أعتبر نفسي من أوائل مَن دعوا أبناء يناير إلى بدء عملية نقدٍ ذاتيٍّ ومراجعات. في أواخر 2016 نشرت مقالًا مطولًا في "مدى مصر" بعنوان "أشباح يناير التي تنتظر المراجعة والنقد الذاتي"، حاولت فيه إيضاح أهمية وإلحاح هذا الأمر لكل القوى السياسية التي كانت فاعلةً في ثورة 2011، واعتبرت وقتها أنَّ النقد الذاتيَّ شرطٌ لا بد منه، لاستعادة السياسة في مصر مرة أخرى، وأننا لن نتمكن من تلمِّس أيِّ طريقٍ واضحٍ في المستقبل، من دون التوقف جيدًا أمام ثورة يناير وجملة الممارسات السياسية التي صاحبتها.
أحد دوافعي الرئيسية للكتابة وقتها كان إدراكي أنَّ التأخر في هذه العملية سيهشِّم تمامًا ما تبقى من أطياف الثورة المهزومة. أتذكر جيدًا عندما قلت لمحمد القصاص، فك الله أسره، أننا بدون هذه العملية سنصبح عاجزين في المستقبل عن مواجهة بعضنا بعضًا من فرط الخجل، شهور قليلة وغُيِّب محمد القصاص في السجن وغبت أنا في غربة طويلة.
لم أستسغ في أيِّ وقت تحميل قمع السلطات العاري وحده مسؤولية الاجتثاث السياسي لقوى المعارضة في مصر، ولطالما اعتبرت ذلك محاولة للدوران بشكل لا نهائي في دوامات المظلومية، وإعفاءً مجانيًا للذهن والوجدان من مكابدة حقائق لا يمكن الهروب منها. بل هو في الواقع إعلان انتصار السلطة القمعية المظفر، بالرضوخ المهزوم لمنطق أنَّ القوة والغلبة فقط يسببان النصر أو الهزيمة، خاصة وأنَّ كثيرًا من التجارب السياسية عبر التاريخ عانت من مستويات متشابهة من القمع الذي لم يثنِها عن المراجعة والنقد الذاتي كنقطة انطلاق للتماسك والمقاومة.
تفاعل وقتها مع ما كتبته الناشط والطبيب وليد شوقي وكتب مقالًا من جزأين في موقع مدى مصر، عن تجربته السياسية في حركة 6 أبريل، وهي حركة مهمة تستحق التأمل والتدقيق نظرًا لتفردها الشديد على المستوى الحركي والتنظيمي في عالم ما قبل ثورة 2011.
وخلال الشهر الماضي كتب الصديق والرفيق زياد العليمي سلسلة من المقالات نشرتها المنصة، حاول فيها زيارة ما أضحى ماضيًا وتاريخًا الآن، من أجل استخلاص بعض الدروس للمستقبل. وخطوة زياد هذه، بالرغم من أنها جاءت متأخرةً بعد أن شبَّت أجيال في ظل العهد الحالي لا تعرف عمَّا حدث إلا شذرات متناثرة، فإنها تظل شديدة الإيجابية، قياسًا بصمت السواد الأعظم من الفاعلين السياسيين.
المواقع السياسية التي شغلها العليمي لم تتجاوز كونه عضوًا في ائتلاف شباب الثورة وأحد الوكلاء المؤسسين للحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي. لذا فهو حين يكتب سلسلة من المقالات استنادًا إلى هذه المواقع والتجارب، علينا أن نتأمل ونتعجب، من رؤساء أحزاب ومرشحي انتخابات رئاسة ووزراء سابقين، تعاملوا مع كل ما حدث كما لو كان مجرد إنجاز شخصي في سيرة ذاتية، على حد وصف محمد عثمان في مقاله المهم المنشور عام 2014.
مراجعات سيئة السمعة
قد يرى البعض عمليات المراجعة والنقد الذاتي من مظاهر الاستسلام للسلطة والانكسار أمام جبروتها، نظرًا للسمعة السيئة التي صاحبت تجارب المراجعات القليلة التي شهدتها مصر، والتي أُجريت جميعها في أجواء من القهر والتنكيل.
فاليسار المصري مثلًا قدم مراجعاته الوحيدة في سجون عبد الناصر منتصف ستينيات القرن الماضي، ونتج عنها قرار تاريخي بحل الحزب الشيوعي المصري نفسه وانضمام أعضائه فرادى إلى الاتحاد الاشتراكي والتنظيم الطليعي.
