هناك قصة مفادها أن الرئيس جمال عبد الناصر أصيب بمرض شديد ذات مرة، فطلب البابا، كيرلس السادس، بالاسم كي يحضر ويصلي له، ثم تحورت القصة فصار المريض هذه المرة ليس ناصر بذاته وإنما إحدى بناته. طبعا نسيج القصة ركيك بعض الشيء، لكنها تكشف خيال الأقباط عن شخصية عبد الناصر الأسطورية، التي التحمت في مخيلتهم بصداقته للبابا وتبرعه لبناء الكاتدرائية.
لأكثر من سبب ربط المصريون بين الرئيس عبد الفتاح السيسي وجمال عبد الناصر. لكن الأقباط بالذات ربطوا بين الرئيسين من منطلق يخص أزمة هويتهم. فرغم انشغال عبد الناصر بفكرة القومية العربية، وكون الكنيسة وقتها مجرد بناية للعبادة وليست منبرًا للخطاب والتوجيه، إلا أنه فتح لهم أحضانه كأبّ، وعاملهم مثل أي حزب مؤثر في حركته القومية.
أعاد السيسي لأذهانهم مرة أخرى صورة الزعيم الحاني الآتي من خلفية عسكرية بحتة، دون الانتماء لتيار ديني متشدد قد يسبب حساسية تجاه قيادات تلك الكتلة، أو يخلق لهم، متعمدًا، تيارا مضادًا له رموزه وترسانته الخطابية الخاصة به، مثلما حدث في أزمنة غابرة. إذ يرى كثير من مفكري الأقباط أن الشيخ الشعراوي لم يكن سوى نموذج صنعته الدولة لمجابهة امبراطورية "شنودة".
تلك المعركة الحامية بين الدولة والكنيسة التي بدأت منذ عهد السادات.
بابا العرب وقائد نصر أكتوبر
أرجع هاني حبيب أستاذ تاريخ الكنيسة أصل الغصة بين السادات والبابا شنودة لعدة عوامل، أتى على رأسها عدم وجود كيمياء بينهما؛ يمكننا تشريحها في كون البابا أصلًا سياسي وشاعر مفوّه في فترة الشبيبة الملتهبة، قبل ارتداء العمة المستديرة وجلباب البابوية الأسود. والقاعدة تقول دومًا: الأقطاب المتشابهة تتنافر!
من جهة أخرى، لم يكن من السهل على زعيم حرب أكتوبر حينما أصدر قرار السماح لمسيحيي مصر بالسفر للقدس، لتطبيق إجراءات كامب ديفيد، قبول موقف البابا الرافض لفكرة زيارات الأقباط من أساسها. وقتها قال البابا بمنتهى الحسم: "لن يدخل مسيحي مصري أرض القدس قبل أخيه المسلم". فائزًا بعدها بلقب بابا العرب. أما السادات فاعتبرها منتهى الندية، وشعر أن البلد له رئيسان.
ما زاد الطين بلة أن السادات بعدما احتجز البابا في دير الأنبا بيشوي، عرض على الأب متى المسكين تولي منصب البابوية بدلًا من البطريرك المحبوس، ولم يكن اختيار السادات للمسكين اعتباطيًا، حيث اتسمت العلاقة بين الراهب والبابا بالتوتر، نظرًا لخلافات عقائدية وصلت لحد مصادرة كتب المسكين من مكتبات الكنيسة الأرثوذكسية.
الآن، الأقباط لا يعتبرون السادات رئيسًا قوميًا، بقدر ما يرونه رئيسًا مُسلمًا. لكن هل شفيت مصر من الأصولية وتنفست الكنيسة الصعداء باغتيال السادات وتولي نائبه الحكم؟
الأقباط كحطب لمحرقة يناير
لم يفرج الرئيس محمد حسني مبارك عن البابا شنودة بمجرد توليه الحكم، أتى ذلك متأخرًا عدة سنوات وحتمًا كان لذلك التأخر دلالته. على أي حال، كانت عودة البابا لرعيته لا تقل ابتهاجًا عما لو كان يسوع نفسه تجسّد من جديد ليحضر معهم عيد مولده.
