بالتزامن مع الذكرى الأخيرة لثورة يناير، نشرت المنصة سلسلة مقالات للمناضل السياسي، وعضو ما عُرف بـ"ائتلاف شباب الثورة"، زياد العليمي.
لأسباب متعددة، تفاءلتُ بمجرد الإعلان عن اقتراب نشر هذه المقالات التي كتبها زياد، قبل اعتقاله، كمراجعة لبعض جوانب الثورة المصرية، باعتباره أحد فاعليها الأساسيين، وأنه قرر نشرها الآن دون تعديل.
فمن ناحية، يحظى زياد عندي وعند الكثيرين، باحترام وتقدير، واعتزاز به وبمواقفه الثابتة. وأعتقد أنه أحد القليلين الجادين، والمخلصين لأفكارهم ومسارهم، من بين كثيرين تصدروا الصفوف الأولى خلال الثورة.
كما ارتبط هذا التفاؤل، من ناحية أخرى، بأنَّ زياد، بصفته أحد الفاعلين الأساسيين في ثورة يناير، لديه المعرفة والقدرة على فتح ملفات ظلت مغلقة طيلة السنوات الماضية، تتعلق بما كان يحدث في الكواليس. لا بدافع النميمة، بل لمعرفة أحداث ومواقف وصراعات وتباينات في المواقف وتوازنات القوى، بقيت دائمًا في السر، غائبةً عنا، نحن من نستحق معرفتها كونها شكلت مسارات حياتنا. و"نحن" هنا عائدة على مجمل المواطنات والمواطنين المصريين.
هذا المدخل ضروري حتى لا يُساء فهم هذا الاشتباك النقدي مع ما كتبه زياد العليمي، وهو اشتباكُ من ينظر باهتمام إلى مراجعات سياسيٍّ جادٍّ يرغب في فتح النقاش بوضوح وشجاعة، خاصةً وأنه كرر هذه الدعوة في سلسلة مقالاته وخارجها، انطلاقًا من هم حقيقي بالبحث عما يسميه بـ"الخطأ"، لتجنبه مستقبلًا.
هذا المدخل ضروري أيضًا، ليس فقط لتجنب سوء الفهم، بل للاعتراف بأنني أُصبت بالإحباط بينما يتوالى نشر هذه السلسلة لسببين؛ الأول أن زياد لم يروِ ما كنت أنتظر أنا وغيري أن يرويه عن هذه الكواليس، لنستخدم مادتها في تأمل ما حدث وفهمه. والسبب الثاني المنهج الفكري والسياسي الذي حكمه في هذه الكتابة، وبدا واضحًا من تصوراته عما يسميه بالأخطاء.
فخ ضمير الجمع
العنوان الموحد لسلسلة المقالات الخمس، هو "لم ننجح هذه المرة". يحيل ضمير الجمع في العنوان، الذي يتكرر استخدامه داخل النصوص، إلى طرفٍ/فاعلٍ ما، كان من المفترض أن ينجح، لكنه فشل في تحقيق هذا النجاح. محاولة تحديد هذا الطرف/الفاعل يقود إلى إحدى المشاكل الأساسية في هذه المراجعات. فأحيانًا لا نعرف، كقراء، من المقصودين بالـ"نحن"، وأحيانًا أخرى يصدمنا تحديد هؤلاء.
هذه ليست مسألةً شكليةً أو تقنيةً متعلقةً بالكتابة، بل مشكلة في جوهر رؤية زياد، تدفعه لاعتبار كلِّ المنتمين ليناير؛ الفاعلين في الصفوف الأولى مثله، والمجهولين تمامًا، متساوين تضمهم وحدة ما. وهو افتراض غير منطقي وغير صحيح. فيناير، كأيِّ عمليةٍ ثوريةٍ ذات طابعٍ شعبيٍّ واسعٍ، ضمت الكثير من الأطياف والتوجهات السياسية والفكرية، بينها كم هائل من التناقضات الكبرى.
