريقة تعامل تلك التيارات بعد عزلها من الحكم، وهل لا تزال على مواقفها ورؤاها أم قدمت صورة مغايرة، وهذا يقودنا إلى فرضية جدلية، ماذا يحدث لو عاد تيار الإسلام السياسي إلى الحكم مرة أخرى؟
تحت سمع وبصر مؤسسات الدولة
كانت تيارات الإسلام السياسي جزءًا كبيرًا من المشكلة خلال المرحلة الانتقالية، ولم تحاول أن تكون جزءًا من حلها، ومعالجة تداعياتها.
تحالفت جماعة الإخوان أثناء سيطرتها على غالبية مفاصل الدولة مع التيارات السلفية والجماعة الإسلامية، وهم على يمينها، بل وزايدت عليهما، لتحقيق الهيمنة المطلقة على جميع مؤسسات صناعة القرار، وإقصاء باقي اللاعبين السياسيين.
عقب ثورة 25 يناير مباشرة، تراجع خطاب السياسة والتوافق الوطني لصالح سباق الزمن لحصد المناصب السياسية، بداية من تشكيل الأغلبية داخل مجلسي الشعب والشورى، وفوز مرشح الجماعة وعضو مكتب الإرشاد بالرئاسة، ثم تعيين رئيس وزراء من التيار نفسه. وشهدت الاستحقاقات السياسية وتفاعلات المرحلة الانتقالية خطابًا ديماجوجيًا طائفيًا، ارتكز على السمو والتعالي الديني، وحرض على الاعتداءات الطائفية ضد المسيحيين والشيعة.
هواجس ومخاوف المسيحيين كانت رد فعل طبيعي، وإنساني جدًا، خصوصًا مع صبغ الدولة بسمت ديني
ولست بصدد سرد الكثير من حالات الاعتداء التي ساهم فيها أنصار الجماعة، وخلفت ضحايا وخسائر، وحالة من صناعة الخوف والرعب عند قطاع واسع من المصريين من مآلات المستقبل.
أشار تصاعد العنف الطائفي خلال الفترة الانتقالية بوضوح إلى رغبة التيارات الإسلامية في صناعة الأزمات، للتحكم في المجتمع من منظور طائفي، مع تهميش دور القانون لصالح التدخلات العرفية التي تسمح لها بمساحة أكبر من الحضور. في الوقت الذي لجأت فيه الحكومة للحلول المؤقتة، وبترتيبات لا تكفل جبر الضرر، وتسمح بوضوح بإفلات المعتدين من العقاب.
وبطبيعة الحال، مع تسلم الرئيس الإسلامي لمهام منصبه، تزايد تهديد مواطنة المسيحيين، وغيرهم من الأقليات الدينية، مع استمرار الانتهاكات نفسها التي بدأت خلال فترة المجلس العسكري. تعرضت بعض الكنائس للحرق، والمنازل للاعتداءات والنهب، وزادت حالات الخطف مقابل الفدية، تزامنًا مع الملاحقات القضائية تحت مسمى "ازدراء الأديان"، ومحاولات فرض نمط حياة محافظ على المصريين.
مشهدان يعدان فارقان في فلسفة جماعة الإخوان وهي في الحكم؛ أولهما الهجوم على الكاتدرائية بالعباسية، مقر بابا الكنيسة ورمزها، وهي سابقة في تاريخ مصر الحديث.
تحت سمع وبصر مؤسسات الدولة الأمنية والسياسية، حاول عدة آلاف اقتحام أكبر رمز مسيحي في الشرق الأوسط، عقب تشييع جنازة ضحايا أحد الأحداث الطائفية، دون أن تتدخل الجماعة أو تدعو أنصارها للانسحاب. أما المشهد الثاني، فكان مقتل عشرات والتمثيل بجثث أربعة من الشيعة بقرية زاوية أبو مسلم بمحافظة الجيزة عقب التحريض ضدهم، لمجرد عقد اجتماع ديني بأحد المنازل.
بالتالي كانت مخاوف المسيحيين، ومعهم كثير من المصريين، رد فعل طبيعي، وإنساني جدًا، خصوصًا مع صبغ الدولة بسمت ديني، وإقصائها للمخالفين. وبالتالي كانت 30 يونيو، وما ترتب عليها، ثمار ما زرعته الجماعة وأنصارها.
