بينما كان صوت الثوار يدوي في ميدان التحرير مطالبًا الرئيس حسني مبارك بالرحيل، التقى مدير المخابرات الأسبق اللواء عمر سليمان بمجموعة من شباب الثورة، وآخرين معهم، وطلب منهم تحمل بقاء مبارك في الحكم ثمانية أشهر حتى ينهي مدة رئاسته الخامسة ثم يغادر، وإلا وقع انقلاب عسكري.
يومها خرج ملتقو سليمان يتحدثون عن أن الجنرال كان يهددهم، ولم يقف أي منهم عند حقيقة دامغة تقول إنه لم يكن وزير الدفاع أو رئيس أركان الجيش ولا حتى قائد أحد الجيوش أو الفرق، إنما هو رجل يعتلى جهازًا منوطًا به جمع المعلومات، وليست لديه أي قدرة أو قوة تنفيذية في الواقع، بل لا يملك سلطة الأمر على الجنود الذين يحمون المبنى الذي يحوي مكتبه، إنما هؤلاء يتلقون كل أوامرهم من ضابط القوات المسلحة المسؤول عن تحديد مهامهم، وتنظيم نوبتجياتهم، والقيام على كل شؤون تجنيدهم وتسريحهم حين تنقضي مدد خدمتهم.
كان سليمان على اطلاع بالطبع على موقف الجيش من مبارك، ولم يكن قادرًا على أن يوضح ما قاله أو يشرحه تفصيلًا، لكن الثوار الذين كانوا يعرفون مهابة مبارك بين العسكريين، بوصفه أحد أبطال أكتوبر والقائد الأعلى للقوات المسلحة، فسّروا كلام سليمان على أنه تهديد بانقلاب على الثورة بغية إبقاء مبارك في عرشه.
نسي الثائرون أيامها ثلاثة أمور أساسية، الأول هو أن قيادة الجيش ليست المشير طنطاوي منزوع الطموح أو القدرة على التمرد، إنما من بينها من يؤمن بضرورة استمرار الحكم بيد المؤسسة عطفًا على ست عقود مضت.
والثاني أن الجيش لا يمكنه أن يصطف إلى جانب مبارك إن استمر الرفض الشعبي له، لأن من شأن ذلك أن يؤثر سلبًا على القيمة المركزية عند القوات المسلحة وهي "التماسك"، لا سيما أن أغلب القوام العددي لها من المدنيين المجندين.
والثالث هو أن الجيش لا تغمض عينه عن "شرعية يوليو 1952"، التي أسست لوجوده المباشر في الحكم، وأن ثورة يناير حال نجاحها تماما ستضع حدًا لتلك الحقبة.
استمر سوء الفهم ذلك أيامًا، حتى فوجئ المصريون بسليمان يقف أمام كاميرا، وخلفه ضابط صامت، ليقرأ من ورقة صغيرة "قرر الرئيس محمد حسني مبارك، تخليه عن منصب رئيس الجمهورية، وكلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد. والله الموفق والمستعان".
قبل أن ينتهي سليمان مما قاله انطلق احتفال بميدان التحرير وامتد إلى كل مكان احتفاءً بما عدّه المتظاهرون نجاحًا للثورة في إلحاق مبارك بابن علي.
قلة من الشباب رفضت ترك مبارك إدارة البلاد في يد المجلس العسكري ومكثت في ميدان التحرير
قبل الشارع إدارة المجلس العسكري مؤقتًا لشؤون مصر، وقت أن كانت المعارضة المدنية لمبارك منقسمة، ولم تنجح على مدار الأيام الثمانية عشرة في اختيار قيادة موحدة أو فريق عمل متجانس، يُقنع الناس بقدرته على تسلم زمام الحكم.
قلة من الشباب رفضت قيام مبارك بترك إدارة البلاد في يد المجلس العسكري، ومكثت في ميدان التحرير، معلنة أن ما جرى لا يعدو أن يكون استمرار للنظام بوجوه أخرى، وهي مسألة لا تحتاج إلى جهد جهيد حال تفسير بيان التنحي المقتضب.
تم قمع أصحاب ذلك الصوت، وتكالبت القوى السياسية على الحياة الجديدة تريد أن تستفيد منها، أو تحمى مكاسبها التي حصلت عليها في ظل حكم مبارك، لندخل في صراع الإدراكات المتبادلة بين الفاعلين الجدد في المشهد. فالمجلس العسكري تصرف كصاحب السلطة، والإخوان انتظروا تسلمها، والقوى المدنية استمرت على تشتتها، وفي قلبها أحزاب تقليدية كانت تتلقى الفتات من قبل، وتخشى عليه من الزوال.
أدرك المجلس العسكري أن دون ضغطه على مبارك، ما كان له أن يرحل، وأدرك الثوار أنه رحل بقبضات أيديهم التي كانت تدق الهواء مطالبة إياه بالتنحي، وأدرك الإخوان أنها الفرصة التي سنحت لهم دون تدبير منهم في سبيل قطف الثمرة بحيازة السلطة، وعليهم أن يلاينوا من يمسكون بزمامها مؤقتًا حتى يذهبوا تاركين إياها لهم.
