أخمد البابا تواضروس الثاني بطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، بطريقةٍ توافقيةٍ، موجة التمرد الأخيرة ضد توجهاته، بعدما احتجَّ عدد من المطارنة والأساقفة على مشاركة متحدثين اثنين في سمينار المجمع المقدس، الذي كان مقررًا عقده في وقت لاحق من هذا الشهر قبل إلغائه. ولكن في ظل استمرار مراكز القوى المحافظة، فإن هذا التوافق يبدو مؤقتًا، ينتظر اشتعال فتيل جديد باللهب.
يعكس هذا الوضع وجود تيارين داخل المجمع، الذي يُعدُّ أعلى سلطة كنسية، تتسع الفجوة بينهما بمرور الوقت، أحدهما مؤيد للبابا أو محايد إزاء تعاطيه مع عدد من الملفات، أبرزها التعليم الديني والعلاقة مع الكنائس العالمية وإدارة شؤون الكنيسة داخليًا، أما الآخر فمناوئ للبابا، ولا يفوِّت فرصة الاشتباك مع قراراته، ويسعى جاهدًا لتقييد حركته وإظهاره متهاونًا مع الأفكار والتعاليم غير الأرثوذكسية، وصولًا إلى اتهامه بتدمير هوية الكنيسة.
من أروقة الكنيسة إلى متاهات الإعلام
بدأت القصة الأخيرة ببيان انتشر في مجموعات متشددة على السوشيال ميديا، منسوب لسبعة عشر مطرانًا وأسقفًا كبيرًا، يعلنون فيه رفض مشاركة الدكتور جوزيف موريس العالم في الدراسات الآبائية، والدكتور سينوت دلوار الباحث في التاريخ الكنسي، في سمينار المجمع المقدس، والمطالبة بتغييرهما، بحجة أنهما "لا طائفيان" ويتبنيان "تعاليم خاطئة".
وفي خطوة لا سوابق كنسيَّة لها، ظهر الأنبا موسى أسقف عام الشباب والأنبا أبانوب أسقف عام كنائس المقطم في فيديوهات قصيرة وهما يؤيدان البيان، في حين أعلن الأنبا بنيامين مطران المنوفية أن عدد الموقعين على البيان وصل إلى 80 مطرانًا وأسقفًا وهذا العدد يعني أغلبية أعضاء المجمع. ونشرت هذه الصفحات تعليقات تشكك في إيمان البابا تواضروس وسكرتير المجمع المقدس الأنبا دانيال.
نجحت الحلول الوسط في تهدئة المشاعر الملتهبة بعدما اعتبر كل طرف أنه انتصر
يمكن القول بأن العنوان الرئيسي للأزمة الأخيرة هو نقل خلافات الأساقفة من أروقة الكنيسة إلى متاهات الإعلام، عن طريق ما يمكن تسميته بـ"ألتراس الأساقفة"، الذين يمارسون الضغط والترهيب ويحاولون كسب المؤيدين عن طريق استفزاز النزعات المحافظة في مجتمعات الكنيسة.
أعقبت هذا البيان موجة من الجدل، تنصل في سياقها بعض من وردت أسماؤهم في البيان من التوقيع عليه، ثم أوضح أحدهم، وهو الأنبا سيرابيون مطران لوس أنجلوس، أن الأنبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة أنشأ جروب واتساب للنقاش حول أزمة المتحدثين في السمينار، ضم إليه 17 أسقفًا تباينت آراؤهم، سرَّب أحدهم الحديث باعتباره بيانًا ضد البابا، للإيحاء بوجود انقسام متزايد داخل الكنيسة، مشيرًا إلى أن بعض الأساقفة يخاطبون جمهورهم عبر السوشيال ميديا.
تبع ذلك إعلان البابا دراسة استقالة الأنبا أبانوب ورجوعه للدير بسبب مخالفات في الخدمة، وهو ما قوبل برفض من التيار المتشدد وقطاع من الأهالي ممن يعتبرونه البطل الذي أنهى الفكر البروتستانتي في دير سمعان الخراز الشهير. احتجَّ هؤلاء بأن إبعاد الأسقف "قرار انتقامي" بسبب موقفه. لاحقًا، أعلن البابا تأجيل السمينار إلى أجل غير مسمى، كما تراجع عن إرجاع الأنبا أبانوب إلى الدير بعد أن اعتذر له الأخير عما بدر منه.
