منشور
الأربعاء 7 فبراير 2024
- آخر تحديث
الأربعاء 7 فبراير 2024
أذكر جيدًا حملة "مصر كبيرة عليك" التي أطلقها عدد من النشطاء المناهضين لحكم جماعة الإخوان المسلمين. فرغم أنها لم تحظَ بالانتشار مثل حملات أخرى رفضت حكم الجماعة واجتذبت الملايين، فقد رأيت شعارها في ذلك الوقت مُعبرًا جدًا، فبلدنا، القائم على التنوع، لا يمكن صبغه بالصبغة التي تريدها جماعة الإخوان المسلمين.
لا يمكن لجماعة عقائدية أن تُمثَّل وطنًا بُني تاريخه على التنوع، فأصبح سمةً أساسيةً لحضارته، والمزاج العام لشعبه، والميزة الرئيسية التي تجذب أبناء حضارات وثقافات أخرى ليحيوا على هذه الأرض، ويشاركوا شعبها في تطوير هويته الذاتية.
وحتى نكون منصفين، يجب أن نسأل السؤال نفسه عن النظام الحالي: هل يُعبِّر عن التنوع الثقافي والاجتماعي للشعب المصري؟ هل استثمر هذا التنوع لبناء نهضة ذات طابع مصري خالص، قائم على التنوع الثقافي والعرقي والديني؟ أم أنه لم يفطن لهذا التنوع بعد، ولا يزال يحاول أن يصبغ ثقافة المجتمع كله بما يراه صحيحًا؟ والأهم، هل قام أيٌّ من حكام دولة يوليو بالحفاظ على، أو استثمار، هذا التنوع؟ أم اعتبروه تحديًا يجب القضاء عليه؟
كان جميعهم يؤمنون، رغم صراعهم واختلافهم الشكلي، أنَّ هناك صيغة واحدة في صالح البلاد، وهي التي يجب أن تسود لتستقر الأمور. صيغة يسعى الحاكم لتسييدها، ونبذ واستبعاد كل المخالفين، حرصًا على "سلامة المجتمع المصري" أو "قيم الأسرة المصرية" أو غيرها من المسميات التي تطلقها أدوات إعلامية؛ للإيحاء بأنَّ هناك "شكلًا أمثل" لثقافة المجتمع، يجب أن يسود لتنهض البلاد، واعتبار أيِّ اختلافٍ عن هذا الشكل تهديدًا للمجتمع، تنبغي مواجهته بقوة.
الأطياف المستبعدة
يتحدث أهل مصر حتى الآن لغات، لا لكنات مختلفة؛ من العامية المصرية والفاديكّا والكنوز والأمازيغية إلى القبطية المصرية في القداس والصلوات الكنائسية. وفيما يتعلق بالأديان لدينا المسلمون السنة والشيعة، والمسيحيون الأرثوذوكس والبروتستانت والكاثوليك، واليهود (رغم ندرتهم) والبهائيون، بالإضافة إلى اللا دينيين. هذا هو الواقع الذي لا يملك أيٌّ من كان تغييره، سواء قَبِل به أو رفضه.
وفيما يتعلق بالثقافات، هناك القبائل العربية، التي استوطنت منذ ما يزيد على ألف سنة في عدد من محافظات الصعيد والدلتا، والنوبيون في جنوب مصر، وبدو سيناء، والأمازيغ بامتداد قبائلهم من الصحراء الغربية في مصر حتى المغرب العربي.
وهناك أيضًا التيارات السياسية المتصارعة على السلطة، وكلٌّ منها يدَّعي قدرته على قيادة دفة الوطن منفردًا.
شعار "مصر كبيرة عليك" كان صادقًا عندما أُطلق في مواجهة الإخوان، ويكتسب نفس المصداقية اليوم
فهل يمكن أن ينهض بلدنا باستبعاد أيٍّ من هذه المكونات؟ أو تجاهل وجودها؟ أو محاولة فرض نمط ثقافي واجتماعي بعينه عليها، بادعاء أنَّ هذا هو النمط الثقافي والاجتماعي لأغلبية المصريين، والذي يجب أن يلتزم به الكافة ولا يحيد عنه أيُّ مصري، وإلا أصبح مُهدِّدًا للثقافة العامة المصرية؟
والأهم هو كيف يمكن أن يشعر أبناء هذه الثقافات المختلفة بأنَّ هذا الوطن يجمعهم، ويحافظ على تمايزهم؟ وكيف يؤمنون بهدف واحد يجمعهم؛ أن يشاركوا مع باقي أبناء هذا الوطن، رغم اختلافاتهم، في بناء نهضته.
