برخصة المشاع الإبداعي: Alisdare Hickson- فليكر
شاب في مواجهة قوات الشرطة العسكرية بميدان التحرير 2011

لم ننجح هذه المرة| مراجعة غير نهائية من موقع الفاعل الأصلي

منشور الأحد 28 يناير 2024 - آخر تحديث الأحد 28 يناير 2024

توطئةٌ لمقدمةٍ لا تزالُ صالحةً رغمَ السنين

كتبت هذه المراجعة عن ثورة يناير وكان من المفترض أن تُنشر كسلسة من المقالات في يناير/كانون الثاني 2020، لكن حالت ظروف سجني دون نشرها. لم أنشرها وأنا قيد السجن لأننا ندفع ثمن اختياراتنا بشجاعة، ولم أرغب أن يحكم أحدٌ على مراجعتي وكأنها نتيجة ظروف الاحتجاز.

كما لم أنشرها في ذكرى الثورة في يناير الماضي، وكنت خرجت فعلًا من السجن، ليقيني أنَّ ثلاث سنوات ونصف السنة في زنازين معزولًا عن المعلومات، وحتى عن الصحف اليومية، يجب أن تتبعها فترةٌ أطول لاستيعاب ما حدث خلال تلك السنوات، ومراجعة ما كتبتُه قبلها؛ لمعرفة ما إذا كان بعدُ صالحًا، أم حدث ما قد يغير استنتاجاتي.

بعد خروجي من السجن وتأمل السنوات، وجدت أنَّ الأحداثَ المتعاقبةَ حصادٌ لنتائج المقدمات التي سبقت سجني.

لذلك قررت أن أنشرها بحالتها.. دون تدخل.


طوبى لمناضلين لم يصلوا إلى السلطة

​طعم الهزيمة مرّ، لكنَّ مرارته تتضاءل أمام مرارة انتصار يصنع منك مجرمًا جديدًا. الآن، أصبحت أظنُّ أنَّ حُسن طالع أبناء يناير حال بينهم وبين الوصول إلى السلطة!

هذا الفشل في الوصول إلى السلطة أصبح من أهم نقاط قوة شباب الثورة. فمن لم يتورط في معادلة الحكم أصبحتْ لديه فرصةٌ أفضل لمتابعة الأمور ومآلاتها من مسافة تسمح له بالمشاركة فيما يحدث، لكن دون مسؤولية عن قرارات قد تغير حياة الناس في السنوات الصعبة. تلك السنوات التي شهدت سيولة سياسية قاسية على مجتمع لم ينفض عن نفسه بعد آثار العقود الطويلة من الاستبداد.

كما تصدرنا لمحاولة التغيير بشجاعة علينا أن نتحمل مسؤوليتنا عن مآلات الثورة بشجاعة

أثمرت فرصة التعلم وارتكاب أخطاء جديدة إضافات معرفية وخبرات جديدة؛ يمكنها أن تصبح الأرضَ الصلبةَ التي يقف عليها جيلٌ عركته التجارب، وأصبح يعرف مكامن الخطر، وكيفية تجنيب البلاد السقوط فيه عندما يحين دوره للمشاركة في وضع وتوجيه سياسات البلاد.

لم يعد المنتصرون ينفردون بكتابة التاريخ

منذ النصف الثاني لعام 2011 حتى الآن، يسيطر على العقل الجمعي للجزء الأكبر من أبناء يناير أن المنتصرين وحدهم يكتبون التاريخ، بالكيفية التي يرونها. هذا الاتجاه دفع شباب يناير لخوض معارك طويلة لفهم وتحليل ما حدث قبل وأثناء وبعد يناير. وفي هذه المعارك حول الماضي فقدوا ميزتهم النسبية، وهي قدرتهم على التفاعل مع وسائط حديثة، وانشغلوا بالماضي بينما كان من المفترض أن يفكروا في المستقبل.

كانت فكرتي الأولى أنَّ التاريخ لم يعد "يُكتب الآن"، بل أصبح محفوظًا بالصوت والصورة وعبر وسائط متعددة، لا يمكن أن يسيطر عليها المنتصر وحده.

