قبل ثورة يناير بـ6سنوات تقريبًا كتب دكتور مصطفى الفقي واحدًا من أشهر مقالاته عنوانه "الجيل المسحور"، شبَّه فيه جيله بالطابق الذي يعبره المصعد دون أن يتوقف عنده أبدًا، ويوصف بـ"المسحور". كان الفقي يقصد نفسه ويطرح رهاناته بشكل أساسي على أن يتم استوزاره مرة، شاكيًا من أنهم كانوا قبل سنوات يتعللون بأنه لا يزال صغير السن، ثم قيل له بعد مرور سنوات كثيرة: لقد كبرت. مع أنه لم يقفز من الصغر إلى الكبر، وفق مقياس السلطة، إنما مر بسنوات كان أمام عينيها ولم تفكر فيه.
لمس الفقي صراع الأجيال على المناصب الرسمية الرفيعة في البلاد، ولم يكن معنيًا بدرجة أساسية بصراعها في مختلف المجالات والساحات. ففضلًا عن أن متوسط أعمار الوزراء في عهد مبارك كان يتعدى الستين عامًا، وبعضهم بقي محتفظًا بمنصبه ربع قرن كان بإمكانه أن يزيد لولا الثورة، فإن النظام وقتها توسع في تعيين مستشارين بمختلف الوزارات، بعد بلوغهم سن التقاعد، ليظل طلب إفساح المجال أمام جيل جديد قائمًا طوال حكم الرجل، حتى جاء الوصف الشهير لمحمد حسنين هيكل إبَّان أزمة قانون الصحافة رقم 93 لسنة 1995 للنظام بأنه "سلطة شاخت في مواقعها".
في هذا الوقت كانت الدولة تتخلى تدريجيًا عن تعيين الخريجين في مناصب حكومية، حتى يَئِس ملايين الشباب من خريجي المدارس الفنية والجامعات في الحصول على وظيفة، وبعضهم اقتنصها بشق الأنفس وهو في منتصف الثلاثينات. وكانت الأحزاب السياسية جميعًا تواصل فشلها في تجنيد جيل جديد إلى صفوفها، وكان مبارك نفسه يستريح لهذه الصيغة، حتى إن اضطر إلى الجلوس مع القيادات الحزبية، وجدهم يماثلونه أو يكبرونه في السن.
وحين أراد جمال مبارك، في إطار مشروع توريثه، أن يدفع شبابًا جددًا إلى الحزب الوطني الحاكم وقتها، وُلد صراع وصفته الصحف بأنه بين "حرس قديم" و"حرس جديد"، لكن ظل الشباب في الغالب الأعم مستبعدين من المشهد، الذي إن انفتح لبعضهم أحيانًا، كان ينفتح لشباب يحملون الثقافة السياسية نفسها التي يؤمن بها العجائز.
بقيت الصورة ثابتة باهتة إلى أن ماجت برياح الثورة، التي مثَّل الشباب قوتها الأساسية الدافعة، حتى ارتاح البعض وقتها لوصفها بأنها "ثورة شباب"، معولًا ليس فقط على دور فتية وفتيات يمتلكون القدرة على التعامل مع السوشيال ميديا، خصوصًا فيسبوك وقتها، بل أيضًا على أن أغلب الذين فاضت بهم الشوارع يوم التحول الكبير للثورة في 28 يناير 2011 كانوا من الشباب.
مشكلة الأجيال
لم يلتفت كثيرون وقتها إلى أن شباب الثورة هؤلاء كانوا يرددون أحيانًا شعارات رفعها شباب سبقوهم في العمل السياسي، لا سيما جيل السبعينيات الذي اتسم بالتمرد على أكثر من جهة، وأن هؤلاء حين هبطوا إلى الشوارع غاضبين، وانخرطوا في الزحام، كانوا يستعيدون وهجهم الذي انطفأ، ويريدون تحقيق ما تبقى من أحلامهم التي دهسها السابقون عليهم، أو تآكلت في الانتظار الطويل.
ارتبطت الأجيال التي تعاقبت في مصر بالتحولات الفارقة لكن يظل جيل السبعينات صاحب البصمة الأعمق
ووقع هؤلاء الشباب في خطأ جسيم، لمسته بنفسي حين كنت بينهم، حين تنكروا لجهد الجيل الذي سبقهم، وظنوا أن بوسعهم الاستغناء عنه، بل حمَّلوه مسؤولية الصبر الطويل على الفساد والاستبداد. والتقطت القوى المضادة للثورة هذه النزعة، ونفخت في أوصالها، حتى تُحدث شرخًا في الكتلة الاجتماعية الحاضنة للفعل الثوري، وأشاعت وهم ميلاد جيل مختلف، وسوقته على نطاق واسع، لكن الحقيقة لم تكن كذلك على الإطلاق.