ربما اتفقت هذه الأطياف على هدف محدد خلال الثمانية عشر يومًا الأولى للثورة؛ إسقاط رأس النظام وعصابته وعائلته، لكنها لم تبنِ هذا الاتفاق المرحليَّ بصفتها كتلةً واحدةً، تتصرف بناء على منهجٍ سياسيٍّ أو فكريٍّ موحد. ناهيك عن أنَّ من يحتلون الصفوف الأولى تقع عليهم مسؤوليات ومهام لا يتحملها من يصطفُّون في نفس المعسكر ولكن من الصفوف الخلفية، سواء كان ذلك إجبارًا أو اختيارًا.
هذا الاتفاق على الهدف الأساسي خلال الثمانية عشر يومًا الأولى، الذي انتهى مساء يوم 11 فبراير/شباط بخلع المجلس العسكري لمبارك، هو ما يدفع زياد على الأغلب لاستخدام هذه الـ"نحن"، وقد يكون أحد العوامل التي تفسر رؤيته المختصرة للثورة المصرية باعتبارها تشغل المساحة الزمنية للثمانية عشر يومًا. وصولًا لرؤيته بأن التسليم بهذه الحياة الزمنية القصيرة للثورة شرط لأي مراجعة جادة.
يختلف الكثيرون مع هذا التصور، وأنضم إليهم، منحازًا لحقيقة أخرى هي أنَّ الثورة المصرية ضمَّت صراعات ومعارك في مواقع مختلفة، لمدة تقارب السنتين ونصف السنة، وصولًا للهبَّة الشعبية التي انتهت بما حدث في 3 يوليو/تموز 2013.
وفي كل الحالات، الاتفاق على هدف مرحلي خلال ثلاثة أسابيع، لا يبرر استخدام الـ"نحن" التي تساوي بين الجميع.
يكرر زياد أنه يبحث، ويدعو الآخرين للبحث معه، عما يسميه بـ"مكامن الخطأ". فيتطور هنا فخ الـ"نحن"، ليخرج من منطقة الالتباس والتعميم، ليصل لمنطقة المفاجأة، أو ما أسميته سابقًا بالصدمة، حين يؤكد على أن هدفه من هذه المراجعات التي ينشرها "أن تكون بداية مراجعة حقيقية لكل الأطراف الفاعلة من القوى المختلفة التي شاركت في يناير، سواء من موقع المؤيد أو المعادي، لنفتح سويًا أفقًا جديدًا لمستقبل وطن يتسع للجميع على اختلافهم"!!
توسعت الـ"نحن" لما هو أبعد من القوى والفئات الاجتماعية المختلفة التي غامرت بحياتها وأمنها في الثورة، لتصل لأعدائها. وهذا الاتساع لا بد وأن يؤدي لفتح دائرة التأمل والمراجعة والبحث عن الخطأ لتضُمَّ أصحاب السلطة أو المنتفعين منها. وهو طموح شديد الغرابة ومستحيل التحقق؛ أن يشاركك عدوك مراجعة أخطائك التي ارتكبتها خلال صراعك معه، لتتجنبها في المستقبل وتتمكن من إزاحته عن السلطة، ومحاسبته، أو بالأحرى أن يحاسبه أصحاب المصلحة عن الجرائم التي ارتكبها ضدهم، بكل أنواعها.
هذه التصورات الطوباوية ليست أخطاءً في الصياغة، لكنها مشاكل في المنهج الذي يستخدمه العليمي، الذي يفتقد ليس فقط إلى الواقعية، بل لما هو أهم منها؛ الأساس الاجتماعي والفكري الواضح للمراجعات.
نعمة أن تكون فاشلًا
لا ينكر زياد في صُلب مراجعته وعناوينها أنه كان فاعلًا أصليًا في يناير. ويجاهر صراحةً بأنه ممن يتحملون مسؤولية الأخطاء والإخفاق وعدم النجاح. لنتوقف سريعًا أمام مقاربة النجاح/الفشل، المختلفة تمامًا عن مقاربة الانتصار/الهزيمة.
تعبيرات مثل "الخطأ" و"النجاح"، المتكررة في مقالاته، تحيل الذهن والخيال معًا لصورة الولد البليد الذي لم يذاكر ويجتهد بما يكفي، فأخطأ في إجابة أسئلة الامتحان، ففشل في تحقيق النجاح، وكأنَّ الطرف الآخر، زميله أو خصمه الذي نجح، ذاكر جيدًا فتلافى هذه الأخطاء.