راح بعض أعضاء المجلس العسكري يلتقون بانتظام أفرادًا من القوى المدنية، في اجتماعات متلاحقة، مستندًا في ذلك إلى لافتة عريضة رفعها هي "شريك الثورة"، وهتاف كان يملأ الميادين منذ اليوم الرابع هو "الجيش والشعب إيد واحدة"، وتاريخ من علاقة متفاوتة المستوى بين قادة الجيش والإدارة، أو بحكم الأمر الواقع الذي كان يبين وقتها، بصورة واضحة، أنه لا يوجد أحد جاهز للحكم، يثق فيه الشعب ثقة عميقة.
في أحد تلك الاجتماعات طُرحت أسئلة عن شرعية المجلس العسكري، اتكاء على أن مبارك خلعه الناس، وبذا لا يحق له أن يُسند الحكم إلى غيره. فكان الرد:
"نحن شركاء ثورة، لولانا ما ذهب مبارك، ولولاكم ما كان لنا أن نوقف مشروع توريث الحكم إلى ابنه جمال، ولو عاد الناس إلى بيوتهم، تاركين مبارك يكمل مدته، فوقتها كان سينتقم من قادة الجيش الذين ضغطوا عليه، لا سيما في الأيام الأخيرة، حين أدركوا أن الشعب عقد العزم على رحيل الرئيس، وأن الجيش إن انحاز إليه ضد الشعب، سيخسر كثيرًا، أو كما كانوا يقولون وقتها "الجيش مِلك الشعب بنص الدستور، ولا يمكنه أن يتأخر في إنفاذ إرادة الناس".
بدا أن القادة العسكريين يريدون تفصيل الثورة برمتها على مقاس تصورهم لإنهاء حلم مبارك الابن
تبين من تلك الاجتماعات أن الجيش كان ممتعضًا من مشروع التوريث، لكنه لم يكن قادرًا على وقفه عبر حركة ذاتية، وكان يحتاج إلى نزول الناس إلى الشارع كي يتمكن من ذلك، وأن الأغلبية رضيت بنقل السلطة إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، حين احتفلت بذلك، وعادت إلى البيوت.
قال أحد هؤلاء القادة إن مبارك كان يعتزم في مايو/أيار 2011 إعلان عجزه، لأسباب طبية، عن الاستمرار في الحكم، ويفتح الباب أمام انتخابات رئاسية تجري في ظل حكمه الذي كان سينتهي دستوريًا في سبتمبر/ أيلول من العام نفسه، كي يضمن نقل السلطة لنجله. وكان الجيش يتوقع أن ينزل مائة ألف، على الأقل، إلى الشوارع رافضين التوريث، ووقتها سيتدخل هو لإنهائه، لكن ثورة تونس التي نجحت في إطاحة زين العابدين بن علي عجلت بثورة المصريين.
بدا أن القادة العسكريين يريدون تفصيل الثورة برمتها على مقاس تصورهم لإنهاء حلم مبارك الابن، وأنهم يدركون ما جرى ويقدرونه على أنه انقلاب على التوريث، وفي قلبه مبارك نفسه، بغطاء شعبي. بينما أدرك قادة الحركة السياسية على اختلاف مشاربها الأمر على أنه ثورة نجحت في خلع الحاكم، ولا بد لها أن تستلم الحكم. لكن السياسيين بدوا مختلفين، ثم تصارعوا، على مَن يُمسك بالحكم فعلًا، ثم دخلوا في صراع حول الشرعية، هل هي لـ "البرلمان" أم لـ "الميدان".
ربما كان المجلس العسكري يتحدث بينه وبين نفسه عن نجاح الانقلاب، أو على الأقل تحقق هدفه بالتخلص من التوريث بأقل كلفة وبيد غيره، في وقت كان فيه الشعب، وأمامه القوى السياسية، يتحدث عن نجاح الثورة في موجتها الأولى. واحتفظ العسكريون لأنفسهم بما جرى في الساعات الأخيرة من حكم مبارك، وأبقوه محجوبًا عن الرأي العام، حتى يومنا هذا، وإن كان بعضه يرشح تباعًا، وعلى استحياء، وكثير منه صار محل تخيل وتحليل وتكهن.
ربما القول بوجود انقلاب في 11 فبراير/شباط 2011 لا يلقى قبولًا من قوى ثورية كانت تؤمن، ومعها كل الحق، أن مبارك لم يكن يرحل سوى بنزول الناس إلى الشوارع، واحتشادهم في الميادين وإصرارهم على مغادرته.
وربما القول بالانقلاب أيضًا يزعج العسكريين، لأنه يظهرهم في موقف من استغل فرصة لم يصنعها بعقله أو ساعِده. لكن جردة حساب أو مراجعة أوراق، بعد أن بردت الأعصاب الثورية الملتبهة، يجعل لذلك القول وجاهته إلى حد ما.
لكن ما جرى في السنوات اللاحقة، من تأثيم الثورة وتشويهها، ونعتها بكل أفعال التقبيح والتجريم، وتحميلها مسؤولية كل إخفاق بدءًا من تردي الأحوال الاقتصادية وانتهاء بتمكين إثيوبيا من بناء سدها على النيل الأزرق، يؤكد أن إدراك العسكريين لما جرى يوم 11 فبراير كان مختلفًا عن إدراك الثوريين، وإدراك عموم الناس، الذين تساوقوا مع ثورة، وعولوا عليها في بناء دولة جديدة.
لكن هذه الثورة لم تحكم، إنما طوردت، ولا تزال.