كثيرون من أبناء عالم يناير أصبحوا خارج المشهد السياسي وأقلية منهم تلتحق به من مواقع انتهازية
أما التجربة الأبرز فكانت مراجعات الجماعة الإسلامية في سجون مبارك عام 1997، وجاءت باسم "مبادرة وقف العنف"، فأُجريت في أعقاب اتساع دائرة عنف مرير متبادل بدأ باغتيال الشرطة لعلاء محيي الدين، المتحدث الإعلامي باسم الجماعة الإسلامية، لترد الأخيرة باغتيال رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب الأسبق، وتبدأ عشرية عنف التسعينيات الذي بلغ ذروته في مجزرة الدير البحري بالأقصر عام 1997.
بالتالي، لم يسبق وقامت قوى سياسية، أو الدولة نفسها، بأي عمليات نقدٍ ذاتيٍّ ومراجعة إلا في أجواء اضطرارية. وعليه أصبح العناد والجمود نوعًا من الثبات على المبدأ وتحمّل المحن، وصارت التضحية والمعاناة المعيارين الأساسيين للجدارة السياسية، وليس صواب الرؤية أو وضوحها، وهذا بالذات جزءٌ رئيسيٌّ من ذهنية ونفسية جماعة الإخوان المسلمين، مثلًا.
أدى هذا أيضًا إلى معاناة السياسة في مصر من مرض انقطاع الخبرات، وعدم نقلها بشكل سوي وسليم من جيل لآخر، مما أدى إلى دائرية التجارب وتكرارها بأخطائها نفسها؛ حراك ثوري يأتي ومعه أمل في التغيير وإسهامات ذكية وخلاقة ومتفائلة، ثم إخفاق سياسي، يختفي إثره الفاعلون الأساسيون في التجربة بين السجون والمنافي والإحباطات، ثم الصمت المرير، لتعود الدائرة ذاتها مرة أخرى بعد عقدين أو ثلاثة، من قِبل فاعلين جدد يتصورون أنهم يكتشفون الثورة والحرية والإمكانية لأول مرة في تاريخ هذا البلد، وهكذا دواليك.
حدث هذا لتجربة ثورة 1919، التي صمت وانكفأ أغلب قادتها الحقيقيين، ولم يتبقَّ منهم في المشهد السياسي بعد الحرب العالمية الثانية إلا من غيَّر مبادئه بالكلية وأصبح جزءًا من حسابات السراي والإنجليز. الأمر نفسه حدث مع تجربة الحراك السياسي الثري بين 1946 و1952، الذي انتهى بالانقلاب العسكري في 23 يوليو. وتكرر الأمر في جيل الحركة الطلابية 1968-1977 الذي أنتج تنظيمات سياسية وحركية مهمة، انتهى أغلبها من دون أن يقدم أغلب قادتها سيرتها بالشكل والتفصيل اللائق.
هذه الانقطاعات المستمرة هي التي أفضت في النهاية إلى تشكيل الحراك الذي بدأ عام 2005 مع حركة كفاية ووصل ذروته في ثورة يناير. ذلك الحراك الذي يمكن وصفه بأنه حراك بلا ذاكرة، أنتج في الأخير حالة حركية غير سياسية، كلفت ثورة يناير الفتية إمكانية نجاحها.
كثيرون الآن من أبناء عالم يناير أصبحوا خارج المشهد السياسي، وأقلية منهم تلتحق به من مواقع انتهازية، وأقلية أخرى تحاول لملمة ما يمكن لملمته. لكنَّ الأكيد في كلِّ الأحوال أنَّ الشروع المنظم في إجراء مراجعات فكرية وأشكال مختلفة من النقد الذاتي هو أمر أكثر منطقية وعقلانية من الالتحاق بما تقدمه السلطة الحالية من آفاق شديدة الضيق للاشتباك السياسي، بلغ حدوده القصوى فيما سُمِّي بالحوار الوطني.
نحن في حاجة شديدة إلى هذه الجهود، وسأحاول في مقالات مقبلة الاشتباك مع ما قدمه زياد العليمي ووليد شوقي وآخرون ممن خطوا تلك الخطوة، مع الدعوة المستمرة لوجود آلية تجعل من هذه الممارسة أكثر اتساعًا وتنظيمًا وحريةً واستقلالًا، مع كامل الإدانة لكل صاحب تجربة يبخل بخلاصتها للأجيال القادمة لأسباب انتهازية وحسابات ضيقة، أو تهربًّا من نصيبه من المسؤولية.