تعدُّ محافظة المنيا أكثر مناطق الجمهورية احتقانًا فيما يتعلق بالملف الطائفي، بالإضافة إلى أنها شهدت خلال فترة الأعياد الأخيرة حادثين طائفيين في قريتي الفواخر والكوم الأحمر، بسبب ممارسة المسيحيين شعائر دينية، ما أدى لحرق عدد من منازلهم، وتعطيل بناء كنيسة إنجيلية حاصلة على ترخيص رسمي.
وبذلك، يصل إجمالي حوادث العنف الطائفي في المحافظة إلى خمسة منذ سبتمبر/أيلول الماضي فقط، وجميعها بسبب بناء الكنائس، وهو ما يثير سؤالًا عن السياقات التي تجعل من المنيا بؤرةً مشتعلةً قابلةً للانفجار في أي وقت، وأيضًا عن أسباب عدم تعامل مؤسسات الدولة معها بشكل جدي لمنع تكرار هذه الاعتداءات، رغم إدراكها واعترافها بوجود أزمة في علاقة المواطنين ورؤيتهم لحقوق بعضهم البعض.
قبل الحديث تفصيلًا عن المنيا وخصوصيتها، تجدر الإشارة إلى أنَّ معظم محافظات الجمهورية تشهد بدرجات متفاوتة توترات طائفية، تزداد حدتها أو تقل حسب درجة احتقان المجتمع، والتدخلات الأمنية، وسبل حشد المواطنين من حيث الإتاحة. حدث في الأقصر والإسكندرية والجيزة وغيرها، لكن تظل المنيا حالة خاصة في ظل ارتفاع وتيرة الاعتداءات، وتكرارها بنسخٍ تكاد تتطابق.
تُظهِر خريطة الحريات الدينية الصادرة عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية وقوع 53 حالة اعتداء طائفي في مراكز المحافظة التسعة منذ 2016 حتى 2022، 24 منها كانت لمنع المسيحيين من ممارسة شعائرهم الدينية، سواء في كنائس قائمة أو في كنائس جديدة يجري بناؤها. ثم تأتي الأسباب الأخرى مثل العلاقات العاطفية بين مختلفي الديانة، أو التعبير عن آراء تتعلق بالشأن الديني، أو الخلافات المدنية التي تأخذ بُعدًا طائفيًا بعد التحريض والحشد الديني والعقاب الجماعي.
الجذور الاجتماعية للطائفية
يتداخل طيف واسع من العوامل والمسببات في تغذية المناخ المحتقن والمتوتر داخل المحافظة، بداية من التركيبة السكانية، مرورًا بغياب التنمية وموقع المحافظة على خريطة الفقر، وانتهاءً بنشاط تيارات الإسلام السياسي وانتشارها وتأثيرها على سكان المحافظة، من بينهم موظفو الإدارة المحلية والقيادات الشعبية.
تتنوع التركيبة والخصائص الديموغرافية لأبناء المحافظة، حيث يمثل المسيحيون نسبة معتبرة من عدد السكان، وإن غاب الإحصاء الرسمي الدقيق لأعدادهم، لكنَّ مؤشرات محلية تقدر نسبتهم بنحو 25% من سكان المحافظة، لا سيما في ظل وجود قرى وعزبٍ جميع أو أغلب سكانها من المسيحيين. تضم المحافظة أيضًا عددًا من أبناء القبائل العربية، وبعضهم يحمل الجنسية الليبية إلى جانب جنسيتهم المصرية، ويعيشون في قرى بالقرب من الظهير الصحراوي الغربي للمحافظة.
بلغ عدد سكان المنيا عام 2022 ستة ملايين و223 ألف نسمة، أي أن عدد مسيحييها يُقدر بمليون ونصف المليون، وهي أكبر محافظات الوجه القبلي بعد الجيزة، ويغلب عليها الطابع الريفي، حيث يعيش نحو 82% في القرى والنجوع، والباقي في عواصم المراكز الإدارية التسع للمحافظة.
لا تزال مؤسسات الدولة تتعامل مع الأزمات الطائفية باعتبارها ملفًا أمنيًا فقط وغالبًا ما تتدخل مع اندلاع الأزمات
هذه الكثافة السكانية تتطلب خدمات دينية تلبي احتياجات السكان، خصوصًا مع تعدد الطوائف التي ينتمي إليها المسيحيون هناك، وطبيعة التقسيم الإداري للمحافظة، الذي يتميز بوجود القرى المتوسطة والصغيرة، حيث تتطلب كثرة التجمعات السكانية وجود أماكن لممارسة الشعائر الدينية في ظل بُعد المسافات بين القرى، وحساسية دخول "الغرباء" للقرى، حتى لو للصلاة.
تغذي هذه الكثافة أيضًا الحضور الاجتماعي للأفراد، وإحساسهم بالعزوة، ومن ثَمَّ طرق تعبيرهم عن هوياتهم وذواتهم دون حساسية، مستندًا إلى من معه من الأغلبية العددية، فتجده متحفزًا وهو يحاول إظهار قوته وقدرته على التعبير عن السطوة والنفوذ الاجتماعي. كما أنَّ التعاملات اليومية بطبيعتها تخلق مساحة للاشتباك والخلاف، وهذا أمر طبيعي.
رغم تنوع الثروات الطبيعية والجغرافية والتاريخية، تحتل المنيا ذيل قائمة محافظات الجمهورية من حيث نسب التنمية البشرية، فمؤشرات التعليم والصحة والدخل تقع ضمن أدنى خمس محافظات في الجمهورية، وتغيب عن المحافظة العدالة بوجوهها المختلفة؛ سواء كانت اقتصادية أو ثقافية.