ابتداء، لا يمكن في هذا المضمار تجاوز الرخاوة التي يتسم بها مفهوم "الجيل"، ولا أنَّ الحاجة إليه تتجدد في فترة التحولات الاجتماعية والسياسية الفارقة، ولا كونه يتعدى التصور البيولوجي، الذي يقدره بفترة زمنية تتراوح بين 25 و33 سنة، أي من ربع إلى ثلث قرن.
ويشترط كارل مانهايم في دراسته المشهورة مشكلة الأجيال وجود حدث تاريخي فارق، أو تغير اجتماعي كبير، يقع لمجموعة من الأفراد متقاربة أعمارهم. لكن العمر نفسه فقط لا يكفي، في رأيه، لصناعة مشتركات تبلور جيلًا معينًا ذا سمات مختلفة، إنما لا بد فضلًا عن وجود تحول ما، أن تربط بين جيل واحد ثقافة معينة، تبين أن أفراده مختلفون عمن سبقوهم في القيم والوعي بالعالم، وفي طريقة التفكير، وأساليب التعبير عن احتياجاتهم ومطالبهم واهتماماتهم.
إن الاطمئنان إلى وجود "جيل" ما يتطلب في كل الأحوال، ومن منظور سوسيولوجي، وجود فئة اجتماعية بينها قدر من التجانس، حازت على "وعي جيلي" يمكنها تعبئة الناس لحساب وعيهم هذا، بغية إحداث تغيير ينتصر لتصورهم أو رؤيتهم للعالم. وبذا يظل الجيل أشبه بحدث موضوعي يرتبط بالتطور الاجتماعي، يظل عند البعض واحدًا من محركات التاريخ، وصانعًا للتقدم، وربما للتدهور، ويقدم مدخلًا لتفسير بعض الحقب الزمنية في تاريخ الأمم.
هنا يرى نبيل عبد الفتاح أن مفهوم الجيل شاع في الحياة السياسية والأكاديمية المصرية في العقد الأخير من القرن العشرين ليؤدي عدة وظائف هي: فتح مجال لتفسير بعض النزاعات والظواهر داخل الحياة الثقافية والسياسية، ومحاولة لتجديد الخطاب والكتابة والمشافهة السياسية النخبوية السائدة، ومسعى لإبراز التباينات والتميزات بين جيل الوسط والأجيال الأكبر، والأكثر شيخوخة ليس على مستوى العمر فقط، بل أيضًا على مستوى التكوين الفكري، والحس العام، والخيال السياسي.
وفق هذا التصور النظري، يمكن القول إن الأجيال التي تعاقبت في مصر، ارتبطت بالتحولات الفارقة في تاريخها الحديث والمعاصر، مثل شباب الثورة العرابية، وشباب ثورة 1919، وشباب الضباط الأحرار، والشباب المعترضين عليهم في انتفاضة الطلاب عام 1968، وعام 1972، وخلال انتفاضة الخبز 1977، وتمرد شباب المجندين في الأمن المركزي 1986، لكن يظل جيل السبعينيات صاحب البصمة الأعمق في صراع الأجيال.
ولعل هذا ما لفت انتباه الباحث أحمد تهامي عبد الحي، ليعد أطروحة دكتوراه في العلوم السياسية عن هذا الجيل، يراه فيها من مختلف جوانبه، وعلى تنوع انتماءاته. فهذا الجيل هو الذي أراد فريق منه إحياء الناصرية في وجه السادات، فقوبل بحصار شديد، مرة بالاعتقال والتشويه، وأخرى بتصعيد شباب الإسلام السياسي لمواجهته.
جيل السبعينيات والخطوط الفاصلة
هذا الجيل هو الذي أحيا جماعة الإخوان المسلمين بينما كان رصيدها الاجتماعي والسياسي يوشك على النفاد. وهذا الجيل هو الذي ظل اليساريون منه يكافحون ليبقوا على جذوتهم مشتعلة حتى كادت تنطفئ، فقعد ملومًا محسورًا. وبعض أبناء هذا الجيل هم من أطلقوا الحركة الحقوقية في مصر، ومن بين هؤلاء من نقل ولاءه ومنافعه إلى الغرب الرأسمالي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.
إذا كانت الفجوة التقنية بين الأجيال هنا ستتضاءل في السنوات المقبلة فإن هناك فجوة نفسية ستتسع بينها
وإذا كانت الفروق بين الأجيال طبيعية، فإن هذا لا يجب أن يخلق صراعًا جيليًا في المجتمع، بل يخلق نوعًا من التفاهم والمساندة والتشجيع، فينقل الكبار خبراتهم الحياتية للصغار، ويتفهمون طرائق تفكيرهم، ولا يقفون حجر عثرة أمام طموحهم.
