أعتبر نفسي في المنتصف بين أعمار الشباب الذين شاركوا في ثورة يناير، وعندما أراجع التغييرات السياسية المحلية الكبرى التي عايشها جيلي حتى قيام الثورة، أجد أن الإجابة الوحيدة: لا شيء!
عندما أتممت عامي الأول، قُتل السادات بيد حلفائه فحكم مبارك. تعلمت الكلام، والتحقت بالمدارس، وأنهيت دراستي الجامعية، وتزوجت، وأنجبت، وعملت بالمحاماة، وافتتحت مكتبي الخاص، وحققت نجاحات مهنية مختلفة، وصدرت لي ثلاثة مؤلفات قانونية ونشرت عددًا من المقالات، وانفصلت عن والدة ابني. كل ذلك خلال فترة حكم الرئيس نفسه.
معظم أبناء جيلي ولدوا وأنهوا تعليمهم والتحق أبناؤهم بالتعليم، ولم يروا سوى رئيس واحد، وثمانية رؤساء للوزارة! سمع جيلنا عن الديمقراطية وحلم بها، لكنه لم يرها قط في بلدنا، لذلك وقعنا في فوضى قبول ورفض الآخر.
هل كلهم فاسدون؟
هل كل أعضاء الحزب الوطني وجماعة الإخوان فاسدون ومتطرفون؟ عند قيام ثورة يناير كان عدد أعضاء الحزب الوطني مليونًا وتسعمائة ألف عضو. وهذا العدد يشمل، بالتأكيد، عددًا كبيرًا من المنخرطين في شبكات مصالح برع أعضاء الحزب الحاكم في نسجها لمدة تقترب من الأربعين عامًا. فهل يمكن وصم هذا العدد الكبير بالانتهازية؟ وهل يمكن لأحد التأكد من عدم وجود أعضاء حاولوا تغيير الحزب من الداخل لتطوير مؤسسات الدولة؟
باسم الحرية جرى تكميم أفواه أعداء الحرية!
في المقابل، كانت "الإخوان المسلمون" هي الجماعة الأكبر على الساحة السياسية عند قيام ثورة يناير، بعد أن سُمح لها بالبقاء والتمدد عبر علاقة معقدة مليئة بالتقارب والتباعد دون صدام مع نظام مبارك. وتدور تقديرات متباينة لعدد أعضائها بين 200 و700 ألف عضو وقت اندلاع الثورة. فهل يمكن لأحد أن يؤكد أنَّ كلَّ هذا العدد كان من المتطرفين؟ أو المرتبطين بشبكات المصالح المالية أو المغلفة بغلاف الدعم الاجتماعي للأسر الفقيرة؟
بالتأكيد هناك كثير من المتدينين اليمينيين التقليديين، الذين يحلمون بدولة دينية محافظة تحكمها الجماعة. ولكن بالتأكيد كان هناك أيضًا الملايين من الشباب غير المنظمين، أو الأعضاء في تنظيمات شبابية، شرعية غير قانونية، يسعون ويحلمون بوطن حر ومستقبل أفضل.
هؤلاء الشباب الذين لم يجدوا في الأطر التقليدية من الحزب الحاكم، أو جماعات الإسلام السياسي، أو أحزاب المعارضة المدنية، تعبيرًا عنهم، لجأوا لأشكال جديدة في التنظيم والتحركات، كان لها أثر حاسم في تجاوز القيود المفروضة على السبل التقليدية، وإحداث التغيير.
هل كان من الممكن إنجاز عملية تحول ديمقراطي، باستبعاد أي من هذه العناصر، سواء بادعاء فساد، أو تطرف، أو رعونة، أو عدم تقدير للعواقب؟ وهل كان من الممكن أن تعمل هذه الأطراف سويًا، رغم ما بينها من تناقضات جذرية؟
هل كل من رفض المشاركة خائن؟
أدركنا ضرورة إصلاح أوضاع بلادنا، وآمنا أن الطريق الوحيد لهذا الإصلاح هو الديمقراطية. الديمقراطية التي رفعناها شعارًا، وعرفنا عن مبادئها بالاطلاع دون أن نراها يومًا، ولم نختبر تفاصيل إدارة الحياة في مجتمع ديمقراطي.
نعرف جيدًا أنَّ الديمقراطية تعني حكم الأغلبية. وما دامت أغلبية شعبنا اختارت الثورة طريقًا، لم تجد سواه لانتزاع حقوقها وبناء مستقبل أفضل لبلدنا، فمن الطبيعي استبعاد كل من لم يوافق على هذا الطريق! هكذا أصبح كل من لم يقبل المشاركة في المسار الثوري الذي اختاره شعبنا خائنًا لأحلام وطموحات الشعب، ويجب عزله واستبعاده حتى لا يعوق مسيرة الحرية.
