طرح الحقوقي البارز بهي الدين حسن، المقيم في الخارج والمعروف بانتقاداته الحادة للرئيس عبد الفتاح السيسي، سؤالًا عبر تويتة، بمناسبة الذكرى العاشرة للمظاهرات التي أنهت الحكم القصير لجماعة الإخوان، "لو عاد الزمن للوراء لـ30 يونيو 2013، هل يقرر التيار المدني من أبناء انتفاضة 25 يناير التحالف مع الجيش والأجهزة الأمنية للإطاحة بالإخوان المسلمين بانقلاب عسكري، أم يخوضون صراعًا سياسيًا مدنيًا لتحقيق برنامجهم؟".
إجابتي عن هذا السؤال كأحد المشاركين في الأحداث التي انتهت بـ30 يونيو 2013، بصفتي كنت المتحدث باسم جبهة الإنقاذ الوطني في تلك الفترة، هي أن الزمن لا يعود للوراء. وأن طرح مثل هذا التساؤل لا يضع في الاعتبار أن المرء يقوم بحساباته في ضوء الواقع الذي يمر به في ذلك الوقت، مع صعوبة التنبؤ بما سيحدث في المستقبل بشكل دقيق.
الظروف التي مررنا بها منذ تولت جماعة الإخوان الحكم لم تكن تسمح برفاهية التفكير فيما يسمى بـ"صراع سياسي مدني"
وخاصة إذا كان من يصفهم بهي الدين حسن بـ"التيار المدني من أبناء انتفاضة 25 يناير" يعتقدون أن لديهم وعود قاطعة بأن الغرض من مشاركتهم في تلك التظاهرات الشعبية الواسعة هو إقامة الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة التي يدافعون عنها، وليس العودة لنظام 1952، الذي يقوم على مركزية دور الحاكم الفرد الذي تحوله الأجهزة الأمنية مع الوقت إلى شخص لا يمكن الاستغناء عنه، ويرتبط استقرار البلد ببقاءه في منصبه.
كما أن الظروف شديدة الصعوبة والخطورة التي مررنا بها منذ تولت جماعة الإخوان الحكم لم تكن تسمح برفاهية التفكير فيما يصفه حسن بـ"صراع سياسي مدني" لكي يحقق أنصار ثورة يناير، التي يصفها الآن بـ "الانتفاضة"، أهدافهم.
خلقت الشواهد على الأرض آنذاك يقينًا لدى كثيرين أن مصر كانت بالفعل على شفا حرب أهلية سيقتل المصريون فيها بعضهم بعضًا. وأنه ستكون لتلك الحرب أبعاد طائفية ودينية في مواجهة جماعة احتكرت الحديث باسم الإسلام وألصقت لقب "المسلمين" بتنظيمها السياسي، كأنهم وحدهم "المسلمون" وكل من يخالفهم جاهل يجب توعيته ثم زجره، فإن لم يرتدع لا بأس في قتله حماية للأمة والدين.
فلم تكد تمضي شهور على تولي الرئيس الراحل محمد مرسي منصبه حتى أصدر في نوفمبر/تشرين الثاني 2012 ما عرف بـ الإعلان الدستوري، الذي منح نفسه بمقتضاه سلطات لم يكن يتمتع بها الرئيس المخلوع مبارك، رغم قضاءه 30 عامًا في الحكم.
وفي الإعلان الدستوري قرر الإخوان أنهم سيكتبون الدستور بمفردهم، بغض النظر عن محاولات عديدة مضنية وصادقة للاتفاق على دستور يرضي كافة الأطراف، كما هو مفترض في تلك الوثيقة الهامة التي تمثل العقد بين الحاكم والمحكومين.
وكان المنتج النهائي، حتى لا ننسى، مُرضيًا حتى لعتاة السلفيين الذين أشادوا به كما فعل ياسر برهامي، رغم قوله إنه احتوى قيودًا على حرية الرأي والتعبير لم توجد في أي دستور مصري سابق.
