هناك فرق بين "العصابة" و"العصبية" و"العُصبة". فحتى لو كان الجذر اللغوي للكلمات الثلاث واحدًا، فإن لكلٍّ منها دلالة مختلفة وفق ما تتداوله الألسن، ويتعارف عليه الناس، فيمنحها ذلك ما يُحدد معناها، بمساعدة التصورات الثقافية، والصور الذهنية، وخلاصة التجارب الذاتية والجماعية، الحالية أو المستقاة من التاريخ.
فالعصابة هي زُمرة من الناس تجمعهم الجريمة، وتنتهك أعمالهم القانون وتضر بالغير. واستعارت الأدبيات السياسية الكلمة لتشير بها إلى مجموعة تتحكم في القرار، ولا يشغلها من اتخاذه سوى ما يُحقق لها مصلحتها، ويهيئ لها الأمر على النحو الذي تستبد فيه بالشعب، فتسرق قوته، ولا يهمها أن تَعدِل بين أفراده، وتكون رافضة لحقوقه وحرياته العامة دائمًا، والخاصة أحيانًا، باطشة بكل من يُنازعها أو يُطالبها بالحق والحرية، وكل من يريد أن يُقيم الأمر على سنن الاستقامة والحداثة السياسية، التي تقتضي إبرام عقد اجتماعي متفق عليه بين الشعب والسلطة، يجعل الأمة مصدر السلطات، ويفصل بينها، ويجعل الناس مواطنين لا رعايا.
والعصبية هي الانتماء لعرق ما، وفق تصور ابن خلدون، يقوم على أساسه الملك، ويورث كأنه تركة في يد قبيلة أو عشيرة أو عائلة أو أسرة. وفي العصور الأخيرة امتدت العصبية لتشمل الانتماء لفكرة جامدة أو عقيدة سياسية "أيديولوجيا"، أو مؤسسة أو هيئة راسخة، ينصر معتنقوها بعضهم بعضًا، ويفعلون كل ما يُبقي القوة في أيديهم، حتى لو خالف هذا الشرعية والمشروعية.
أما العُصبة فهي المجموعة التي تتبوأ المكان الاجتماعي والسياسي والإداري العلوي الرسمي، ويتعاون أفرادها على التفكير في القضايا المطروحة، واتخاذ قرار بشأنها، يكون بالطبع ملزمًا من واقع شرعيتها السياسية، التي تعطيها دون غيرها حق التخصيص السلطوي للقيم، ثم فرض هذا على الشعب، باعتبار القرار الذي اِتُخذ، أو القانون الذي سُن، يمثل "المصلحة العامة" أو يعكس "موقف الدولة"، بغض النظر عن طبيعة نظام الحكم؛ ديمقراطي أو مستبد، أو شكله العام؛ ملكي أو جمهوري، أو حالته الدستورية؛ رئاسي أو برلماني أو مختلط، أو بنيته العامة؛ تقليدي أم تحديثي.
متلازمة فكر العُصبة
والعُصبة ليست عصابة تؤلف الجريمة بين قلوب أعضائها، وليست عصبية يجمعها عرق أو نسب، إنما هي مجموعة تفكر في شأن عام، بلغ أفرادها الموقع الذي يمنحهم حق التفكير هذا عبر التعيين في المناصب العامة، أو الانتخاب من قبل الشعب، الذي لا تمضي الحياة الاجتماعية المعقدة من دونه.
يترتب على فكر العُصبة خلل جسيم في صنع القرار واتخاذه، مع إخفاق في دراسة المخاطر التي تحيط بالبديل المفضل
يعني هذا أننا أمام حالة لا يمكن فهمهما بطريقة جلية سوى بتوظيف مناهج ومقاربات علم النفس الاجتماعي، وعلم السياسة، وعلم التاريخ. فالأول يحلل لنا الميول النفسية لأفراد العُصبة حيث المشاعر والانفعالات والسمات، والثاني يمنحنا بعض القدرة على فهم تفكير العُصبة وتكوين النظام الحاكم ونخبه، فيما يمدنا التاريخ بالتجارب السابقة التي تخبرنا، من خلال الوثائق، كيف فكر أصحاب القرار في مسألة معينة، وكيف قررت بشأنها، وما هو انعكاس ما قررته على الدولة والمجتمع.
