تقول عاميتنا إن الصراحة راحة، يبوح بها القلب آملًا في أن تساعد العقل على تجسير الفجوة بين ما هو مأمول وما هو ممكن، يتكئ عليها الضمير وهو يدفع ما ينوء به، في محاولة منه لتحري قدر ثقله، أملًا في التحرر منه.
تتكثف الصراحة في الاعتراف، الذي هو سيد الأدلة أمام العدالة، ودليل الغفران أمام الضمير، وهو ما يوطد الوصل بين الناس ويطمئنهم، فما الذي يحدث لو عجزنا عن مصارحة أنفسنا وفقدنا شجاعة الاعتراف؟ ولماذا تحتمل نفوسنا في بعض الأوقات ثقل الأحمال الناتجة عن غيابهما؟
يصبح الصدق مؤلمًا وثقيلًا إذا هدد الإنسان في مصالحه المادية، خاصة إذا كان الحفاظ عليها يتطلب التفريط فيما يعتبره الفرد أو الجماعة مُثُلًا أخلاقيةً لازمةً للحفاظ على الحد الأدنى من اللياقة الإنسانية والنفسية، أو حين تعجز تلك المُثُل عن فهم الواقع وتفسيره، على نحو يُطمْئِن النفس والضمير، فتتعرَّى النفوس أمام جشع التملك والمصالح الأنانية.
أو وربما حين يفقد الناس مثالهم وهم في رحلة الحفاظ على ما يعتبرونه حاجات لا يمكن الاستغناء عنها، فيستسلمون في خضوعٍ تامٍّ، غير نقديٍّ، لكافة العلاقات والصراعات الواجبة من أجل تلبية تلك الحاجات، مهما كانت منحطة أو وضيعة، ووقتها سيصبح التفكير، مجرد التفكير، عذابًا مقيمًا.
عقد من الزمان والمصريون غارقون في ظلمات الإنكار، ساد خداع النفس بعد أن أصبحت كلُّ المشاعر مؤلمةً، وحين تصبح كلُّ المشاعر مؤلمةً يستعين الناس بالبلادة لحماية نفوسهم المدماة، يصورون لأنفسهم أنَّ المذلة سعي، وأنَّ المهانة حكمة، حتى أصبحت نخبة المصريين جماعةً من فاقدي الأهلية، يتقاذفون فيما بينهم أسباب العجز بشكل بهلواني، لينافس كلُّ سبب فيهم الآخر في مسابقات التبرير والدعة.
حقل ألغام كبير
أصبح الإنكار لا النيل هو ما يجري في صحرائنا، فأصبحت مصر هبة الإنكار، وصار واديها صحراء آدمية مزروعة فيها عشرات الألغام ذاتية التكاثر، التي كلما تكاثرت أصبح الشللُ حكمةً، وانتظارُ الهلاك بالموت البطىء خيرًا من جسارة السير فوق أحد تلك الألغام، وظني أنَّ هذا هو شرط اللحظة الراهنة بلا مورابة أو تجميل.
السيناريو المصري صار ركيكًا، لكنه ليس فيلمًا نشاهده ونحن قادرين على مغادرة السينما متى أردنا
ألغامنا ما أكثرها، أحدها لغم مهين اسمه "الفُجر في التعريص"، ذلك المستوى المُخزي من الدَّنيَّة التي تُفقد المرء ثقته في الجماعة الإنسانية التي طالما شاركها لغته ووجدانه، خاصة لو مارسها من يُفترض فيهم الكرامة والنزاهة، وخاصة لو أودت إلى خسائر لا حصر لها ولا عدد.
لي صديق من عينة البشر التي لا تحتمل على نفسها دَنيَّة الإنكار وذلته، يداوم على التدوين والكتابة باسم مستعار، ويكتفى بكونه "أحمد"، مبررًا ذلك بأنَّ أيَّ كلام جاد سيقوله قد ينتهى به إلى السجن، لأنَّ في هذه الأيام المريرة، أيُّ كلام أقل من ذلك الذي يذهب بالإنسان إلى السجن هو محضُ تعـ***، وقد صدق.
لدينا لغم آخر اسمه الإنهاك الناتج عن القمع العاري المستمر لعقد من الزمان، لأنه بينما تمر الآن 13 سنة على ثورة 2011، يجب أن نُذكَّر أنفسنا ونُعلَّم من هم أصغر منا، أنَّ التضحيات التي قدمها المثقفون والمتعلمون ممن يمكن تسميتهم بأبناء الحركة الوطنية خلال هذه العشرية المريرة، تفوق كلَّ التضحيات التي قدمت في تاريخ مصر كله مُجتمعًا، كمًّا وكيفًا وعددًا وثمنًا، يفوق ما حدث في ثورتي عرابي و1919 وانتفاضات الطلبة وما بين الحربين مجتمعين، وبأيِّ معيار.
