بعد انضمام الملايين إلى مطالبك في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، والنجاح في إسقاط رموز نظام قائم منذ عقود، يلحُّ عليك السؤال: ما الخطوة التالية؟
أول إجابة تتبادر إلى ذهنك هي: علينا أن ننفذ ما آمنا نحن، وهذه الملايين، به. علينا أن نحاسب من صنع من بلدنا سجنًا كبيرًا، يقتل ويسجن فيه أبناءه، وينهب ثرواته. علينا أن نحارب كلَّ من يقف أمام أحلام شعبنا بوطنٍ ديمقراطيٍّ عادلٍ. علينا أن نشرع فورًا في تطبيق سياسات تحقق العدالة والحرية لأبناء شعبنا، ونحاسب كلَّ من يقف أو يحاول تعطيل مسيرتنا نحو العدل والحرية.
إنها إجابة منطقية جدًا، لكن التجربة العملية أثبتت أنها لم تكن الإجابة الصحيحة!
لأنَّ أدوات حكم الاستبداد، المصممة لتسهيل مهمة الحاكم في الإمساك وحده بزمام الأمور، لن تدشن وتنفذ وتدير سياسات ديمقراطية لصالح الشعب لو كانت ضد مصلحة الحاكم.
الطريق يحدد قواعد اللعبة
رأينا جميعًا، من خلال تجارب متعددة حفل بها تاريخ بلدنا وتاريخ العالم، من دفعوا ثمنًا باهظًا ليصل إلى السلطة "مستبد عادل".
لن ينسى شعبنا مشهد رموز الحكم وهم يقفون في قفص الاتهام
ورأينا هذا المستبد، حسن النية في بعض التجارب، يصل إلى السلطة، فيسعى لإقامة دولة العدل، ويطيح وينكل بكلِّ من يقف في مواجهة حلم شعبه بالعدل! ومع مرور السنوات، والتنكيل بالأصوات المعارضة بدعوى حماية المصلحة العامة للشعب، تنهض دولة الصوت الواحد الذي يصدح بالعدل، فتنمو حاشية تستفيد من غياب الأصوات المعارضة، لحصد المنافع دون حساب، وبمشاركة "المستبد العادل" في بعض الحالات.
شيئًا فشيئًا يختفي العادل ويبقى المستبد.
ومن تجربتنا الذاتية، تعلمنا أنَّ دور السياسيين في مجتمعات ما قبل الديمقراطية، مثلنا، لا يكون بتطبيق ما يرونه صحيحًا من سياسات، بل بوضع قواعد اللعبة السياسية، التي تضمن أن يكون الجميع طرفًا في عملية صنع القرار.
تعلمنا أنَّ دور السياسيين في فترات التغيير التي تمر بها مجتمعات ما قبل الديمقراطية يتمثل في إرساء القواعد التي تضمن أن يختلف ويتصارع أبناء شعبهم، دون أن يُقتلوا أو يُسجنوا أو يُنكِّلوا ببعضهم البعض.
هذه القواعد تصبح أسس قيام الدولة، وعقدها الاجتماعي الذي لا يجوز الخروج عليه.
ولا تنحصر القواعد في دستور مكتوب لضمانها، بل تشمل خطة عمل لإعادة تأهيل المسؤولين والموظفين العموميين، وطلاب المدارس والجامعات، وكل المؤسسات، لدمج كافة أطراف المجتمع في بناء مجتمع جديد، كجزء من عملية العدالة الانتقالية*، التي كتبت عنها مسبقًا.
بعد وضع هذه القواعد، يمكن أن يتنافس الجميع لكسب ثقة الشعب في السياسات التي يراها صالحة.
لقد أخطأنا عندما وضعنا نصب أعيننا تطبيق سياسات تضمن العدل والحرية، وغفلنا عن أدوات وآليات الحكم! فلا سياسات صحية ومستقرة دون نظام حكم بأدوات ديمقراطية دائمة ومستقرة.