أصدرت اللجنة الدائمة للمجمع المقدس، التي يترأسها البابا لكنها تضم مناوئين له، بيانًا تستنكر فيه تسريب ونشر أسماء الأساقفة والادعاء بأنهم يصنعون تكتلًا معارضًا داخل الكنيسة، وتعلن تشكيل لجنة لمناقشة ودراسة أي تعاليم غريبة عن الإيمان الأرثوذكسي تصدر عن أي شخص يُعلِّم داخل الكنيسة ولجنة مَجْمَعية للتحقيق مع أصحاب صفحات السوشيال ميديا التي دأبت على الهجوم على الكنيسة وآبائها.
نجحت الحلول الوسط في تهدئة المشاعر الملتهبة، بعدما اعتبر كل طرف أنه انتصر؛ فالمتشددون نجحوا في منع المتحدثَيْن وفي إلغاء قرار البابا بقبول استقالة الأنبا أبانوب، ومؤيدو البابا ركَّزوا أنظارهم على الاعتذار الذي قدمه الأنبا أبانوب، وعلى "حكمة" البابا التي تجلت في إلغاء السمينار. أما حقوق المتحدثين اللذين تعرضا للإهانة والتحقير والتشكيك في إيمانهما، ومعها حقوق من تأثروا بأخطاء الأنبا أبانوب في الخدمة التي أشار لها البابا، فلم تلتفت لها هذه التسوية التوافقية.
في تقديري، لن تنهي هذه المعالجة صور التمرد التي تتكرر ضد البابا تواضروس من وقت لآخر، ولا أزمات الكنيسة، خصوًصا في ظل عدم التعاطي مع أسبابها الحقيقة.
عن دوافع ما حدث
في معناه البسيط، التمرد هو أحد صور العصيان والخروج على السلطة ورفض تنفيذ قراراتها. ومن ثم فإن غل يد البابا عن إدارة الكنيسة نوع من التمرد، يحدث عن طريق تجميد قراراته المهمة واحدًا تلو الآخر، حيث تنشط حركات مقاومته ونقده واتهامه بالبعد عن تعاليم الكنيسة مع كل قرار مهم.
حدث ذلك من قبل عند الإعلان عن توقيع البابا اتفاقية دينية حول الاعتراف المتبادل بالمعمودية مع الكنيسة الكاثوليكية، وعند موقفه من طريقة التناول باستخدام الماستير (معلقة التناول) أثناء جائحة كوفيد. تكتيك الغرض منه استمرار نهج البابا الراحل شنودة الثالث المتشدد من ناحية، وإظهار ضعف وعجز البابا تواضروس من ناحية ثانية.
يتحمل البابا جزءًا غير هيِّنٍ من مسؤولية ما يحدث لأسباب على رأسها إضعافه دور العلمانيين
تنذر الأزمة الأخيرة بخطورة تدهور التعليم الكنسي، وخلط دور رجل الدين في الوعظ، بدور عالم اللاهوت المعلم والمفسر للكتاب المقدس وربط نصوصه بالعلوم الأخرى وبالقضايا المجتمعية، وانعكاس ذلك على أدوار الكنيسة.
يعتقد كثير من رجال الدين أنه بمجرد رسامة الراهب أسقفًا يصبح تلقائيًا عالمًا لاهوتيًا، وكأن وحيًا يهبط عليه بلا دراسة أو معرفة. ومن ثم يعتقد هؤلاء أنهم أكثر علمًا وفهمًا للعقيدة وتعاليم الدين ممن يملكون درجات علمية رفيعة ويحاضرون في الجامعات العالمية المعترف بها. فلا معلمين في الكنيسة إلا الأساقفة ومَن علاهم مِن مطارنة، أما العلمانيون فعليهم الدوران في فلك ما يقرره الكهنة. ومثلما رُفضت من قبل تعاليم جورج حبيب بيباوي، تُرفض اليوم تعاليم جوزيف موريس وغيره.
مسؤولية البابا تواضروس
يتحمل البابا تواضروس جزءًا غير هيِّنٍ من مسؤولية ما يحدث، لأسباب على رأسها إضعافه دور العلمانيين في الكنيسة، بتجميد المجلس الملي العام منذ توليه منصبه في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، إذ لم تجر طوال هذه المدة أي انتخابات لاختيار أعضائه الذين يقومون بأدوار في معاونة الكنيسة والمساهمة في إدارة أنشطتها الخدمية والتعليمية والمالية.
