في يناير 2011، لم يأخذ العمال زمام المبادرة ولم يسيروا في مظاهرات بالآلاف حاملين لافتات عليها أسماء مصانعهم وشركاتهم متوجهين إلى ميادين التحرير مطالبين بإسقاط النظام. بالطبع كانوا هناك ولكن كأفراد، وليس ممثلين لأماكن عملهم. وهو ما جعل تمييزهم صعبًا.
إلا أن البيانات المتوفرة تؤكد هذا الوجود. قد يكون عدد الشهداء والمصابين الذين قدمتهم الطبقة العاملة أكبر دليل على ذلك. فرغم صعوبة الحصول على معلومات كاملة بشأن شهداء الثورة، فإن البيانات المتوفرة تحمل إشارةً مهمةً.
حصرت لجنة نقابة الصحفيين أسماء 279 شهيدًا، من بينهم 120 فقط تشير البيانات إلى مهنتهم. من هؤلاء الـ120 هناك 74 عاملًا. أما "جمعية أبطال ومصابي الثورة"، فأحصت 4500 مصاب في الثورة، 70% منهم عمال بدون مؤهلات و12% عمال بمؤهلات متوسطة، أي أن 82% من هؤلاء المصابين كانوا عمالًا.
الورد اللي فتح في جناين مصر
يستحق العمال قدرًا أكبر من الثناء والتقدير لدورهم في الإطاحة بمبارك.
في الأسبوع الأول للثورة، فُرِض حظر للتجول لساعات طويلة، فأغلقت معظم المنشآت وأماكن العمل، وأصيب الاقتصاد بشلل تام. لكن في 6 فبراير/شباط 2011، تقلصت ساعات الحظر، في محاولة لـ"إعادة تشغيل" البلاد.
بينما كان المتظاهرون يتركون الميادين لتدوير عجلة الإنتاج نَقلَ ملايين العمال الثورةَ إلى مواقع العمل
غير أن هذه المحاولة جاءت بنتائج عكسية عندما دخل العمال على الخط وعادوا لمواقع عملهم، لينظموا عدة احتجاجات واعتصامات كان أهمها اعتصام شركات تابعة لهيئة قناة السويس في السويس ومظاهرات آلاف موظفي الشركة المصرية للاتصالات في أكثر من محافظة أمام السنترالات، وإضراب عمال النظافة والتجميل في الجيزة.
وقبل خطاب تنحي مبارك بـ48 ساعة، انضم عشرات الآلاف من العمال، في مئات المواقع وأكثرها حيويةً، لموجة من الإضرابات العمالية هي الأكبر في تاريخ مصر المعاصر، حتى لاح مشهد قريب من العصيان المدني في الأفق. أضربت مؤسسات حكومية، ومؤسسات إعلامية تابعة للنظام، ومصانع للإنتاج الحربي، وشركات تابعة لهيئة قناة السويس، وقطاع البترول.
ولم تخلُ مواقع مهمة مثل المطار، وهيئة النقل العام، وهيئة السكك الحديدية، والشركة العامة للكهرباء، والبريد، من الاحتجاجات. شهد أيضًا القطاع الصحي احتجاجاته، خاصة من قطاع التمريض والعمال المؤقتين في المستشفيات الجامعية. كما أضرب عاملون في الجامعة العمالية وسائقو التاكسي، وعمال زراعيون.
وانتشرت الإضرابات في الشركات والمصانع كالنار في الهشيم، في مدينة السادات، وكفر الدوار، وحلوان، و6 أكتوبر، والمحلة، وطنطا. أخذ الإضراب شكل متتالية تصاعدية من حيث الكم والانتشار الجغرافي، حيث ارتفع العدد من بضعة احتجاجات في عدد من المحافظات في 7 فبراير/شباط، إلى 20 احتجاجًا في 9 محافظات في 8 فبراير، ثم إلى 35 احتجاجًا في 14 محافظة في 10 فبراير، وأخيرا إلى 65 احتجاجًا في 11 فبراير(*).
من خلال الإضراب، رفض العمال إنقاذ النظام. وكانت تلك الموجة الضاربة هي التي أقنعت المجلس العسكري بأن الأمر انتهى، وأنه قد يفقد السيطرة تمامًا إذا لم يقدم تنازلًا جادًا. كما أعطت موجة الإضرابات المزيد من الثقة للمعتصمين في الميادين للضغط أكثر على مبارك. لن تكون مبالغة إذا اعتبرنا حركة العمال هي السبب الرئيسي وراء قرار الجيش التخلص من مبارك، حتى وإن لم يتصدر العمال مانشيتات الصحف.
كانت كل الأضواء مسلطة على الورد اللي فتح في جناين مصر. فلم يكن من مصلحة النظام الاعتراف بأن هناك قوى اجتماعية قادرة على وضع العصا في ترس النظام وإعاقته، خوفًا من أن يمنحهم هذا الاعتراف مزيدًا من الثقة في قدرتهم على الفعل.