آلاف من المصريين فقدوا حياتهم وأضعافهم فقدوا حريتهم بين السجون والمنافي. منهم من قُطعت أرزاقهم ومنهم من أنهوا حياتهم وكثيرون انهارت قواهم العضوية والنفسية، هؤلاء من كل الفئات والخلفيات الاجتماعية والثقافية والعمرية، وبعضهم كانوا في أوضاع ومكانة طبقية ومادية ميسورة لا تجبرهم على اختيار تلك الطرق باهظة الأثمان، ولكنهم فعلوها بإرادة حرة وشريفة.
وفي مصر المعاصرة لغم ثالث اسمه الخوف من عفوية الجماهير التي ولدت مع عقدة 28 يناير 2011، حيث الهلع من غضبة عشرات الملايين من أبناء هذا الشعب الذي يزحف الفقر والفاقة على كافة مفردات حياته، الخوف من غضبتهم والخوف من غضبة النظام الشرس أثناء مواجهتهم، والخوف كذلك من الاختيار، وعلى أيِّ جانب من الصراع سيقف الخائفون.
هل سيباركون إطلاق الرصاص على من يعجز عن إيجاد طعامه وعلاج أبنائه أم سيصمتون؟ هل سيشاركون في دهس ألغام سبق أن زرعوها بأنفسهم؟ هل سيصبحون مثل السوريين الموالين لبشار الأسد؛ الذين ضحوا ببلدهم وشعبهم في مقابل الحفاظ على مواقعهم الاجتماعية وامتيازاتها وسموا فلاحيهم المنتفضين إرهابيين من اللحظة الأولى؟
لدينا أيضا لغم الألغام؛ وهو انهيار الأوهام عن الذات والشك العميق فيما كان مقدسًا وبديهيًا،. تفككت السرديات العاطفية الجامعة التي طالما بررت وشرعنت علاقات اجتماعية ظالمة ومشوهة، لم تعد مشبعة أو لذيذة، كفت عن أن تكون دافعة، يفخر الآن إعلاميون وفنانون أثرياء بحصولهم على الجنسية السعودية وهم لا يزالون يقيمون في مصر، وبشروط حياتية أفضل بعشرات المرات من تلك التي يحيا السواد الأعظم من المصريين في ظلها.
بعد ابتذال المشاعر والسرديات الوطنية المصرية من ضباعٍ لا أخلاق لها، واستخدمت مطية لإفقارهم وإذلالهم، أصبحت الأفعال تتناقض مع الأقوال إلى حدودٍ عاهرة.
قصة لا تقنع أحدًا
تعلمت من سيناريست بارع أنَّ السيناريو هو فن تبرير الحكاية، أن لا تسأل نفسك وأنت تشاهد عملًا دراميًا لماذا يحدث كذا، مهما كان السرد غبيًا أو غرائبيًا. السيناريو المصري صار ركيكًا ومفككًا ويصعب تبريره، ولكنه للأسف ليس فيلمًا أو مسلسلًا نتفرج عليه ونحن قادرين على مغادرة السينما أو إغلاق التليفزيون متى أردنا، بل هي حياة الناس التي يتجرعونها قطرةً بقطرة.
لم تنتهِ حلول الأرض كما يدَّعي البعض على السوشيال ميديا، جلُّ ما في الأمر أنَّ معظم تلك الحلول مكلفة وغير مضمونة، وعلى الأغلب سيدفع ثمنها من يسمون أنفسهم "نخبة".
لقد حاولت قطاعات لا بأس بها من المصريين مقايضة الكرامة والنزاهة واللطف والرحمة والمعنى في مقابل الحفاظ على صيرورة حياتهم التي يسمونها تسولًا "لقمة العيش"، وكثيرٌ من أصحاب هذه المقولات ميسورو الحال. فشلت المقايضة، لأنَّه حتى المجاز الفقير الشحاذ المُسمَّى بلقمة العيش، أصبح محلَّ شكٍّ كبير.
هناك ثمن كبير سيُدفع، ويجب تحمله، لأنَّ المقدمات تجلب النتائج، والإنكار لا يفيد، ربما أفادت الجريمةُ البعضَ، لكنَّ الإنكار لن يفيد أحدًا.