اكتشف الأقباط أن احتجاز البابا شنودة لقنه درسًا مفاده أنه لن يفرط مرة ثانية في حق من حقوقه متمثلًا في حقوق أبنائه. نرى ذلك في فيديو مُسرّب حديثًا على فضاء فيسبوك بعد وفاة البابا بسنوات، ويبدو من جودة التصوير تسجيله في الآونة الأخيرة من عهده، ينتهر فيه الأساقفة، على مائدته المستديرة، خلف الأبواب المغلقة، حول حادثة طائفية لا نتبينها بسبب الفيديو المبتور، ويبدو منفعلًا وهو يؤكد على أنه لن يذهب للتفاوض مع أحد المسؤولين، بعد أن تم الاعتداء على "أبنائه".
اتسم عهد مبارك مع الأقباط بالسكون الظاهري، مجرد كبوات طائفية تمر بها البلاد كأحداث الكشح مثلًا ثم تعود لحالة السكون المؤقت مجددًا. واعتبر المنظّرون أن كل هذا الهراء لا يخص حكم مبارك، بقدر ما هو ترسبات فترة الرئيس المؤمن، إذ هيمنت القوة السلفية آنذاك على المشهد، وكانت هذه الثغرات تُحل دوما بطرق عُرفية، وكثيرا ما انتهت بمودة بين كاهن الكنيسة ومشايخ المنطقة، بعد أن يتم إخضاع الطرفين لصُلح أمني.
ومن وقت لآخر كانت تقع حوادث اختطاف لفتاة مسيحية بأحد الأحياء الفقيرة، وبعدها بفترة تطل علينا في فيديو منشور على أحد مواقع الدعوة الإسلامية، مرتدية النقاب ومعها رضيعها، لتشهر إسلامها وتؤكد أنها لم تُختطف، وإنما هربت برضائها من بيت أهلها.
أما الجانب الإرهابي في النصف الثاني من حكم مبارك فكان حنونًا، تمثل في اعتداءات فردية على مُصلي يكون خارجًا من الكنيسة في أحد صباحات الآحاد بعد القداس، بمدية أو سيف، من قبل شخص مجهول الهوية ونكتشف في النهاية أنه هارب من مستشفى المجاذيب. دائمًا.
ظلت الأمور على نفس منوالها المستقر المضطرب من 2005 وحتى حادث القديسين في اللحظات الأولى من عام 2011 الذي غيّر مجرى الأمور تمامًا. وربما أزاح النظام أيضا!
لم يكن الأقباط، على الأقل الأجيال الحديثة منهم، معتادين على فكرة التفجيرات. كانت المناوشات بالنسبة لهم تتوقف على مظاهرة حول مبنى كنيسة لم يكتمل أو معتوه اعتدى على قبطي عجوز بسكين. أما مناظر الأشلاء والدم الذي يتناثر على الجدران، فهذه مشاهد قرأوا عنها فقط في كتب تاريخ كنيستهم.
اتخذ النظام وقتها إجراءاته التعسفية المعتادة: كرعاية للمصابين وهدهدة للقادة الكنسيين، والرئيس بنفسه خرج ببيان ينعي فيه ضحايا الشعب المصري. لكن الوقت كان قد تأخر، لأنه حسب رأي بعض التيارات السياسية المعارضة، كان حادث القديسين ومعه حادث خالد سعيد، هما الفتيل الأخير لثورة الخامس والعشرين من يناير 2011.
وإحقاقا للحق، كان الأقباط هم أول من قالوا: "لا" في صلاة جنازة شهداء القديسين، وإن نقصتهم الثورة نفسها.
مفترق الطرق بين الكنيسة وميدان التحرير
اهتز الأقباط أمام ثورة يناير، أو قُلْ الأهالي منهم، لعدة أسباب أولها أن قطاع الإكليروس: (شريحة القساوسة الآباء) شجب فكرة الثورة نفسها واستدل على ذلك بآيات من الكتاب المقدس تأمر بالانصياع للحكّام والسلاطين.
وهناك واقعة يعاير بها أبناء الطوائف الأخرى إخوتهم الأرثوذكس، حيث يعيبون على البابا شنودة أنه قال قبل الثورة، وكنوع من مؤازرة حكم مبارك: "نعم تكثر النِعم". وإن كانت الجُملة خرجت من شاعر رصين، إلا أنها حُسبت بالسلب على كامل أبناءه البسطاء.
