كانت لديَّ مشكلة منذ اندلاع الثورة مع ترديد مصطلح "شباب الثورة"، الذي سعت أطراف عدة، لها مصالح متباينة، للتأكيد والتشديد عليه مرارًا، حتى تحول بالنسبة لكثيرين إلى "حقيقة" تنطلق منها تحليلاتهم ومحاولاتهم للاشتباك مع المعضلات السياسية. وسأظل أرفض تصدير الفروق الجيلية باعتبارها مقياسًا للفرز السياسي، وكأنَّ هناك جيلًا بعينه يتميّز أو يتمتع بأفضلية عن غيره من الأجيال، خاصة التي سبقته.
لا شكَّ أنَّ الشباب بالتعريف هم الأكثر حماسًا وحيويةً وفاعليةً ومغامرةً. ولكنهم بالتعريف أيضًا، الأقل خبرةً وعمقًا. غير أنَّ هذا ليس مهمًا في الحقيقة، فالجميع بحاجة إلى الجميع. الأهم أنَّ تصدير الفروق الجيلية باعتبارها مفتاح الحل أمرٌ مُضرٌّ.
هو مُضرُّ لأنه وهم وكذبة؛ غير حقيقيٍّ أنَّ من كانوا في طليعة ثورة يناير هم الشباب. وغير حقيقيٍّ أن الشباب كانوا الأكثر تأثيرًا في مساراتها ومآلاتها، بل ربما العكس هو الصحيح. وليس حقيقيًا أنَّهم كانوا أكثر جذرية من الشيوخ، ولا أنَّ الثورة انهزمت لأن من سُمّوا بشباب الثورة وقتها لم يأخذوا فرصتهم.
هذه الفكرة، وغيرها من الأوهام السياسية التي سادت في السنوات الأخيرة، كارثية، لأنها تنطلق من اعتبار هامشي لا يُفرّق بين الناس على أساس المقياس السياسي الحقيقي؛ وهو الانحياز للمصالح التي يدافع عنها الشخص، وتصوراته عن كيفية الدفاع عن هذه المصالح، وبمَن، ليصبح عمره هو المقياس.
في كل معركة وكل اختبار سياسي، ستجد على كل جانب شيوخًا وشبابًا، رجالًا ونساءً، مسلمين ومسيحيين ولا دينيين. لو بدأ التحليل بتبني واحد من هذه الفروق، فبالتأكيد سيكون الحل سُلَّمًا آخر مرسومًا على الحائط!
ما رأي زياد؟
أختلف إذًا مع الصديق زياد العليمي الذي انطلقت مراجعاته التي نشرتها المنصة في الذكرى الثانية عشرة للثورة من فكرة "شباب يناير"، والتأكيد عليها. وأختلف أيضًا مع أنَّ "الشباب" انشغلوا بالماضي بدلًا من الالتفات للمستقبل. الواقع أنهم، كغيرهم، لم يلتفتوا للماضي كما ينبغي. لم يُراجعوا أو يناقشوا أحدًا بالقدر الكافي في مسارات الثورة وأسباب الهزيمة والاختيارات التي اختارها كل طرف، والأفكار التي انحاز لها ودافع عنها.
ربما تكون مراجعة ومناقشة موضوع "شباب الثورة" وبالذات تجربة "ائتلاف شباب الثورة" نقطة بداية جيدة، بما إنه كان في بؤرة الأحداث، على الأقل في النصف الأول من 2011، وطرفًا مهمًا في نصفه الثاني.
ولأنَّ زياد نفسه كان طرفًا مهمًا في هذا الائتلاف، نحتاج أن نعرف كيف يرى هذه التجربة، وكيف تراها الأطراف الأخرى التي شاركت فيها. نريد أن نعرف لماذا عجز هذا الائتلاف عن تجاوز كونه آلية للتنسيق والدعوة للاحتجاجات في مستهل الثورة، ثم جزءًا من آلية أكبر، ضمت أحزابًا وحركات أخرى بداية من الاعتصام الكارثي في يوليو/تموز 2011، ولماذا لم يستطع تكوين جبهة سياسية حقيقية، تقود وتنظم وتستوعب كلَّ من كان يحمل روحه على كفه وقتها، حالمًا بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية.