قد يختلف البعض حول دور المجلس، وهل هو مناسب للوقت الحالي أم لا، وحول مدى تأثير قيادات الكنائس على اختيارات الأعضاء وقرارات المجلس، لكن هذا لا يبرر تجميد عمله كل هذه المدة، وعدم تقديم أي مقترحات بديلة لكيفية إسهام العلمانيين من غير رجال الدين في أدوار المؤسسة الدينية المتعددة، لا سيما وأن الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية لديها مجالس منتخبة من أعضائها، حيث تعقد انتخاباتها بانتظام.
ليس مطلوبًا من البابا أن يكون زعيمًا سياسيًا فقط أن يقتدي بشيخ الأزهر في قلة الكلام
يترتب على غياب المجلس الانفراد بالإدارة وسلطة القرار. لا أتحدث هنا عن الجوانب اللاهوتية والعقائدية فهي من اختصاص البابا والمجمع المقدس، لكن عن الأدوار الاجتماعية والثقافية والخدمية والاقتصادية للمؤسسة الدينية، وإدارة ما تملكه من موارد كالمستشفيات والمدارس والمؤسسات والمشروعات التنموية والاقتصادية.
كما أن البابا تواضروس لم يوفَّق في الصورة التي رسمها لنفسه بسيل التصريحات التي يتورط فيها خلال المناسبات السياسية والعامة، فلا ينفع الحديث عن إنجازات اقتصادية في ظل معاناة الناس بسبب سياسات الإفقار والإقراض، ولا الحشد والتوجيه في الاستحقاقات الانتخابية. هذا النوع من التصريحات يفقد البابا شعبيته وسط المجتمع المسيحي، وأغلبه من الفقراء، خصوصًا أنه عادة لا يشتبك مع التوترات وحالات العنف الطائفي أو وقائع التمييز.
ليس مطلوبًا أن يكون البابا كأساقفة لاهوت التحرير، ولا مطلوبًا منه أن يكون زعيمًا سياسيًا أو حزبيًا. فقط أن يقتدي بشيخ الأزهر في قلة الكلام والتعاطي مع مشكلات المجتمع.
جزء آخر من المسؤولية يتحمله البابا، في أنه من قام برسامة بعض هؤلاء الأساقفة الذين ينتقدونه علانية، ويحرضون آخرين ضده، مثل الأنبا أبانوب والأنبا زوسيما أسقف أطفيح، وهو ما يطرح تساؤلات عن معايير وكيفية الاختيار، ومتى يتم مراجعة الأسقف والتحقيق معه إذا أخطأ. على سبيل المثال، الأنبا أبانوب الذي قُبلت استقالته واعتذر فعاد، لديه مشاكل مع كهنة وشعب المقطم منذ سنوات، ولم يتحرك أحد للتعامل معه، لدرجة صفعه أحد الشباب على وجهه عدة مرات داخل الكنيسة!
لكن إذا كان إخماد هذا التمرد لا يعني توقف موجاته اللاحقة، فهل يمكن أن تسفر إحداها عن شل يد البابا فعليًا في إدارة شؤون الكنيسة؟
في تقديري، هناك عوامل عدة تتضافر معًا لتقلل فرص نجاح موجات التمرد هذه كليًا، لتقتصر على موجات من النقد الشديد واتهامات التفريط في الهوية القبطية الأرثوذكسية يشنها نفر من الأساقفة وأتباعهم.
على رأس هذه الأسباب، جمهور الكنيسة الواسع الممتد داخل وخارج مصر الذي يؤمن معظمه بأن البابا وفق تعاليم الكنيسة اختيار إلهي يمثل صوت المسيح في الكنيسة، بعد أن أصبحوا جزءًا من الموضوع مع انتقاله إلى خارج الغرف المغلقة، وهم يمتلكون أدوات مشابهة لما يملكه مناوئو البابا من إعلام شعبي ورسمي قادر على حشد الدعم.
كذلك، فإن مواقف البابا في القضايا موضع الخلاف أقرب إلى قطاعات واسعة من الشباب الذين لا ينحازون إلى جمود التعليم الديني، بل إلى تقليل مساحة الخرافة وسيطرة الدين على حياة الإنسان بشكل كامل.
ولكن ضعف فرص نجاح هذا التمرد لا يعني عدم مجابهته باتخاذ خطوات نحو الإصلاح الإداري والكنسي. بات ضروريًا الذهاب نحو حوكمة الإدارة الكنسية ووضع التشريعات الدينية الواضحة التي تنظِّم مسؤوليات كلٍّ من رجال الدين وأعضاء الكنيسة العلمانيين، وتضع آليات المراقبة والمحاسبة داخل المؤسسة، مع مزيد من الشفافية والصراحة في مناقشة الأزمات التي تحدث.