ثانيها، لم يكن من السهل على الأجيال العجوزة من الأقباط بعد عقود قضوها خاملين في وظائفهم وداخل كنائسهم، أن يخرجوا بهذه المرونة للشوارع والميادين ويهتفون: "عيش... حرية... عدالة إجتماعية" فاكتفوا بالمكوث في بيوتهم واعتبروا مينا دانيال نموذج الابن الضال، ومنعوا أبنائهم من المشاركة في الثورة على اعتبار أنها زوبعة وسوف تمر، وحتى الكنائس أُغلقت أبوابها ولم يذهبوا إليها، وبدلًا من هتافات الثورة، ارتفعت تضرعاتهم من بيوتهم الدافئة في شتاء فبراير من عام 2011 مُصلين: "كرياليسون... كرياليسون".
لكن للمفارقة، انحصر ذلك الكسوف الثوري على شريحة الأقباط الأرثوذكس، في حين أن البروتستانت فتحوا أبواب كنيستهم قصر الدوبارة لجرحى ميدان التحرير، ورفعوا علم مصر تحت صليب المسيح.
وللأسف لما استفاق الأقباط من غفلتهم وأدركوا ما معنى أن يمر بلد ما بثورة تطيح برئيسه، كانت الاستعدادات لعرس انتخابي يأتي برئيس جديد قد بدأت.
ولاية مُرسي وعودة الخلافة
قرأ الأقباط في كُتب تاريخهم عن اﻷزمنة التي لاقى فيها أجدادهم تعنتا من بعض الحكام المسلمين، من أيام ثورة البشموريين في عهد الخليفة المأمون، في القرن التاسع ميلاديًا، مرورًا بالإتاوات المالية وتحديد زيّ عنصري يميزهم، والركوب على الحمار بالمقلوب، وإلزام الكهنة باللباس الأسود، انتهاءً بتعريب ألسنتهم وانتزاع لغتهم منهم. وبالتالي كان من البديهي أن يشعروا بالذعر حينما اكتشفوا أن الثورة لم تأت عليهم سوى بحكم الإخوان.
من ناحية قيادات حزب الحرية والعدالة اتخذ الأمر مسارًا مغايرا. لم يتكاسلوا عن إرسال وفود من عندهم في فترة "ما قبل الاستقرار الثوري" لمقرات الكنائس الكبرى لبناء الجسور وتعزيز الحوار، وكان موقف الكنيسة في غاية الحياد تجاه مثل هذه المقابلات.
فاز مرسي بالرئاسة، فحبس الأقباط أنفاسهم، وتهيأوا لعهد جديد من عصور الاستشهاد. وبعد أن عاشوا سنينًا لا يشاهدون على التليفزيون سوى عظة يوم الأحد للبابا شنودة الثالث، صارت لديهم عادة جديدة هي الجلوس يوم الجمعة بعد رجوعهم من القداس، أمام التليفزيون، منتظرين برنامج "البرنامج" لباسم يوسف مثلهم مثل باقي الشعب وقتها.
ظل خوفهم مجرد هاجس حتى تحول لحقيقة مرعبة، يوم الأحد، الموافق 7 أبريل عام 2013، حينما تعرضت الكاتدرائية بالعباسية لهجوم من بلطجية بالطوب والمولوتوف والرصاص الحي. جسّد الهجوم عليها فكرة "الأبوكاليبس" التي لطالما تخيلها الأقباط. الكاتدرائية التي تبرع عبد الناصر وأبناؤه ببناءها، أحرقها غلمان مرسي المهتاجون.
وسط هذا الأبوكاليبس كان لا بد من مجيء مُخلّص. وهذا المخلص لم يظهر فجأة، لأنه بحسب جريدة الشرق الأوسط في عددها الإلكتروني يوم الإثنين 8 أبريل 2013، قرر مئات من الأقباط المحتشدين تنظيم مسيرة إلى مقر وزارة الدفاع، لتقديم مذكرة إلى الفريق أول عبد الفتاح السيسي.
طفولة سياسية
المتعارف عليه أن الإخوان لم يخلوا مكانهم في السلطة دون مقابل، حتى لو كان هذا المقابل دمويًا، كانوا يعرفون أن الأقباط هُم أول من يرغب في رحيلهم ولغبائهم اعتبروهم، كنوع من الطفولة السياسية، خصمهم الأوحد على الساحة.
أكد الأمر وجود البابا تواضروس ضمن اللجنة التي ائتلفت خلف السيسي في بيانه المشهور الذي أطاح بهم، ولم يلاحظوا وجود شيخ الأزهر وحزب النور ممثل التيار السلفي.
