كان المقهى يعرض أحد برامج التوك شو، من دون أن يعيره أي من الجالسين انتباهًا، حتى قام ذلك المسن، يصيح في غضب بينما يشير إلى التلفاز حيث بدأ مقدم البرنامج يعدد إنجازات الدولة؛ "ياه، دا التعريص بيجري في دمه".
لماذا اختار ذلك الرجل تلك السبة تحديدًا لوصف أداء مقدم البرنامج ولم يختر أخرى من قاموس الشتيمة المصري العامر بمفرداته؟
في الواقع، ارتبطت مفردة "المعرص" قديمًا وعبر تطورها التاريخي لدى مستخدميها بإرث وظيفي سلبي في الغالب، يشير في معظمه إلى الرجل الذي يتخلى عن "الشرف" بمفهومه الأخلاقي الكلاسيكي. ساعد في ذلك تعدد معاني المفردة نفسها التي تتنوع بين النيئ والمضطرب والزائد.
يذكر الفارابي، مثلًا، في "صحاح تاج اللغة وصحاح العربية"، أن المعرص هو الشيء النيئ، ومنه قول الشاعر"سَيَكْفيكَ ضَرْبَ القومِ لحمٌ معرص"، واللحم المعرص هو المُلقى في العرصة (البراح) ليجف، أو مُلقى في الجمر فيختلط بالرماد ولا يجود نضجه. ويوردها ابنا هاشم في "حماسة الخالديين"، بمعنى الاضطراب، فلو كنت شخصًا قلقًا مضطربًا فأنت عند العرب مُصاب بالعَرَص، ومنه قول الشاعر "إنّي ليأخذُني من حبّها عَرَصٌ ** عند الصَّلاةِ فأنسى أن أصلِّيها"؛ أي كلما ذكر محبوبته يعتريه الروع فتضطرب أنفاسه وينسى أداء صلاته.
كما تستخدم المفردة للإشارة إلى الرائحة النتنة الخبيثة كقول "عَرَصَ البيت" أي خَبُثَ ريحُه، كما ذُكر في كتاب "الغريب المُصنف" لأبي عُبيد القاسم البغدادي.
ولكن كيف اكتسبت تلك المعاني دلالات وظيفية حتى صارت تستخدم للإشارة إلى من يقوم بتدليس المعلومات، أو يجامل أنظمة الحكم بفجاجة؟
الدفاع عن المستعمر، الظالم، المستبد كانت ربما هي الوظيفة الرئيسة لشيخ العرصة طوال سنوات كثيرة
الوظيفة: عرص
في مقال نشره الشيخ رشيد رضا في مجلة المنار، بعنوان "الأخبار التاريخية"، مطلع القرن العشرين، يحكي تلميذ الإمام محمد عبده عن رجل أراد أن يُعرِّف عن نفسه ووظيفته كقواد محترف، فقال "عرص معرص"، وهو تحوير لاختصار وظيفة "شيخ العرصة" التي كانت تطلق إبان الاحتلالين العثماني والإنجليزي على شيخ القوادين، بعد أن قرر العثمانيون تقنين الدعارة وصنعوا لها أحياء واسعة فسيحة (عرصات) وعينوا عليها شيخًا بحسب كل منطقة تكون له مهمة الإشراف على "الكراخانات" أي بيوت النوم باللفظ العثماني. وكان مشاهير كثيرون منهم يلبسون الفساتين ويضعون الحلي ويعاملهم المجتمع بدونية تنبع من مظهرهم أكثر منها لوظيفتهم.
ومع دخول الاحتلال الإنجليزي مصر، وفي ظل حاجة المستعمر الترفيه عن جنوده مع ضمان أمنهم، أسندت المهنة إلى الفتوات بدلًا من القوادين النمطيين، وظل الوضع القانوني للعاملين في تلك المهنة قائمًا بين شد وجذب حتى ألغيت بمرسوم ملكي من الملك فاروق نهائيًا في عام 1947.
فماذا حدث بعد ذلك للفظ؟
هناك نقطة لا يمكن إغفالها في التحول الوظيفي لشيخ العرصة مع إعلان الوصاية البريطانية على مصر، فأحياء الدعارة في ذلك الوقت كانت تشكل خطرًا كبيرًا على الجندي المستعمر الباحث عن الترفيه، حيث كان غالبًا ما يتعرض للسرقة والقتل ناهيك عن ما قد ينتقل إليه من أمراض، لذلك لم تكن حمايته الضرورية حكرًا فقط على رجال البوليس المصري، وإنما امتدت إلى الفتوة الذي صار يمارس تلك الوظيفة، حسب كتاب "البغايا في مصر" لعماد هلال.