ثم تبلورت فكرتي الثانية أنَّ يناير ليست أولى محاولات شعبنا لوضع دولته على طريق الدولة الحرة المستقلة؛ القائمة على أساس المواطنة وعمادها الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ولن تكون آخر تلك المحاولات.

لم تنجح ثورة يناير في تحقيق أحلام شعبنا بسبب تآمر المنتفعين من الفساد والاستبداد، لكن يتحمل أبناؤها الجزء الأكبر من هذا الإخفاق، لعجزهم عن حماية حلمهم! 

وكما تصدرنا لمحاولة التغيير بشجاعة، علينا أن نتحمل مسؤوليتنا عن مآلات الثورة بشجاعة.

​هاتان الفكرتان سيطرتا عليَّ لسنوات، ودفعتاني للتفكير فيما حدث وما يحدث، والسبل والطرق البديلة التي يجب أن نطرقها لنتلافى أخطاء الماضي، ومحاولة بناء الدولة التي نحلم بها ويستحقها شعبنا في المستقبل.

من موقع الفاعل الأصيل

هذا الطريق الذي امتد بي لسنوات تأملت خلالها ما حدث، وحاولت تسليح نفسي بدراسة تجارب تغيير مختلفة في دول العالم، وما يستلزمه ذلك من اطلاع وسفر وقراءات ودراسات ومناقشات في محاولة للمساهمة في رؤية مكامن الخطأ وكيفية تجاوزه.

​أعلم جيدًا أنَّ أيَّ محاولة لنقد يناير، قد تُواجَه بموجة عارمة من الهجوم من أبنائها، خاصة عندما يصدر هذا النقدُ من المنتفعين بالفساد والاستبداد. 

لكنني أحد من ساهموا بدور قيادي في مسارها ومآلاتها. وأحد أبنائها الذين يشعرون أنَّ المساهمة في يناير ستظل وسامًا على صدري حتى مماتي. وأحد المؤمنين بأهدافها، المستعدين لأن يدفعوا حياتهم ثمنًا لتحقيقها. وواحد من آلاف دفعوا ثمن إيمانهم بطريق ديمقراطي يستحقه شعبنا للتنمية والعدالة.

لذلك أرى أنَّ واجبي يحتِّم عليَّ تقديم هذه المراجعات، لا من مقعد المتفرج أو المحلل، بل من موقع الفاعل الأصيل، الذي يحاول أن يتحمل نصيبه من المسؤولية عما حدث، ويتأمله ويحاول استخلاص دروسه. 

هدفي من هذه المقالات أن تكون بداية مراجعة حقيقية لكل الأطراف الفاعلة من القوى المختلفة التي شاركت في يناير، سواء من موقع المؤيد أو المعادي، لنفتح سويًا أفقًا جديدًا لمستقبل وطن يتسع للجميع على اختلافهم.

أكتب هذه المقالات بينما تتردد في ذهني كلماتُ الشاعر الكبير أمل دنقل:

آه ما أقسى الجدار

عندما ينهض في وجه الشروق

ربما ننفق كل العمر.. كي ننقب ثغرة

ليمرَّ النور للأجيال.. مرة

ربما لو لم يكن هذا الجدار..

ما عرفنا قيمة الضوء الطليق

في وقتنا الراهن لم يعد المنتصرون ينفردون بكتابة التاريخ، نحن أيضًا مدعوون للكتابة والمراجعة والتحليل. ولأنني أحد أبناء يناير الذين لم ينجحوا في حماية حلمهم، أبدأ في مراجعة حقيقية لما جرى من موقع الفاعل الأصيل، بهدف تحديد الأخطاء التي وقع فيها معسكر يناير، واستخلاص العبرة من الماضي، فيما تتطلع عيوننا إلى المستقبل.

في المقال التالي أقدم محاولةً لفهم ظاهرة الحنين إلى أيام "يناير القديم" في انتفاضة الخبز، و"يناير الجديد" في 2011، والشروط التي يجب أن تنطلق منها أيُّ مراجعة للدور الذي قام به معسكر يناير.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.