ورغم مرور عشر سنوات، فلا يجب نسيان الاشتباكات التي وقعت أمام قصر الاتحادية بعد أيام من صدور الإعلان الدستوري، والتي أكدت أن الإخوان يمتلكون ميليشيات خاصة تدين لهم فقط بالولاء. شخصيًا لم أتمالك دموعي عندما رأيت أنصارهم يشتبكون معنا وهم يهتفون "الله أكبر"، وكأنها حرب بين المسلمين والكفار، وعندما بلغني استشهاد الصحفي الصديق الحسيني أبو ضيف، وعند مشاهدتي للجرحى في المستشفيات الميدانية.
كما منح الإعلان الدستوري للرئيس مرسي حق تعيين النائب العام وسط سعي حثيث للسيطرة على القضاء وإصدار القوانين. واختاروا سياسة "التمكين" في التعيينات في المناصب العامة، بغض النظر عن الكفاءة. وأساءوا إدارة الاقتصاد والخدمات العامة رغم الحجج التي أشاروا لها لاحقًا حول دور "الدولة العميقة" في إفشال جهودهم.
لم تكن هناك حدود للعبث والأكاذيب
وليقينهم أن مؤسسات دولة يوليو الراسخة لن تتعاون معهم بسهولة، خاصة الدفاع والداخلية، سعوا لإنشاء تنظيماتهم شبه العسكرية، كما هو حال "الحرس الثوري" في إيران، مستغلين الفوضى العامة التي كانت تمر بها مصر.
ورغم ما يردده بعض مؤيدي الإخوان الآن من أن حجم الحريات التي تمتعت به المعارضة في السنة اليتيمة التي قضوها في الحكم كانت غير مسبوقة، فالكل يعرف أنه لو كان الأمر بيدهم لقاموا بسجن كل معارضيهم وسحلهم وقتلهم.
مؤشرات وأسباب
وهذا ليس نظريًا، بل شاهدته رأي العين في المظاهرات التي كنا ننظمها في ميدان التحرير. وكان من غرائب الزمن أن أشاهد أنصار الإخوان يتقدمون عربات الأمن المركزي ويصفقون لها، وهي في طريقها لإلقاء قنابل الغاز علينا لفض تجمعاتنا.
واتهمت جريدة الحرية والعدالة، الناطقة باسم حزب الجماعة، كلا من الدكتور محمد البرادعي منسق عام جبهة الإنقاذ الوطني، وكاتب المقال، بأننا تلقينا مبلغ 2 مليار دولار (آه والله دفعة واحدة) من الإمارات للإنفاق على الانتخابات البرلمانية، رغم أن الانتخابات الأمريكية برمتها لا يتم إنفاق كل هذا المبلغ لتمويلها.
كما زعم قيادي في الجماعة، شاركت معه في برنامج حواري، أن جبهة الإنقاذ الوطني، التي كانت تضم الأحزاب المدنية المؤيدة لثورة يناير، كانت تخطط لاختطاف مرسي وإرساله لقطر، ثم الاستيلاء على قصر الاتحادية. لم تكن هناك حدود للعبث والأكاذيب.
وقبل يومين فقط من 30 يونيو كنت في ستوديو قناة النهار أشارك في برنامج حواري، عندما وصل لمقدم البرنامج رسالة رسمية من وزير الاستثمار الإخواني السابق، قرأها على الهواء، يحذر فيها من أن التحريض ضد النظام والدعوة للمشاركة في المظاهرات سيترتب عليه اتخاذ إجراءات بحق الوسائل الإعلامية المختلفة، بما في ذلك إغلاقها.
لتلك المؤشرات، ولأسباب أخرى عديدة، لم ترى القوى المدنية أنها مقبلة على المشاركة في "انقلاب عسكري"، كما ذكر حسن في تغريدته، بل رأت أنها تساهم في إنقاذ الوطن من مستقبل مظلم قد يحوّل مصر متعددة الأديان والتوجهات السياسية إلى دولة دينية، ربما لا تكون في سوء الدولة الطالبانية، ولكنها تتشابه معها في أوجه كثيرة. وهذا رهان لم يكن يصح معه التباطؤ في السعي لإنهاء حكم الإخوان.