فالأعمار تتداخل، والخبرات تتناقل، والقديم لا يموت كله، إنما يتصل ما سبق بما يجري، ويصب الاثنان قوة دافعة فيما يأتي، فتستقيم حياة الناس على نحو سليم، متلافية أي شروخ اجتماعية تقوم بين شباب وعجائز، ومنحازة في كل الأحوال إلى حق كل جيل في السلطة والثروة.
لماذا تسارعت الفجوة في مصر؟
لكن الفجوة الجيلية في مصر تسارعت شأنها شأن كثير من البلدان بفعل التقدم التقني الرهيب، لا سيما ثورة الاتصالات، ورياح العولمة التي كنست أمامها الكثير من القيم والتصورات، وغيّرت الأذواق ووسائل تحصيل المعرفة، وأضفت على التفكير نوعًا من الشبكية، تتماشى من عالم الإنترنت، لتزيح عند كثيرين التفكير الخطي والدائري الذي كان يقوم قبلها.
أتذكر جيدًا وقت أن تم إدخال الكمبيوتر إلى الخدمة في المؤسسة الصحفية التي كنت أعمل بها في شبابي، كيف كان الكبار يقاومون هذه الطريقة، ويصرون على استعمال الورقة والقلم حسبما اعتادوا عقودًا من الزمن، بينما أقبل الشباب على الخدمة الجديدة، وأتقنوها في زمن قياسي.
اندمج جيلنا أكثر مع هذا الواقع المعولم، متمردًا على كثير من الأساليب التقليدية في العمل، وأعطاه الاتصال بالعالم الكثير من الأفكار والقيم المختلفة، لا سيما عند أولئك الذي لم يتعاملوا مع العالم الجديد على أنه مجرد وسيلة أسرع وأكثر كفاءة في العمل، إنما منظومة كاملة فيها من الأدوات والآليات والطرائق والإجراءات بقدر ما فيها من القيم والرؤى.
لكن الجيل الذي لحق بنا كان أسرع منا في ذلك. وهنا يرى وحيد عبد المجيد أن الاندماج في الثورة الرقمية اتسم بها الجيلان اللذان يُطلق عليهما رمزيًّا "جيل Z" المولود أبناؤه بين منتصف تسعينيات القرن العشرين وآخر العقد الأول في القرن الحادي والعشرين، و"جيل Alpha"، الذي يمتد حتى 2030، ويضم من وُلِدوا منذ أوائل عقده الثاني، وفتحوا أعينهم على شاشات الهواتف الذكية، وعرفوا التكنولوجيا الجديدة قبل أن يتعلموا القراءة والكتابة، ما يجعلهما مختلفين عن الأجيال السابقة، وإن ربطتهما في الوقت ذاته بعض القواسم المشتركة مع من ولدوا بين أوائل ثمانينيات القرن العشرين حتى منتصف تسعينياته.
لقد وُلد اليوم جيل لم يرَ من القديم شيئًا، فالطفل يفتح عينيه ليجد في يده هاتفًا ذكيًا، يفتح الأفق أمام عينيه وأذنيه وعقله بلا حدود ولا سدود ولا قيود، بل يمنحه الوسائل التي يكسر بها القيود التي تفرضها السلطة باسم الحفاظ على الأمن، ويفرضها المجتمع باسم الحفاظ على الأصالة. إنه جيل يتسم بنزعة تحررية في وجه النزعة المحافظة التي سيطرت على أجيال سابقة.
وبمرور السنوات سيذهب جيل ما قبل انتشار الحواسيب إلى المقبرة، وستقرب التكنولوجيا بين الأجيال التي تليه، دون إتيان تام على الفجوة الجيلية، نظرًا لأن الثورة الرقمية أو "الرقمنة" لا تتوقف عن تطور تتسارع وتيرته كل فترة، يقف الآن على باب الميتافيرس، وسيصل إلى آفاق أوسع حين ينتصف القرن الحادي والعشرون، وسيقترب الواقعي من الافتراضي.
وإذا كانت الفجوة التقنية بين الأجيال هنا ستتضاءل في السنوات المقبلة، فإن هناك فجوة نفسية ستتسع بينها. فسوء التخطيط، الذي لا يأخذ في الحسبان حقوق الجيل الآتي في الموارد، ويراكم ديونًا خارجية وداخلية، سيكون على القادمين إلى الحياة في السنوات المقبلة تسديدها، سيجعل من هؤلاء حانقين على من سبقهم، وسيتهمونهم بأنهم استأثروا بشيء من خيرات البلاد، بينما أثقلوا كاهل غيرهم بعبء ما استدانوه وبددوه، لا سيما إن لم تخرج البلاد من كبوتها الاقتصادية، وتحول معاناة أبناء الجيل الحالي إلى درب تعبر عليه أقدام الجيل اللاحق إلى الحرية والكفاية.