وهكذا صار للشخص القائم على شؤون تلك المناطق وظيفة أخرى هي حماية المستعمر والدفاع عنه إن لزم الأمر، وهو الدور الذي استمر رغم النضال الوطني الذي لعبته العاملات في تلك البيوت لتسهيل عمل الفدائيين في تصفية جنود الاحتلال خلال ثورة 1919 وما تلاها. فالدفاع عن المستعمر، الظالم، المستبد كانت ربما هي الوظيفة الرئيسة لشيخ العرصة طوال سنوات كثيرة.
تلك المفردة التي استطاعت النفاذ تاريخًا كل تلك السنين ما تزال قادرة على الحياة لأن دلائلها ربما لا تنته
العرص في لسان الأدب
ربما انتهى العمل الرسمي في الجنس قبل ثورة يوليو، وراحت معه التقسيمات الطبقية والوظيفية لمجتمعه، لكن المفردة التي يبدو أنها نجت من التغييب، وجدت بمدلولها الجديد الذي تشكل مع الاحتلال، فرصة أكبر لتنمو وتترسخ كسبة لمن يدافع عن "الظالم/ المستبد/ المستعمر"، في ظل ما خاضته الدولة الجديدة التي رفعت راية مقاومة المحتل الإنجليزي وتكبدت بسببه خسارة ضخمة بعد العدوان الثلاثي في 1956.
وشاعت المفردة بعد ذلك انطلاقًا من إرثها التاريخي تواكب التطور الاجتماعي والسياسي الذي وإن تخلص من الاستعمار فإنه لم يتخلص من الاستبداد، حتى صارت مع الوقت شتيمة واسعة المعنى ومتعددة الدلالات شأنها شأن كل لفظ خارج آخر.
ففي حين ترد مثلًا، في رواية "1919" لأحمد مراد، على لسان بطلها عبد القادر الجن في وصفه لشخصية "سلامة النجس" بأنه "معرص وسخ"، كإشارة لوظيفة الأخير، فإنها تحضر كسبة تستهدف التقليل من شأن "جبن" صاحبها المفترض في رواية "جمهورية كأن" لعلاء الأسواني، حيث قالتها إحدى الشخصيات بينما تأمر أخرى بالاعتداء جنسيًا على فتاة "اِمسك كـ..ها يا معرص يا خول".
أما في رواية أحمد ناجي "استخدام الحياة"، فاكتسبت الشتيمة عمومًا معانيها كسباب دارج يستخدمه الناس عمومًا، وظهرت مفردة "العرص" في ذلك السياق على لسان الشخصيات تجاه بعضها البعض.
لكن الروائي محمد ربيع، المشغول في رواياته بما يمكن وصفه بالفانتازيا السياسية، ربما يكون الوحيد، الذي حاول التجذير للكلمة أدبيًا وربطها بمدلولها السياسي، في فصل كامل أفرده لها في روايته "عام التنين" (2012)، بعنوان "معرص".
في سياق موازٍ يدّعي الراوي في "عام التنين" أن الكلمة التي اشتهرت في عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي، ذلك الخليفة الذي لا تخلو سيرته من استبداد طويل، تعود إلى قصة مواطن يسمى "أبو خليل" كان يُعرص في المكان، أي يضع خشبة على مسافة واسعة من الحارة ويقيم على مسافة من الخشبة الأولى خشبة ثانية، ثم يُعلن أن تلك العرصة (المساحة) صارت بمثابة مسجد وأنه شيخها "شيخ العرصة"، قائلًا "إني أُعرص، إني أُعرص" أي أوسع المكان، حتى ذاع صيتها وزاره الخليفة الفاطمي نفسه، وصلى بالناس في زاويته الصغيرة، فوضع أبو خليل خشبة فوقه لتظله من الشمس، وقال "عرصت على الحاكم"، فصار الناس يلقبونه بالمعرص، لأنه كما وصف فعله "عرَّصَ للحاكم".
لعل ذلك الرجل من المقهى لا يعرف ربيع ولم يقرأ عام التنين أو غيرها من الأعمال السالفة، لكنه قرر ربما، جاهلًا حتى بتطور المفردة اللغوي، استخدامها وحدها دون غيرها لوصف ما عدّه تدليسًا إعلاميًا لإنجازات النظام، مستغربًا حجمه "يااه.. كل ده تعريص"، هل كان عليه أن يقول "كفاية تعريص"؟ أم أنه كان دونًا عن وعيه بما سبق يفهم أن تلك المفردة التي استطاعت النفاذ تاريخًا كل تلك السنين، لا تزال قادرة على الحياة لأن دلائلها ربما لا تنتهي؟