فعلى المستوى الاقتصادي، يتمثل غياب العدالة في ضعف مخصصات التنمية وعدم فاعليتها، وعدم العدالة الاجتماعية ممثلة في تزايد نسب السكان تحت خط الفقر، التي وصلت إلى 54.7% خلال عام 2018، وفقًا لبيانات وزارة التخطيط. بالمثل، نشهد غياب العدالة الثقافية الناتجة في ضعف المراكز الثقافية وبيوت الشباب.
في ظل الفقر، تكون خيارات التغلب على مصاعب الحياة محدودة. يتحول البعض إلى محافظين دينيًا في محاولة لعبور بوابة الأمل نحو الجنة الموعودة، للتمتع بما عجزوا أن يعيشوه الآن. ولدى قطاع آخر، فالهجرة هى الحل. لم تنقطع موجات السفر إلى دول الخليج وليبيا، وأغلبها عمالة حرفية، تسافر إلى دول محافظة لديها طبيعة خاصة، وفي الغالب لا يوجد بها هذا التنوع الديني، وتعود بنمط حياة مختلف.
ضعف الخدمات الأساسية وتراجع مؤسسات الدولة عن القيام بها، استدعيا وجود من يملأ الفراغ، ومن هنا تنامى دور الجمعيات الخيرية الدينية الإسلامية، وبدرجة أقل المؤسسات المسيحية، بما تشترطه سواء بشكل مباشر أو من خلال التلميح، من واجبات وسلوكيات على المستفيدين من خدماتها. هذه الجمعيات تقدم الخدمات الأساسية عن طريق المستوصفات الصحية والحضانات والمدارس والمساعدات الاجتماعية، لكنها على جانب آخر تُغذّي رؤية محافظة ومنغلقة للدين، ترى الآخر غير مساوٍ، فهو يعيش داخل دولة مسلمة وفي ظل مجتمع مسلم، وعليه أن يكون ممتنًا لما تمنحه الأغلبية الدينية.
خطان متوازيان
كانت محافظة المنيا تربة خصبة للتطرف منذ نهاية السبعينيات، وخرج منها قادةٌ كثرٌ للجماعة الإسلامية والإخوان المسلمين والتيارات السلفية. ومن تداعيات ذلك، هذا التاريخ الطويل من العمليات الإرهابية والاستهداف على الهوية الدينية منذ بداية التسعينيات، وعقب فض اعتصامي رابعة والنهضة واستهداف زوار دير الأنبا صموئيل مرتين خلال عامي 2017 و2018.
ورغم حديث المسؤولين عن أن معالجة أسباب التوترات الطائفية تحتاج إلى تدخل أمني وتعامل مجتمعي، فلا تزال مؤسسات الدولة تتعامل مع الأزمات الطائفية باعتبارها ملفًا أمنيًا فقط، وغالبًا ما تتدخل مع اندلاع الأزمات، بحلول سطحية وقصيرة الأجل تفرض تهدئة سريعة بدون إزالة أسباب الاحتقان.
أما مؤسسات الدولة الثقافية والتعليمية فغائبة، وإن بدا من تصريحات المسؤولين غير ذلك. توجد مثلًا في المنيا جامعة منذ 1966، فهل وضعت على أجندتها البحثية والمجتمعية هذا الموضوع، أو أنتجت معرفة تحلل أسباب الظاهرة وطرق التدخل الناجعة؟
عقب حادثة تعرية سعاد ثابت المعروفة إعلاميا بـ سيدة الكرم وحرق منازل أقباط والاعتداء عليهم في القرية، أعلنت وزارتا التضامن الاجتماعي والثقافة تنظيم بعض الدورات عن المواطنة وقبول الآخر. للوهلة الأولى، يبدو أن الحكومة وضعت القضية على أجندتها، ولكن عند النظر للبرنامج نجده إعادة إنتاج للخطاب المنمق عن الوحدة الوطنية وحب الآخر وتاريخنا المشترك. ولذلك لم أفاجأ بأنَّ قرية منشاة زعفرانة التي نُظمت بها إحدى هذه الدورات أصبحت هي نفسها بعد أربع سنوات مسرحًا لاعتداءات طائفية حُرقت خلالها خيمة يصلى المسيحيون فيها انتظارًا لانتهاء إجراءات ترخيص بناء كنيسة.
قائمة التدخلات اللازمة لمعالجة هذه الظاهرة معروفة؛ في مقدمتها أن تؤدي مؤسسات الدولة أدوارها الدستورية والقانونية في حماية وتعزيز حقوق مواطنيها، وعدم محاباة طرف على حساب الآخر. بالإضافة إلى ذلك، من الضروري العمل بالتوازي على تهدئة كل أزمة على حدة بما تتطلبه من جبر للضرر بمعاقبة المعتدين وتعويض المتضررين، مع علاج الأسباب الهيكلية للتوتر الطائفي.
نحن بحاجة إلى اعتراف حقيقي بحجم التوتر الطائفي وبأهمية التدخل لحله على أرضية المواطنة، بإلغاء كل أشكال التمييز في القوانين والسياسات العامة، ووضع برامج تعزز مفاهيم حقوق الإنسان والتنوع وقبول الآخر. كما أنَّ مشاركة مؤسسات المجتمع المدني تساعد في خلق آليات الإنذار المبكر أو قرون الاستشعار، إن جاز التعبير، للتوقع وإتاحة التدخلات المحلية والشعبية لمعالجة الأزمات قبل وقوعها.