صحيح أن الأقباط تخبطوا أمام الخامس والعشرين من يناير، ولم تسعفهم ذاكرتهم ومخيلتهم لتوصيفها كثورة أم مجرد هوجة شبابية، لكن الثلاثين من يونيو كانت في عُرفهم ثورة بمعنى الكلمة، ولأول مرة منذ 1919 تلامس الأقباط مع الأسفلت والأعلام والهتافات، ككتلة ثورية هذه المرة وليست طائفية.
صليب الأقباط يتمدد باتساع الزمن
لم ينتهي أبوكاليبس الأقباط بعد فض رابعة واعتقال أعداد مهولة من ميليشيات الإخوان. ورغم استقرار البلاد واتباع سياسة أمنية مشددة تجاه أي تحرك غير مألوف على أراضيها، إلا أن سيناريو الاعتداءات يتمدد ويتخذ أشكالا مغايرة. فالتفجيرات تتوالى من البطرسية للمرقسية لمارجرجس بمحافظة الغربية. والمدق المفضي لدير الأنبا صموئيل، على حد تعبير الأقباط، استحال لون رملته للأحمر من فرط ما شرب من دماء زوار عُزّل لقوا حتفهم على أيدي متطرفين هاجموا حافلاتهم بالبنادق الآلية.
ولا زال حتى يومنا هذا المختلون عقليًا لا يفرقون بين مستشفى المجاذيب ومواقع الكنائس، ولديهم قدرة رغم خبلهم، على تمييز المسيحيين من وسط بقية الشعب المصري.
رغم تواتر العنف ضد الأقباط في مصر، إلا أنهم يدركون في دواخلهم، أن زوال النظام الحالي يعني فنائهم عن بكرة أبيهم، ومع كل ضربة تُوجه لحصونهم، يزداد بالنظام تشبثهم.
الرئيس كأب تقلده الجموع
البابا تواضروس الثاني مؤمن جدا بالسيسي كقائد لا بديل له، هو المنوط بأن يعبر بالأقباط هذه المرحلة بسلام، وهو يعتز جدًا بصداقة رئيس الجمهورية على المستوى الشخصي. والرئيس يبادله نفس الشعور، وأبرز دليل على ذلك استقباله للبابا في أغسطس الماضي ومعه وفد من ملتقى الشباب العالمي الأول للكنيسة الأرثوذكسية.
السيسي هنا يشارك في فعالية خاصة دينية من الطراز الأول، سياحية من الطراز الثاني، ربما لا تهم الوعي القومي للمصريين كالمشاركة في قداس عيد الميلاد مثلا. كان بمقدوره تسخير أجهزة الدولة المعنية وكفى للنهوض بذلك الملتقى، لكنه أصر على الظهور في تلك اللقطات الخاصة جدًا، مثلما لم يفعل أي رئيس قبله.
أقباط المهجر رغم فراقهم للديار ونأيهم عما تنوء به البلاد، إلا أن رؤيتهم للأوضاع لا تختلف مطلقًا عن رأي البابا تواضروس. وفي حوار دار بيني وبين طبيب مصري مسيحي يعيش في الولايات المتحدة من قبل ثورة يناير، وهو ضلع مؤثر في الحركة الثورية ضد الأفكار المغلوطة داخل الكنيسة نفسها، أخبرني أنه كمواطن قبطي سابق ومسيحي مهاجر يعيش في أمريكا حاليًا، ليس لديه مشاكل كبرى مع النظام الحالي، وهو مدرك تمام الإدراك أن كل الوقائع الإرهابية التي تصيب أقباط مصر بين الحين والآخر، ليست كما تظن الأغلبية حوادث قتل على الهوية، فالإسلاميون أذكى من أن يعتقدوا أن اعتدائتهم المتكررة هذه مهما بلغت من عنفوانها، ستحدث فارقا أو تزج بمسيحيي مصر دفعة واحدة للإسلام، وإنما هي ضربات موجهة في المقام الأول للنظام.
وعلى عكس الشائع نفى الطبيب القبطي المهاجر فكرة أن النظام يحتضن الأقباط كي يكونوا بمثابة قوة مساندة لاستقراره، مؤكدا أنه ليس هناك نظام في الدنيا يرتكز على تيار فئوي بعينه. كل المسألة أن الأقباط قطاع شعبي لا يسبب أي مشاكل، وطلباته ليس مبالغ فيها، ورغم كمونه فهو متحرك، وهذا وحده كفيل بأن تحتضنه الدولة وتكفل له حق عبادته.