شباب الثورة ومعضلة "التمثيل المشرف"
الحقيقة أنَّ شعار "مصر كبيرة عليك" الذي كان صادقًا عندما أُطلق في مواجهة جماعة الإخوان المسلمين، سيكتسب المصداقية نفسها في مواجهة النظام الحالي، أو أيٍّ من حكام دولة يوليو. كما سيكون صادقًا أيضًا في مواجهة أبناء يناير، رغم تنوع مشاربهم وخلفياتهم وانتماءاتهم التي لم تعصمهم من الوقوع في أخطاء مماثلة لتلك التي وقع فيها خصومهم.
دائمًا ما يلجأ من يؤمنون بامتلاكهم الحق في تحديد الثقافة السائدة، إلى تجميل صورتهم بضمِّ عددٍ من أبناء الخلفيات والثقافات المختلفة إلى صفوفهم، على سبيل التمثيل المشرف الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها، ويرسخ وجودهم كأقلية، لا كمواطنين كاملي الحقوق في سياق عام يدعم التنوع.
ضمَّ المكتب التنفيذي لائتلاف شباب الثورة منذ اليوم الأول بقرارٍ واعٍ فتاةً مسيحيةً، وشارك في قيادة التحركات المحلية للثورة المصرية مسيحيون، وبدو من سيناء، ونوبيون، وأبناء قبائل عربية بمحافظات الصعيد. بل إنَّ لجنة متابعة الملف النوبي أوقفت في الأيام الأولى للثورة المصرية أيَّ أنشطة خاصة بمطالبات النوبيين، واكتفت بمشاركة إخوة الوطن في مطالبهم. وكانت كنيسة قصر الدوبارة، الملاصقة لميدان التحرير، ملجأً للمصابين حتى تحولت ساحاتها إلى مستشفى ميداني.
لكنَّ كلَّ هذا، رغم حسن النوايا، لم يشكل فارقًا حقيقيًا في طريقة تعامل النظام الحاكم أو قوى المعارضة التقليدية؛ الدينية منها، أو الحديثة التي ضمّت من أطلق عليهم "شباب الثورة"، مع هذا الملف.
"مصر كبيرة" على الجميع!
لن ينجح أيُّ طرف بالقيام منفردًا بأيِّ تحديثٍ للدولة المصرية، ولو حرص على مشاركة الأطراف الأخرى بشكلٍ تشاوري. فأيُّ محاولة للتحديث، يجب أن تسبقها مرحلة تشارك فيها كل فئات المجتمع في صياغة عقد اجتماعي جديد، يضمن إقامة مؤسسات دولة أقوى، وأكثر استقرارًا، من أيِّ نظام حكمٍ يدير هذه المؤسسات في أيِّ وقت. بحيث تضمن تمثيل كافة أبناء شعبنا على أساس واحد هو المواطنة.
لا توجد أي ضمانة لإنجاز هذا التحول الديمقراطي والتحديث، إلا بمشاركة جميع هذه المكونات بشكل فاعلٍ وحقيقيٍّ، في صياغة العقد الاجتماعي الجديد، عبر فترة انتقالية، يشارك فيها الجميع في معادلة الحكم.
لم يكن حكام مصر بعد ثورة يناير وحدهم المسؤولين عن عدم تحديث مؤسسات الدولة المصرية بصورة تعبر عن جميع أبنائها؛ بل أخطأ أيضًا معسكر يناير؛ عندما أيقن وروَّج لفكرة أنَّ "تحقيق أهداف الثورة كفيل بمشاركة كل أبناء الوطن في بناء نهضته"، من دون وضع آليات واضحة لمشاركة الجميع في تحديث مؤسسات الدولة، لتكون قادرة على التعبير عن كلِّ أطياف الوطن المتنوعة، ووضع قواعد تضمن التعامل مع الجميع كمواطنين، لا أغلبية وأقليات.
هناك خطأ آخر لمعسكر يناير، وهو التركيز على تطبيق سياسات تضمن العدل والحرية، وإغفال الحديث عن شكل نظام الحكم، وعن أدوات ديمقراطية دائمة ومستقرة. نجح معسكر يناير في حشد ملايين الحالمين بالعيش والحرية، ثم نجح في إسقاط رموز النظام القائم، لكنه لم ينجح، هذه المرة، في الخطوة الثالثة.. وهذا سيكون موضوع المقال التالي، والأخير، في هذه السلسلة.