دروس التاريخ
دفع أنصار الجماعة تكلفة كبيرة جرّاء هذه السياسات، فهناك أبرياء راحوا ضحية فض اعتصامي رابعة والنهضة، وهناك من أمضوا عقدًا كاملًا من حياتهم في السجون دون توجيه تهمة، أو الحصول على محاكمة عادلة، في ظروف سجن غير آدمية. هذه انتهاكات لحقوق مواطنين مصريين، واجبنا الدفاع عنهم سواء كانوا مدانين في جرائم أو معتقلين بالمخالفة للقانون.
تيار الإسلام السياسي الراغب في الحكم موجود لكنه خامل، وسينشط إذا وجد لحظة انفجار مجتمعي مناسبة
وحتى بعد عشر سنوات على عزل جماعة الإخوان المسلمين، لم تستوعب قيادات الجماعة دروس التاريخ، ولم تراجع وتقيّم تجربتها في الحكم، ولم تعترف بأخطائها وأسباب فشلها، ولم تعتذر لضحاياها عن تبني العنف وتوجيه السلاح للمصريين، والتحريض عليهم.
في هذا الصدد، يتوهم كثيرون، كاتب المقال ليس منهم، أن الإجراءات الأمنية القاسية الحالية، وانقلاب الناس على جماعة الإخوان في لحظة تاريخية معينة، أنهى وجود هذا التيار سياسيًا، أو أنهى رغبة كثيرين في عودته للحكم بشكل مباشر. ولكن لا يزال للجماعة أنصار، ولا تزال تحظى بقبول عند قطاعات كبيرة. كما أن تيار الإسلام السياسي المحافظ بشكل عام موجود في البرلمان، وله حضوره في المناسبات العامة ممثلًا في حزب النور، الذي كان شريكًا لجماعة الإخوان.
ومن المفارقات أن الدستور المصري يتضمن مادة تنص على عدم جواز قيام أحزاب على أساس ديني، أو تقوم بالتفرقة على أساس ديني أو طائفي. يمكن القول إن تيار الإسلام السياسي الراغب في الحكم موجود لكنه خامل، وسينشط إذا وجد لحظة انفجار مجتمعي مناسبة. لا سيما في ظل استمرار تردي الأوضاع الحالية، وغلق المجال العام، والمزايدة الرسمية من الدولة على المحافَظة الدينية. سينشط تحت لافتة أخرى، وبقيادات أخرى، لكن بالرؤى والأفكار نفسيهما.
يعاني المسيحيون حاليًا، كغيرهم من المصريين، معاناة اقتصادية واجتماعية، ومن تراجع حرياتهم العامة، ليس أدل على ذلك من اتهام مسيحيين اُعتقلوا، لانتقادهم النظام الحاكم وسياسات الحكومة، بالانضمام لجماعات إرهابية ضمن جملة اتهامات أخرى. كما استهدفتهم الجماعات الإرهابية في عمليات مسلحة راح ضحيتها العشرات خاصة في الفترة بين 2016 و2018.
ومع ذلك، لا يمكن إغفال تحسّن حال المسيحيين نسبيًا في بعض الجوانب، فلم يعد هناك مسؤول يستطيع التحريض على الكراهية والعنف ويتبنى خطاب التفرقة بشكل علني وصريح، حتى ولو كانت لديه رغبة في التمييز الديني. كما تراجعت القدرة على الحشد والعقاب الجماعي التي طالما صاحبت أحداث التوتر والعنف الطائفي.
تكرار السؤال عن مشاعر الندم على اختيارات سابقة، حدثت في ظرف سياسي معين، هو محاولة للالتفاف على السياق الذي جعل هذه الاختيارات حتمية. لقد رسخ نظام يوليو فكرة "أنا أو البديل الإسلامي"، بما يعنيه ذلك من عودة لعهود الذمية.
ثم قامت ثورة 25 يناير، فتنحى مبارك وجاء البديل الإسلامي، ولم ينتظر طويلًا حتى قدم نفسه بصورة أسوأ من مماليك الخلافة العثمانية، فشهدت مصر الحركة الاحتجاجية الواسعة التي ترتب عليها عزل محمد مرسي وإنهاء حكم الإخوان المسلمين.
وعاد نظام يوليو بشكل جديد، وخطاب جديد. وفي ظل غياب السياسة والقوى المدنية وضعفها يصبح بديله من جديد هو تيارات الإسلام السياسي.