ولم يكن أيضًا من مصلحة القوى السياسية التي انتهت الثورة بالنسبة لها وأتى وقت التفاوض، الاعتراف بدور العمال، لأنه يعني ضمنيًا الاعتراف بحقهم في المشاركة في عملية التفاوض. وبَلَع الشباب الطعم، وطغى عليهم الشعور بالنشوة والزهو بالانتصار.
إسقاط أشباه مبارك الصغار
بينما كان المتظاهرون يتركون الميادين مع نداءات ضرورة العودة لتشغيل عجلة الإنتاج، نَقلَ ملايين العمال الثورةَ إلى مواقع العمل. فقد شارك ما لا يقل عن 150 ألف عامل في 489 احتجاجًا في فبراير وحده؛ ضد فلول النظام، ولأجل إدارة الشركات بديمقراطية، ولتحقيق العدالة الاجتماعية في المؤسسات الحكومية والقطاعين العام والخاص.
لا يعود فضل الإطاحة بمبارك إلى احتجاجات الميادين وحدها على أهميتها
لم يكن فرض العاملين بمطار القاهرة توظيف مدير مدني للمرة الأولى، أو رفض موظفي بلدية الإسكندرية استمرار لواء غير منتخبٍ في رئاسة أحد الأحياء، أو الإطاحة برئيس مجلس إدارة شركات المحلة، والتعاون للبترول، والعامة للصوامع، والقابضة لمياه الشرب والصرف الصحي، وبمجلس إدارة شركة مصر للزيوت والصابون، أو انتخاب العاملين بمستشفيات منشية البكري والزاوية الحمراء والعباسية مديرين جددًا بعد سحب الثقة من القدامى، إلا مجرد أمثلة.
خضع المجلس العسكري مؤقتًا لطوفان العمال، وإن نقل بعض قياداتهم لأماكن أخرى، في بعضها بدا النقل وكأنه ترقية.
وفي 19 فبراير، اجتمع أربعون من القيادات العمالية، وتبنّوا إعلان مطالب العمال في الثورة، بما في ذلك رفع الحد الأدنى للأجور والمعاشات وتقريب الحد الأقصى للأجور بحيث لا يزيد عن 15 ضعف الحد الأدنى، وصرف بدل بطالة للمتعطلين وعلاوة دورية تتناسب مع زيادة الأسعار، وإطلاق الحق في تشكيل نقابات مستقلّة، وفي الاستقرار في العمل، وفي الإضراب، وفي الرعاية الصحية، واسترداد الشركات التي تم خصخصتها لتعود إلى ملكية الدولة ووقف برنامج الخصخصة، وإقالة رموز الفساد في كافة المواقع وحلّ الاتحاد العام لنقابات عمال مصر.
أكد العمال عبر هذه المطالب أن "هذه الثورة إن لم تؤدِّ إلى توزيع عادل للثروة وإقامة عدالة اجتماعية... فكأن شيئًا لم يكن"، وأن "الحريات السياسية لا تكتمل إلا بالحريات الاجتماعية... حيث إن حرية رغيف الخبز هي المقدمة الطبيعية لحرية تذكرة الانتخاب".
إلا أن العديد من "الثوريين" اعتبروا هذه المطالب "فئويّة"، ورفضوا دعمها بعد الإطاحة بمبارك مباشرة عندما كانت فرصة التغيير سانحة. ونادوا بوقف الاحتجاجات العمالية، سواء بحجة "سير عجلة الإنتاج" أو "دقة المرحلة" أو "فضيلة الصبر".
حتى الشيخ القرضاوي ردد هذه العبارات في خطبة الجمعة من ميدان التحرير. ووصف عصام شرف رئيس "وزارة الثورة" الاحتجاجات العمالية بأنها تشكل خطرًا على مصر، ويجب مواجهتها بكل الطرق مثلها مثل أعمال البلطجة. وهو ما فتح الطريق لقمع الحركة العمالية المنتفضة.
لا يعود فضل الإطاحة بمبارك إلى احتجاجات الميادين وحدها على أهميتها، بل أيضًا إلى موجة الاحتجاجات العمالية التي رافقتها لتحسين مستويات المعيشة وتحقيق بعض التوازن في توزيع الثروة. ولكن بينما منحت هذه الاحتجاجات زخمًا لحراك الميادين أجبر مبارك على الرحيل، فإن تيارات عديدة من القوى المحسوبة على الثورة تنكّرت لمطالب العمال ولم تمنحها غطاءً سياسيًا يسهّل تحقيقها، بل انحازت لخطاب السلطة، قبل أن تتهمها لاحقًا بأنها تعاني من مشكلة في "ترتيب الأولويات".