تصميم: يوسف أيمن - المنصة

أساسات الردّة المصرية| مقدمة

منشور الخميس 21 نوفمبر 2024

مكالمة استمرت قرابة الساعة مع أحد الرفاق الأعزاء انتهت إلى أن مصر مسكونة بمستويات غير مسبوقة من الغضب الشعبي ضد النظام الحاكم، لكنه غضب يعجز عن ترجمة نفسه إلى أي فعلٍ بنَّاءٍ أو حتى هدَّام، لأنه لا يحمل أي تصوُّرٍ، ولو جنينيٍّ، عمَّا يجب أن يُسفر عنه انفجاره.

لا يوجد شيء اسمه غضب جمعي أهوج، كما يظن البعض، مهما بلغ الناس من إحباط. لقد عاش المصريون مئات السنين في فقرٍ وفاقةٍ لا يمكن تصورهما وفق فهمنا المعاصر دون أن يترتب على ذلك أي شيءٍ.

فالهبَّة، على عكس تصورات الكثيرين، لا تأتي من فراغ. ربما يكون انفجارها مفاجئًا، ولكنها تحدث نتيجة مقدمات سياسية حركية وخطابية، وفي حالة مصر، فإن العجز والشلل السياسي يحيطان بالغضب الجمعي المكتوم من كل جانب، أو يحرمانه من سماته العامة كمًّا وكيفًا.

الغضب الجمعي عاجز عن الانفجار مهما تراكمت شروطه المادية، وهي متراكمة بالفعل، ومنذ وقت طويل. وحين يقرر هذا الغضب التنفيس عن نفسه بأشكال أقل تسييسًا وأكثر فردية وعشوائية، فإنه لا يأخذ شكل الانفجارات الصغيرة المتشظية للخارج، بل يتحول إلى نوعٍ من النزيف الداخلي. ولأن الجسد المصري كبير وعملاق، فإن نزيفه الداخلي طويل وتجلطاته بطيئة بحيث يمكن للحياة والغرغرينا والتحلل التعايش معًا في كنفه لفترة طويلة.

صحيح أن القمع السياسي والاجتماعي في مصر ممتد منذ 11 عامًا وحتى الآن بقسوة غير مسبوقة في تاريخنا المعاصر، وفي كل الحقول والمجالات، لكني سأغامر بالقول بأنه وحده لا يفسر أسباب العجز والشلل السياسي الحالي والممتد، الذي أعتبره سببًا من الأصل في اندلاع ثورة يناير 2011، وسببًا حاسمًا في فشلها أيضًا.

فمهما بلغت مستويات القمع الحالي من قسوة واستثنائية وفقًا لمازورة طغيان الدولة المصرية في طورها الحديث، فإن قسوتها هذه ليست استثنائية بالنسبة لدول ومجتمعات أخرى مرت بتجارب أكثر قمعيةً وطغيانًا من التي نختبرها في مصر، ورغم ذلك لم تصل بها إلى مستويات الشلل والموات التي تمر بها مصر حاليًا.

ما العقد الماضي إلا محاولة يائسة للحفاظ على بنية وعلاقات اجتماعية لا يمكن استمرارها إلا كمشروع انتحاري

ولو ذهبنا إلى التسليم بفكرة أن القمع العاري قادر وحده على شلِّ السياسة على المستوى الحركي والتنظيمي، فهو بالتأكيد ليس شرطًا لازمًا لاستمرار العجز والفشل السياسي على المستوى الفكري والنظري، فقد سبق لمشاريع فكرية وطروحات تأسيسية متماسكة أن نشأت وتبلورت في أظلم الأقبية وأبعد المنافي وأشد الظروف بشاعة.

أضحى ما يتم إنتاجه نظريًا من خطابات وتصورات في مصر شديد الرثاثة والبدائية، وهو أمر لا يمكن تفسيره بالجهل أو الفقر أو الصدمة أو الهزيمة فقط. فضلًا عن أن الردة المصرية الحالية ليست على مستوى الممارسة السياسية والتنظيمية فقط، بل طالت كل المستويات والأصعدة الحداثية، العلمية والأكاديمية والفنية والثقافية، وصولًا إلى الدولة نفسها وكفاءتها في إدارة الأزمات والكوارث.

هناك من قد يحاجج بأننا بصدد أزمة عالمية طالت حتى الدول الكبرى والمتطورة، وبالتبعية إقليمنا المتدهور. لكن مركز مصر وثقلها العربي والإسلامي يجعلانها أيضًا مسؤولة عن الردة الإقليمية أكثر من كونها ضحيةً لها. بالطبع استُهدفت الثورة المصرية من أطراف خليجية بالذات، ولكن أزماتنا الذاتية هي التي سهلت استهدافهم هذا ومكنتهم من النصر.

للأسباب السابقة مجتمعة أعتقد أن الأمر يحتاج قدرًا من المجهود والتأمل المتأني في النظر إلى الأسباب، التي في تراكمها، أفضت إلى ما آلت إليه الأمور من تدهور؛ البلد يائس وأصبح تائهًا في مداره، على الأقل بالنسبة للغالبية العظمى من الناس. وسيطرت الكآبة وتسيَّد القنوط على قواه الفاعلة، وسط أجواء أصبح السائد فيها هو "الهرتلة" على مستوى الخطاب وعلى مستوى الممارسة.

سأحاول في عدد من المقالات المقبلة طرح وإجابة عدد من الأسئلة التي تخص حالة الردة السياسية العميقة التي أصابت مصر، ولماذا تبدو بلا أفق ولا حل، وكيف أن للأمر جذوره الطبقية المتراكمة على مدى عقود بشكل يتطلب مناقشة الأساسات الاجتماعية للأزمة، ونصيب كل قوة اجتماعية منها على المستوى الذاتي وعلى مستوى علاقاتها بباقي القوى وبمجمل عناصر الصراع. 

بمعنى ما، يمكن القول إن كل طبقة حاكمة وكل مكوِّن مهيمن في مصر، سواء من داخل السلطة أو في مدارها، رهينة ما كسب. وأننا نحصد الآن ما زرعناه لعقود، وما العقد الماضي إلا محاولة يائسة للحفاظ على بنية وعلاقات اجتماعية لا يمكن استمرارها إلا كمشروع انتحاري، لكنه انتحار بطيء ومتردد يحمل الكثير من ملامح ووعي طبقة البرجوازية البيروقراطية وحليفتها من برجوازية الإمّعات الذين يحكمون هذا البلد منذ نشأته الحديثة، سواء في فترة الاحتلال أو ما بعد الاستقلال، وتحت أي نظام حكم ملكيًا كان أم جمهوريًا أم عسكريًا.

يعم الصمت والتبلد أمة مسكونة بكل الأمراض والعلل، لأن قواها الاجتماعية التي اعتادت الهيمنة وتقاسم النفوذ والمكانة أصبحت تدرك أن أثمانًا كبيرةً ينبغي دفعها إذا كتب لهذا البلد أن يستمر، والمشترك الحالي بين كل هذه القوى هو الأنانية إلى حدود التوحش والإنكار إلى درجة الدروشة.

وباستمرار هذا ستصبح الطروحات الراديكالية وحدها هي المدخل العملي والعقلاني الوحيد للاشتباك مع ما يسكن مصر من أمراض وعللٍ، سواء كانت راديكالية تقدمية أو رجعية. فكما بدأت المقال؛ يسود غضب يعجز عن ترجمة نفسه، ببساطة لأن الخيال السياسي والنظري السابق عليه، أعجز من أن يحيط به.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.