الحلم الناصري وسيكولوجية الجماهير
لم يدخر السيسي جهدًا لتأكيد الحلم الناصري لدى الأقباط فتفاجئوا به ليلة عيد الميلاد من عام 2015 وهو يدلف إلى كنيستهم ويمشي بين جموع المصلين، حتى يرتقي درجات السلم الذي يفضي لقدس أقداسهم، ويعيّد عليهم بنفسه. ليصير بهذه الحركة أول رئيس مصري يشارك الأقباط احتفلات أعيادهم. وإن كان عبد الناصر تبرع من أجل بناء الكاتدرائية، فالسيسي تحدث من منبرها، ماحيا في غمضة عين حواجز بُنيت طوال عقود بينهم وبين بقية الشعب في الشارع.
تكتيك آخر استحدثه السيسي في مسألة مواطنة الأقباط، ففي العهود السابقة كانت الأنظمة تتعامل مع الحوادث الإرهابية ببروتوكول معين يتلخص في بيان رئاسي يشجب الحادث ويعزّي المصريين فيما أصابهم، مع تعزيز لأفراد الحراسة حول الكنائس. ومهما تنوعت ردود فعل الدولة بمؤسساتها، ظل الأقباط في نظر بقية الشعب مجرد طائفة تعرضت لحادث أليم، ينبغي أن نقف بجانبها كبرلمانيين وأزهريين وكتّاب وسياسيين حتى تجتازها. لكن في فبراير من عام 2015 حينما نشر تنظيم داعش فيديو سينمائي مرعب لعملية تصفية 21 مسيحيا مصريا على شاطئ مدينة "سرت" الليبية، فاجأتنا القوات المسلحة المصرية بضربة وجّهها سلاح الطيران لبعض بؤر تمركز داعش على الأراضي الليبية، ولم تكن تلك الطلعة الجوية مجرد إعلان صريح عن انخراط مصر في الحرب العالمية ضد داعش، وإنما اعتراف أيضًا بأن الأقباط مواطنون مصريون من الدرجة الأولى، ستتحرك من أجلهم أعلى الأجهزة السيادية إذا تطلب الأمر.
في علم سيكولوجية الجماهير، يرى المنظّرون أن الشعوب أيا كانت علاقتها برئيسها، تنظر له دوما على أنه الأب، وبشكل لا إرادي تقلده، وإن لم تقلده فهي تنصاع بشكل خفي لإيماءاته وتحركاته.
ما صنعه السيسي لم يكن مجرد إنصاف منه لحق شريحة وطنية معينة، بقدر ما غرز في وعي الشعب، بذهابه للكنيسة أكثر من مرة ليالي الأعياد، أن هؤلاء القوم ليسوا كما ظننا لفترات طويلة: مجموعة من الكفرة الذين لا يستحمون، يعبدون ثلاثة آلهة.
وفي مواجهة التعاليم المتطرفة التي يتم حقنها لكل مواطن مصري مسلم منذ طفولته عن المسيحيين، أتت تصرفات الرئيس السيسي كخبطات متكررة على الدماغ. ومن الناحية الاستراتيجية، فأمام هذا البذخ من الأفكار الأصولية المتطرفة، لم يكن هناك بديل عن تلك الصواعق التي تأتي من أعلى رتبة لتربك الشعوب وتجبرها على إهمال أفكار الماضي الزنخة.
ويمكننا تلمس آثار هذا التحول اليوم في أكثر من مؤسسة حكومية، فبمجرد أن يعرف الموظف أنك قبطي، يتعامل معك بالقفازات، حريصا ألا تبدر منه أي تفصيلة تثير ريبتك تجاهه، وهذا لا يُفسر بتغير جذري سماوي أصاب العقول والنفوس فجأة، بقدر ما يرجع إلى أب الدولة نفسه الذي تبنى منهجية مختلفة تجاه تلك الطائفة.
الفحم والبارود
ما يمكن أن نخلُص إليه بعد تأملنا للملف القبطي، بعد كل هذه العقود من الارتطامات والالتباسات: أن الأقباط مثلما كانوا مجرد فحم استُخدم لإدارة محركات الثورة، فهُم بدورهم تحولوا لبارود متأجج.
ومثلما خلخلت الثورة المجتمع المصري، فهي هدمت على الأقباط أسوار كنائسهم وأخرجتهم من رهبانيتهم المجتمعية، والآن وقد صاروا في العراء مع رفقائهم من هذا الشعب، لم يعد أمامهم سوى الالتحام مع مجريات الأمور.