نحتاج لتحليل الاختيارات والأفكار التي تبنتها تلك الجماعة اللامتجانسة، ومحاولة فهم التباينات والأجنحة التي تشكَّلت بداخلها، حتى نعرف ما إذا كان هناك ما يجمع بينهم حتى الآن، أم أنهم تحولوا لفرقاء، اختار كلٌّ منهم مسارًا وطريقًا مختلفًا، يشاركه فيه أُناس لا يجمعه بهم ذلك الخيط الواهي المُسمى بجيل يناير؟
التفكير في الماضي هو الأساس الذي يجب أن تُبنى عليه أيُّ نظرة للمستقبل. وإلّا تحوَّل كلُّ مستقبل لصورة أكثر تشوهًّا من الماضي.
زياد أيضًا عضو مؤسس في الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، وهو الحزب الذي كان طرفًا مهمًا في تحالف "الكتلة المصرية" الانتخابي لبرلمان 2012، وكذلك في جبهة الإنقاذ، ذلك التكتل السياسي الذي تشكل في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، بعد الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس، وقتها، محمد مرسي.
كما كان الحزب عضوًا في "تحالف 30 يونيو" الذي أعطى غطاءً سياسيًا لما حدث في الثالث من يوليو 2013، وفي "التيار المدني الديمقراطي" وهو تحالف شكّلته أحزاب سياسية لخوض الانتخابات البرلمانية 2015، وفي "الحركة المدنية الديمقراطية" التي تأسست في ديسمبر/كانون الأول 2017، ولا أعرف حتى الآن ما إذا كانت حركة احتجاجية أم آلية تنسيق أم جبهة ديموقراطية أم تحالفًا انتخابيًا.
يهمني معرفة رأي زياد في هذه التحالفات، لحظة إعلانها والآن؛ تكوينها، آلية اتخاذ القرار داخلها، وما كانت تدافع عنه وكيف.
الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي شارك أيضًا في الحوار الوطني، رغم أنَّ العليمي نفسه لم يشارك. ورئيس الحزب فريد زهران ترشح في الانتخابات الأخيرة، ولكنَّ زياد كشخص لم يعلن تأييده له. يهمني أيضًا معرفة رأيه في الأمرين، وفي تجربة الحزب بشكل عام؛ طبيعته ولائحته وبرنامجه السياسي، وما بقي من كلِّ ذلك.
هل العلوم حيادية؟
استطرادًا لفكرة انشغال الشباب بالماضي بدلًا من الالتفات للمستقبل، يقول زياد إن الشباب "فقدوا ميزتهم النسبية، وهي قدرتهم على التفاعل مع وسائط حديثة".
العلم يصلح في الفيزياء والكيمياء والسباكة لكنَّ السياسة انحياز.. ما هو الانحياز الذي ندافع عنه بـ"العلم"؟
أنا واحدة من الناس منحازة جدًا للتكنولوجيا، خاصة في استخدامها كأداة ديمقراطية للدعاية والتوثيق والتنظيم والتواصل والمناقشة والاجتماع واتخاذ القرارات بشكل ديمقراطي حقيقي. دائمًا وأبدًا يحتاج المناضلون لاستخدام أحدث التقنيات لتحقيق أهدافهم. وتزداد الحاجة للاستخدامات السياسية للتكنولوجيا في ظل النظم القمعية مثل نظامنا الذي حرَّم علينا الشارع، ومنعنا من التنظيم والاجتماع ومن التعبير عن آرائنا.
أرى أننا لم نبذل الجهد الكافي في هذا المجال، لكن علينا أيضًا أن نضع موضوع التكنولوجيا هذا في حجمه.