وقد يخرج قرار العُصبة معيبًا حتى في النظم الديمقراطية، كما يخبرنا أرفينج ليستر جانيس في كتابه "ضحايا فكر العصبة: دراسة نفسية لقرارات السياسة الخارجية وفشلها"، الذي ينتظر النشر حاليًا بعد أن ترجمه باقتدار الكاتب والمترجم عبد المجيد المهيلمي، ودرس فيه خمس حالات فاشلة في السياسة الأمريكية بسبب فكر العُصبة (Groupthink)، هي: الاستعداد لصد هجوم اليابان على ميناء بيرل هاربر الأمريكي في عهد فرانكلين روزفلت، وغزو كوريا الشمالية في عهد هاري ترومان، وغزو خليج الخنازير في عهد جون كينيدي، وتصعيد الحرب الفيتنامية في عهد ليندون جونسون، وفضيحة ووترجيت في عهد ريتشارد نيكسون.
ويحلل الكاتب ما يسميها "متلازمة فكر العُصبة"، ويوزعها على ثلاثة أنواع، الأول يقع في وهم تقدير قوة المجموعة وأخلاقياتها، بما يجعل أعضاءها مفرطين في التفاؤل، فيقدمون على المخاطرة، والثاني هو الانغلاق الفكري، الذي يجعلهم يهملون المعلومات التي تحضهم على إعادة النظر في افتراضاتهم وتقييمها، ويستريحون لإضفاء صورة نمطية مضللة على الخصوم، فهم إما أشرار أو حمقى. والثالث ممارسة ضغوط على الجميع لتتطابق الآراء، بفرض كل شخص رقابة ذاتية تُقلل من قيمة الشكوك، وتُعزز العيش في وهم الإجماع.
ويترتب على فكر العُصبة خلل جسيم في عملية صنع القرار واتخاذه، ينجم بالأساس عن قصور يصيب الإجراءات، مع إخفاق في دراسة المخاطر التي تحيط بالبديل المفضل، وتجاهل بدائل استبعدت منذ البداية.
من المرجح أن تسقط أي مجموعة التأمت لاتخاذ قرار ما، في فخ تفكير العُصبة. لذلك، من الضروري أن تكون هناك إجراءات محددة وصارمة لتفادي تفكير العصبة أو الهبوط به إلى حده الأدنى.
إجراءات جانيس
ووضع جانيس عددًا من الإجراءات التي تُحقق هذه الغاية، أولها أن يتولى شخص تقييم سياسات قائد المجموعة، ويتم الإنصات جيدًا إلى إفادته والعمل بها. والثاني أن يلتزم أفراد المجموعة بالحياد بدءًا بقائدها الذي عليه أن يعرض المشكلة بتجرد، وألا يوجه البقية في اتجاه معين، أو يُحدد أولويات وأفضليات مسبقة. والثالث هو تكوين عدة مجموعات صغيرة، أو لجان، تدرس كل منها المشكلة بشكل مستقل، وتنتهي إلى تصور نهائي بشأنها، ثم تعرض النتائج على المجموعة التي تقرر، وعلى الأخيرة أن تكون ملزمة بما توصلت إليه المجموعات المصغرة.
اتباع هذه الإجراءات من شأنه تخفيف وطأة الميول النفسية السلبية التي تصنع قرارًا متسرعًا أو منحازًا أو ناقصًا
والرابع يأتي مع وجود فسحة من الوقت لدراسة القضية محل النظر، فيمكن هنا أن تنقسم المجموعة إلى اثنتين مستقلتين، كل منهما تعمل تحت رئاسة قائد، ثم تجتمعان للنقاش المُعمق حول نقاط الاختلاف بينهما.
أما الخامس، فيتمثل في قيام كل عضو بمجموعة صنع السياسات بعقد مناقشة دورية أو مداولات مع زملائه الموثوق بهم بالوحدة المصغرة ثم إبلاغ بقية المجموعات بما انتهى إليه. والسادس هو الاستعانة بخبراء من خارج المجموعة الأساسية وإعطائهم حرية النقد والمراجعة والمساءلة. والسابع يتمثل في تكليف واحد على الأقل من أعضاء المجموعة بلعب دور محامي الشيطان في كل اجتماع، بما يمكنه من كشف العيوب والمثالب والأخطار التي تحيط بالقرار.
ويقوم الإجراء الثامن على دراسة موقف الطرف الآخر الذي يمثل المنافس أو الخصم، ثم العناية بالسيناريوهات التي يضعها، وفهم التحذيرات التي يطلقها، باعتناء. أما التاسع فيأتي بعد توافق مجموعة صنع السياسات مبدئيًا على خيار أفضل، ويكون بعقد اجتماع يمثل "فرصة ثانية" يعرض كل عضو فيها أي شكوك في البديل الذي حُدد.
اتباع هذه الإجراءات من شأنه تخفيف وطأة الميول النفسية السلبية التي تصنع قرارًا متسرعًا أو منحازًا أو ناقصًا.