أصبح النبذ، ومحاولات العزل، باسم الحرية وحقوق الشعب المقهور، لعقود طويلة، جزءًا من خطاب القطاع الأوسع ممن انتموا للثورة. وهكذا، باسم الحرية جرى تكميم أفواه أعداء الحرية!
لم نفطن إلى أن الديمقراطية مجرد أداة ليصبح الحكم مُعبِّرًا عن أوسع قطاع من الشعب، لكنه لا ينفي حق الأقلية في الدعوة لما تؤمن به؛ حتى لو كان في غير صالح الشعب من وجهة نظرنا. الديمقراطية تعطي فرصًا متساويةً للجميع في الدعاية لأفكارهم، والتحرك من أجل جذب أكبر عدد من الأنصار لتحقيق ما يؤمنون به.
لكن عندما تبقى الأقلية كما هي، والأغلبية كما هي، نعرف أننا أمام قواعد استبدادية، فالأصل أن تتبادل الأقلية والأغلبية المقاعد حسب قدرتها على الإقناع والحشد والتعبئة.
أين ضاعت البوصلة؟
لم ندرك أنَّ الهدف الرئيسي من التحول الديمقراطي هو تحقيق السِلم المجتمعي، ليشعر كلُّ أبناء المجتمع أنهم طرف في عملية صياغة السياسات العامة للدولة، بإقرارها في حالة الانتماء للأغلبية الحاكمة، أو طرح سياسات بديلة لجذب دعم الشعب لها إن كانوا من الأقلية المعارضة.
كنّا شركاء في الخطأ وعلينا أن نعترف بذلك ونتحمل نصيبنا من المسؤولية
وهذا الأمل في تبادل الأدوار بشكل سلمي هو ما يحمي البلاد من الانفجار. فلا يمكن أن تنهض أيُّ أمة إلا بمشاركة كل أبنائها، على اختلاف توجهاتهم. والسِلم المجتمعي هو الضمانة الوحيدة لمشاركة جميع أبناء المجتمع في صنع القرار وتخطيط التنمية.
لم نطرح بديلًا ديمقراطيًا حقيقيًا يسمح للجميع، على اختلاف توجهاتهم، بالمشاركة في بناء وطنهم. ويساعد على بناء سلم مجتمعي لبلاد حكمها القهر والصوت الواحد طوال ستة عقود. لم نر سوى صورة الملايين التي خرجت تدعم مساعينا من أجل الحرية!
وإلى هنا وصلنا: انفض الناس عما اعتبروه سببًا للعنف.
ازددنا تطرفًا، ونحن نحمل نعوش أصدقاء استشهدوا، ونشارك أصدقاء فقدوا أعينهم من أجل أن تنعم بلادنا بالحرية. وجد الملايين، الذين ساندونا في مسعانا من أجل التغيير، أنفسهم في دوامة صراعات جديدة، بين أطراف يدّعي كل منها الأحقية بتمثيلهم.
يطالب كل طرف الناس بدعمه لتحقيق الرخاء استنادًا إلى تمثيله وحده لشرع الله، أو الوطنية، أو المسار الثوري، وعبر اتهام باقي الأطراف بالكفر، أو الخيانة الوطنية، أو خيانة دماء الشهداء.
كان من الطبيعي إذن، في جو مضطرب كهذا، أن ينفض الناس عما ظنوا أنه سبب هذا الصراع، وأن يدعموا من يعدهم بالرخاء والاستقرار، ولو كان كاذبًا. كان من الطبيعي أن يدعموا من يمتلك الموارد المالية الكافية لجذب حلفاء، وتطويع أدوات دعاية ووسائط إعلامية قادرة على إظهاره بمظهر القادر على تحقيق الرخاء والاستقرار، سواء اعتمادًا على الدعم الإلهي أو قوة السلاح.
ما آلت إليه الأمور لم يكن خطأ من خدعوا الجماهير وحدهم، بل شارك فيه من لم يطرحوا بديلًا ديمقراطيًا حقيقيًا قادرًا على بناء وطن يتسع للجميع، بمن فيهم أعداء الديمقراطية ومن لا يؤمنون بسيادة الشعب. كنّا شركاء في الخطأ، وعلينا الاعتراف بذلك، وتحمُّل نصيبنا من المسؤولية، إذا كنا بالفعل نسعى لبناء نموذج وطن نحلم به ويستحقه شعبنا.
لكن معضلة "وطن يتسع للجميع" كانت امتحانًا آخر لم ينجح فيه معسكر يناير، ولا أي طرف آخر. وهذا ما سأتناوله في المقال التالي.