ويتناسى أصحاب اتهام القوى المدنية بالمساهمة في "انقلاب عسكري" أن الأمر لا يختلف كثيرًا عما جرى في 25 يناير 2011، مع اختلاف التفاصيل. ولكن في يناير كنا في مواجهة رئيس يرفض التنحي سلميًا والاستجابة للمطلب الشعبي، مما اضطر الجيش للتدخل وإجبار مبارك على الرحيل.
سيقول أنصار الإخوان إن مرسي اُنتخب ديمقراطيًا، بينما مبارك كان يمدد رئاسته عبر التزوير. ولكن في كلتا الحالتين تدّخل الجيش كمؤسسة وطنية لإنهاء حالة الفوضى التي كانت سائدة في الشوارع لكي نبدأ مرحلة جديدة.
تبخر مضمون خطاب المجلس العسكري لجبهة الإنقاذ بعد ثلاثة أسابيع فقط
وليست مصر الدولة الوحيدة التي شهدت فوضى واضطراب وانعدام للاستقرار بعد ثورة شعبية أنهت حكم ديكتاتور. فقد استغرق الأمر سنوات طويلة حتى تمكنت دول أوروبا الشرقية من الوصول لحكومات مستقرة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وكذلك الحال في إندونيسيا التي بدلت رئيسين خلال أعوام قليلة بسبب الغليان في الشارع وتصارع أصحاب المصالح.
ولكن تبقى الدروس المستفادة من 30 يونيو، وعلى رأسها عدم الانسياق وراء خيار مجهول أو وعود في الغرف المغلقة، لا يتم توثيقها في إعلانات رسمية. ففي اليوم التالي لمظاهرات 30 يونيو، عقدنا اجتماعًا لقادة جبهة الإنقاذ في المقر السابق لحزب المصريين الأحرار، وكان أول ما قام به البرادعي هو قراءة رسالة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة تؤكد أن الجيش لا غرض له في تولي الحكم، وأن هدفه إنقاذ الوطن من الإرهاب وإقامة دولة مدنية ديمقراطية حديثة.
تبخر مضمون ذلك الخطاب بعد ثلاثة أسابيع فقط، عندما خرج السيسي بزيه العسكري وطلب التفويض من المصريين لمكافحة الإرهاب، من دون أي تشاور مع قادة جبهة الإنقاذ الذين كانوا شركاء في تشكيل أول حكومة بعد 30 يونيو. وفي يوم 26 يوليو/تموز 2013، عندما مررت بميدان التحرير رأيت آلاف المواطنين يرفعون صور السيسي ويطالبونه بتولي الرئاسة.
ماذا نتعلم؟
انتهى سريعًا جدًا الأمل في بناء الدولة الديمقراطية التي نتمناها، ولم تقم أي جمهورية جديدة، بل عدنا للجمهورية القديمة الراسخة التي لا يتخلى فيها الرئيس عن منصبه عبر انتخابات نزيهة، ولا يُسائل بأي شكل، سواء في القرارات السياسية أو الاقتصادية، ويتم التعامل مع الدستور على أنه مجرد وثيقة يمكن تعديلها في أي وقت، مع قمع أشد قسوة مع المعارضين ووسائل الإعلام المستقلة بطرق لم نشهدها طوال عقود مبارك الثلاث، ومن قبله السادات.
هل هذا يعني الندم على المشاركة في 30 يونيو؟ لا، ولكنه يعني أن النضال من أجل بناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة التي تحترم حقوق المصريين لا يزال متواصلًا، وأن المعارضة المدنية المنتمية لثورة 25 يناير تمثل الخيار الثالث ما بين الدولة القديمة السلطوية، وخيار الدولة الدينية الفاشية المظلم.