ماذا يحدث في مصر؟
مقاربة "فكر العُصبة" لا تقف بالطبع عند حالات جانيس، بل يمكن أن نرى مثلها الكثير في وقائع التاريخ والحاضر. فمثلًا، لو سحبنا التحليل إلى الحالة المصرية المعاصرة، فقد نقف على السبب الرئيسي الذي أدى إلى إخفاق مجموعة القرار غير مرة في تحقيق السلامة والنجاعة المطلوبتين. ولعل ما جرى بين "الضباط الأحرار"، لا سيما العلاقة بين جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، تقدم مثلًا صارخًا على "فكر العصبة"، إذ كانا يراعيان بقاء التوافق والرضا قائمًا بينهما طوال الوقت، فأدى هذا إلى صدور بعض القرارات وخيمة العواقب.
تنكسر على نصال "فكر العُصبة" الكثير من آمال المجتمع المصري، الذي يقف في أغلب الأحيان مشدوهًا حيال الكثير من القرارات التي تُتخذ بشأنه
وهناك أيضا حالة إخفاق "أمانة سياسات الحزب الوطني الديمقراطي" في الحفاظ على نظام حسني مبارك، بينما كانت تزعم أنها تمثل طاقة تجديد له، وفرصة قوية لاستمراره في الحكم سنوات أخرى. فالمجموعة الأساسية التي تحلقت حول جمال مبارك، كانت حريصة على حفظ مصالحها الشخصية، أكثر من حرصها على تقويم السياسات وتصويبها.
وينطبق الأمر نفسه على مجموعة القرار التي أحاطت بالرئيس محمد مرسي، حين أساءت تقدير المشكلة التي يعاني منها حكمه، مما أدى إلى إسقاطه. فالمجموعة قللت من التحديات وتجاهلت المعلومات واستهانت بتحذيرات الغاضبين وبينهم بعض الحلفاء، ولم تستفد من التصورات البديلة التي طرحها الآخرون.
والمسألة نفسها تنطبق على المجموعة التي تقرر في ظل حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، خاصة مع سيطرة قائدها على القرار، وميل البقية إلى موافقته أو مجاراته للاحتفاظ بمناصبهم أو مواقعهم الإدارية، على حساب المصلحة العامة غالبًا. ووقعت هذه المجموعة في خطأ إهمال البدائل الأخرى التي كان يمكن للسلطة أن تختار من بينها الأكثر نفعًا، خاصة الملف الاقتصادي، وتعطي نفسها فرصة المراجعة، أو تحليل المعلومات المتاحة بشكل علمي، يمكنها من تحديد سلم أولويات للدولة والمجتمع في مرحلة فارقة من تاريخه.
واختلطت في الحالتين الأخيرتين "العُصبة" بـ"العصبية" إلى حد كبير، هي عند مرسي متضحة في تحيزه لجماعة الإخوان، حيث تبدو الجماعة في قوامها وبنيتها وفكرتها المركزية أقرب إلى "أسرة أيديولوجية"، تقدم مصلحتها على ما عداها، وتتصرف بما يحفظ تماسكها، باعتبار هذا غاية قصوى لا بد من مراعاتها بشدة في أي قرار.
أما عند السيسي فهي "عصبية وظيفية" للمؤسسة العسكرية التي أرادت العودة إلى الحكم بعد إطاحة أحد قادتها إثر ثورة 25 يناير، وراحت تستعيد مواقعها، بل تحتل مواقع مؤثرة في الحياة السياسية والاقتصادية والإدارية، أكثر مما كان لها منذ عام 1952.
إن التجربة المصرية المعاصرة مصابة بمتلازمة "فكر العصبة"، التي فرضت عيوبها على كثير من القرارات، ولم يُلتفت إلى الإجراءات التي من شأنها التقليل من الخطأ الذي أصابها في مقتل، وأدى في النهاية إلى إخفاقات متكررة لأنظمة الحكم المتعاقبة في الوفاء بكثير من الوعود التي أطلقتها في آذان الشعب، بل فشلت هذه الأنظمة في الحفاظ على الثقة والمصداقية ثم الشرعية الحقيقية التي تحميها من الاضطراب والسقوط.
وتنكسر على نصال "فكر العُصبة" الكثير من آمال المجتمع المصري، الذي يقف في أغلب الأحيان مشدوهًا حيال الكثير من القرارات التي تُتخذ بشأنه، بدءًا من تلك التي تعالج قضاياه وأهدافه الكبرى، انتهاءً بما يمس مصالحه اليومية الصغرى، دون أن يعرف أو يدرك أو يقدر سببًا واحدًا لصدورها على هذا النحو المعيب.