عملية "البحث عن الخطأ" التي يقوم بها زياد تختصر هذه المرة العملية الاجتماعية التاريخية الكبرى، المسماة ثورة يناير، ليس فقط في 18 يومًا، بل في معادلة حسابية على الأطراف المختلفة النجاح أو الفشل في حلها بناءً على معطيات ثابتة، وبناء على اجتهادهم.
سؤال الاستيلاء على السلطة هو السؤال المنطقي والحتمي لأي قوى تدخل حراكًا ثوريًا ناهيك عن إشعاله
في الصراعات التاريخية الكبرى وعمليات التغيير الاجتماعي، تعبيرات مثل "الهزيمة" و"الانتصار" تكون أقرب لوصف ما حدث. تنهزم أطراف لأنها لم تمتلك مقومات ومفردات الانتصار، أو بسبب عوامل معقدة أثناء عملية الصراع نفسها. وتنتصر أطراف لأنها امتلكت القوة والمقومات. لا أنفي تأثير الأخطاء التي يرتكبها الأفراد الفاعلون والتيارات السياسية وتأثيرها في الصراعات الكبرى، لكن دون الوقوع في فخ هذه الفكرة الرومانسية، أو الطوباوية، عن النجاح والفشل، والفرد الذي يتحمل مسؤولية الفشل.
ما يلفت الانتباه هنا أن الفاعل الأصلي، المستعد لتحمل مسؤوليته، يشكر الحظ في بداية مراجعاته لأنَّ أبناء يناير لم يصلوا للسلطة أو الحكم، بصيغة تحيل إلى تصور فانتازي لا يوجد ما يؤكده، مفاده أنهم لو كانوا وصلوا للسلطة كانوا سيرتكبون جرائم مثل غيرهم. يظهر فخ الـ"نحن" من جديد، فمن هم هؤلاء الذين نسميهم "أبناء يناير" ولم يصلوا للسلطة؟! وما هي الطبقات الاجتماعية التي ينتمون إليها أو يعبرون عنها لتحملهم إلى الحكم؟!
سؤال الاستيلاء على السلطة هو السؤال المنطقي والحتمي لأي قوى تدخل حراكًا ثوريًا، ناهيك عن إشعاله بإطلاق الدعوة الأولى للنزول يوم 25 يناير. وهي إحدى مشاكل مراجعات العليمي، لأنَّ هذا السؤال يأتي أحيانًا في مقالاته بهذا المنطق: إننا لم نتحمل أي مسؤولية سياسية، فقد تحملها، أو احتفظ بها، آخرون. دون أن نفهم كيف افترض أبناء يناير أن تتحقق أحلامهم وطموحاتهم التي جعلتهم يغامرون خلال الثمانية عشر يومًا وبعدها؟! أو كيف تصل حفنةٌ من الشباب المتجمعين في ائتلاف، في وسط "السَلَطَة" شديدة التنوع للثورة المصرية، للسُلْطَة؟!
لكنَّ السؤال المركب المضاف لحتمية الطموح في السلطة، مُوجع أكثر هنا، فهل يستطيع أحد شكر الحظ الحسن الذي تركه فريسة لسلطة أخرى، بالقتل أو التشريد أو التنكيل أو قطع العيش أو السجن لسنوات طويلة، مثلما حدث مع زياد نفسه، وبدرجات أكثر بشاعة وقسوة مع غيره؟!
الفاعل الأصلي
المسؤولية السياسية (ليس بمعنى امتلاك السلطة، بل القدرة على الفعل والتأثير)، معقدة أكثر في حالة زياد العليمي تحديدًا، لأنه امتلك بعضًا منها بالفعل، بعضويته في الائتلاف الذي كان أحد اللاعبين الأساسيين في تحريك الميدان وتشكيل خطاباته والتفاوض حوله، وكذلك بدوره في تأسيس وعضوية هيئات قيادية في الحزب الديمقراطي الاجتماعي، الذي جلس على مائدة التفاوض عدة مرات مع المجلس العسكري، وعضويته اللاحقة في البرلمان. وهنا تبرز أهمية الكواليس التي لم يبُح بها، لأنها أساسية في فهم ما حدث.