الثورة غيَّرت شخص الحاكم
لا شكَّ أنَّ ثورة يناير أحدثت تغييرًا كبيرًا على الحكام والمحكومين، وأيضًا على مستوى الوعي. لن ينسى شعبنا مشهد رموز الحكم، الذين لم يكن أحدٌ ليجرؤ على الاقتراب من مواكبهم، وهم يقفون في قفص الاتهام. شكلية المحاكمات لا تغير هذه الحقيقة، فالشعب لن ينسى أبدًا صور حكامه وجلاديه وراء القضبان.
لن ينسى شعبنا صيحة الشعب ركب يا باشا. لن ينسى شعبنا، أنه استعاد، ولو لفترة قصيرة، حقه في التعبير والتنظيم. لن ينسى شعبنا قوته الجبارة، القادرة على تركيع أعتى حصون الاستبداد؛ عندما يتوحد في مواجهة من ظلموه.
لن ينسى شعبنا قدرته على الاتحاد، رغم اختلافات أبنائه، حول هدف مرحلي محدد. لن ينسى شعبنا لحظة ذابت فيها حواجز النوع والدين والعرق والحدود الاقتصادية والاجتماعية.
لن ينسى شعبنا شبابًا في مقتبل العمر غادروا الميادين في النعوش، فداء لحرية شعبهم، وقوة واستقلال بلادهم.
ولن ينسى حكامنا رعبهم عندما نهض المارد الذي ظنوه نام للأبد! لن يجرؤ حكامنا على تكرار عبارة "خليهم يتسلوا" بعدما دفعوا ثمنها غاليًا!
تعلَّم حكامنا أساليبَ جديدةً للقمع، وشراء الذمم والوسائط الإعلامية المختلفة، لكنهم لن ينعموا أبدًا بهدوء البال ما دام في بلدنا ظلمٌ. هذه التغييرات، وكثير غيرها، حدثت. ولن يؤثر أيٌّ ما ومن كان، على حقيقة حدوثها، وعدم إمكان تغييرها.
قد يتراجع تأثيرها أو يتقدم، وتبقى الحقيقة العلمية أن "التراكم الكمي يؤدي إلى تغير نوعي". فما حدث ويحدث، يشكل تراكمات في وعي الشعب المصري ـ حكامًا ومحكومين. وتغير أشكال وطبيعة الصراع بين إرادات الحالمين بالتغيير والمعادين له، يمنحنا دروسًا جديدة تضاف إلى الوعي الجمعي، حتى يصل شعبنا لعقد اجتماعي جديد يضمن عدم تكرار أخطاء وجرائم الماضي.
وفي المقابل فشلت يناير في إدارة عملية التغيير ذاتها، بوضع القواعد التي تضمن الاستقرار والتنمية، وتغيير أدوات الحكم، لا شخص الحاكم أو سياسات الحكام، وهي المهمة الأولى التي يجب أن تحتل الجزء الأكبر من تفكير وتحركات من يحلمون بمستقبل آمن وعادل ومستقل.
في النهاية، لا أعتبر هذه المقالات حصرًا لأخطاء معسكر التغيير في إحدى تجاربه، وأفخر بأني أحد أبنائها، لكنها مجرد محاولة للمراجعة والنقد الذاتي، وتحمُّل نصيب من المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع.
حرصت أن تكون مراجعاتي لاستراتيجية التغيير، التي أثرت بالتأكيد في كل تكتيك وموقف اتخذناه خلال السنوات الماضية.
أتمنى أن تكون هذه المراجعة مشجعةً لآخرين من الحالمين بالتغيير، ولبعض من يرون أن بلادنا لا يمكن أن تُدار بغير استبداد، لمراجعة مواقفهم وتحمل مسؤوليتهم أيضًا، لنتعلم من أخطاء الماضي، ونلتف حول المشترك في تجاربنا، لنبني عليه مستقبلًا أفضل يستحقه الوطن، ويحلم به شعبنا.
إذا كنا شجعانًا في قول الحق، شجعانًا عند دفع الثمن، علينا أن نكون أشجع في الاعتراف بأخطائنا وتحمُّل المسؤولية عنها.
* نشر موقع مصر العربية هذه المقالات للمرة الأولى عام 2016، وأعاد موقع درب نشرها عام 2023.