التكنولوجيا جميلة وحلوة، لكنها مجرد أداةٍ وساحةٍ أخرى للمعارك بين من يدافعون عن الحرية والعدل والمساواة، والنظم القمعية والشركات الرأسمالية الكبرى التي تسعى لتحويل المجال إلى مجرد سوق تتراكم فيها الأرباح. المهم هو فيمَ ستُستخدم التكنولوجيا، وكيف؟ ما هو المشروع السياسي الذي ستكون التكنولوجيا من أدواته؟ الاشتباك مع هذه الأسئلة هو ما يعطي ميزةً نسبيةً لمن يقوم به، شابًا كان أو كهلًا.
يؤكد زياد على الميزات النسبية في موضع آخر حين يقول "رأيت أنَّ الميزة الرئيسية للتيارات المدنية اعتمادها العلم وحده في الرصد والرؤية وتحديد المشاكل وحلولها. ودون هذا المنهج تفقد القوى المدنية ميزتها النسبية، بل الرئيسية".
هل يدافع زياد عن العلم في مقابل الخرافة؟ لو اقتصر الموضوع على هذا الأمر يبقى تمام. لكنَّ طرح استخدام المنهج العلمي كميزة سياسية، يجعلني أتحسس مسدسي. ويجعلني أفكر في وهمٍ آخرَ سائدٍ للأسف؛ هناك نسبة معتبرة تعتبر السياسة علمًا، وتعتبر إن فيه ناس شاطرة فيها وناس لأ. وإن حل المشكلات السياسية يتلخص في إننا نجيب واحد شاطر يحل الموضوع.
آسفة يا جماعة، السياسة ليست مهارة؛ الموضوع لا علاقة له نهائيًا بمَن تخصص في دراسة السياسة، ولا مَن تخرج بامتياز، ولا مَن كان أستاذًا ورئيس قسم، ولا مَن اشتغل في الأمم المتحدة. موضوع العلم والمهارة يصلح في الفيزياء والكيمياء والجبر والسباكة لكن لا علاقة له بالسياسة. السياسة انحياز؛ الشخص الذي سيستخدم المنهج العلمي في السياسة عمَّ سيدافع، وعن أي مصالح سيعبّر؟
سؤال ثانٍ تستدعيه جملة زياد؛ هل "مدنية" في جملته هي عكس "عسكرية"؟ أم أنها، كما تستخدم في الأوساط السياسية المصرية، مقابل لـ"دينية"، تجنبًا لاستخدام "علمانية"؟ ما هي القوى التي يقصدها زياد؟ هل جبهة الإنقاذ كانت "مدنية" لأنها كانت ضد الإخوان؟ هل تحالُف 30 يونيو، الذي تحالَف مع الجيش، كان مدنيًا؟ هل التيار "المدني" الديمقراطي والحركة "المدنية"، كيانان "مدنيان"؟
بشكل عام أحب أن أعرف ما هي القوى العلمانية في مصر، التي -باختصار مُخل- ترفض المادة الثانية من الدستور، وترغب في دولة ينعم كلُّ أبنائها بمواطنة كاملة، لا تمييز فيها على أساس الدين أو العرق أو الطبقة أو النوع أو الهوية والميول الجنسية. وما هي القوى المدنية؟ تلك التي لا ترى مكانًا للجيش سوى الثكنات؟
هذه بعض معايير الفرز السياسي.
يقول زياد إنه أمضى سنوات في تأمل ما حدث ومناقشته، ودراسة تجارب تغيير مختلفة، في محاولة رؤية مكامن الخطأ وكيفية تجاوزه، وبناءً عليه رأى أن واجبه يحتِّم عليه تقديم مراجعات. قرأت المقالات الخمس جميعها، ولكني للأسف لم أجد أي مراجعات. ربما أكون وجدت مكامن الخطأ من وجهة نظر زياد والحل من وجهة نظره. ولكنَّ هذا موضوع آخر.