للعليمي ممارسات وخطوات تشير بوضوح إلى أن لديه طموحًا شخصيًا في مجال السياسة، أن يكون سياسيًا محترفًا وصاحب سلطة ما. يبدو هذا الطموح من تفاصيل صغيرة، من بينها مشهد خروجه من السجن مرتديًا بذلةً كاملةً، في مشهد جديد تمامًا على مشاهد خروج المعتقلين والمسجونين من زملائه، وتفاصيل أكبر من ضمنها ترشحه المبكر في أول انتخابات برلمانية بعد الثورة.
هذا الطموح السياسي الشخصي مشروعٌ تمامًا في تقديري، بل أكاد أراه ضروريًا. وتصوُّر أنَّ بمقدورك تغيير حياة الناس للأفضل في حالة وصولك لموقع سياسي، مشروع بدوره، لكنه مستحيل. والاستحالة هنا مزدوجة؛ استحالة الوصول، واستحالة تغيير حياة الناس حقيقةً.
يتبدَّى جانبٌ من الاستحالة في أنَّ نجاح/انتصار المشروع السياسي الفردي؛ أن يصل فرد ما إلى سلطة ما دون دعم كتل سياسية واجتماعية كبيرة وصاحبة مصلحة، ممكن، لكن من شروطه أن يكون وراء هذا الفرد كتل أخرى، لنسميها تجاوزًا "قوى كبرى"، كبديل عن تسمية "الدولة العميقة" الشائعة خلال 2011؛ أي مؤسسات سياسية وأمنية وبيروقراطية وشبكات مصالح وفساد، تؤمن بمشروعك الفردي، وتتبناه، وتدفع به إلى الأمام، فتحملك للسلطة. وهو ما لا يتحقق في حالة زياد.
ثم لنفترض أن شخصًا نزيهًا يحمل مشروعًا اجتماعيًا وديمقراطيًا مثل زياد العليمي حقق المستحيل ووصل إلى السلطة، فماذا سيفعل؟! لا شيء. لن يتمكن من تحقيق أي تغيير حقيقي في حياة الناس إن لم يكن مدعومًا بالكتل الاجتماعية والسياسية الكبرى المحرومة تاريخيًا من السلطة، ومن مصلحتها امتلاكها، وتستطيع تفعيل هذا المشروع نفسه، فتخوض الصراع المفتوح من أجله في كل المواقع. وليس الاكتفاء بالتصويت لك في الانتخابات، أو التصفيق لك في مؤتمر سياسي.
التصويت أو التصفيق لا يكفيان. ما يكفي هو أن تكون هذه الكتل الاجتماعية/الطبقية هي الفاعل الأساسي (الأصلي بتعبيرات زياد)، في الصراع خارج المؤسسات، لتفرضه داخلها. وأن تكون هي من تختار ممثليها بطريقة "أورجانيك"/عضوية خلال خوضها للصراع، وليس العكس؛ أن يرى الممثلون أنفسهم جديرين بتمثيلها وعليها هي أن تختارهم. وهو الشرط الأساسي الذي يغيب عن زياد لعمل هذه المراجعات؛ أن يقف في زاوية محددة ليرى منها كل ما حدث. وهذه الزاوية لا يمكن إلا أن تكون الانحياز لطرف اجتماعي وأرضية فكرية محددين بوضوح، بدلًا من "نحن" الهلامية.
لكنَّ إن كان تصوري صحيحًا عن طموح زياد في تشكيل مشروع سياسي جديد يتمحور حوله أو يكون أحد لاعبيه الأصليين، فالأسئلة الإضافية هي هل يريد الوصول للسلطة أم سيكتفي بالتمثيل الرمزي المشرف والمعارضة من داخل النظام؟! وما هي العوامل التي ستحميه شخصيًا من التنكيل أو من أي مصير مأساوي آخر في ظل غياب الكتل الاجتماعية التي تحمل وتبني هذا المشروع؟! أو أنه سيتحول لمجرم مثلما كان المصير الذي يفترضه هو لأبناء يناير إن وصلوا للسلطة وقتها؟!
تنقلنا هذه الأسئلة وغيرها إلى مشكلة كبيرة في منهج مراجعاته ومنطقه السياسي، وهي "الاستبدالية"، التي ستكون موضوع المقال القادم.