المنصة
تصميم: يوسف أيمن

لافتات الكتابة الهجينة: اللغة العربية كديكور ثقيل في شوارعنا

منشور الخميس 9 يناير 2020

حين تكتب على أي محرّك بحث عبارة "لافتات مكتوبة بالفرانكوآراب" ستجد الكثير من الروابط التي تشير إلى ظاهرة أخذت في الانتشار في الشارع العربي،  والمصري بخاصّة، بعد أن أصبح الإنترنت ركنًا أساسيًّا في حياة قطاع عريض من الشباب في هذه البقعة من العالَم. ربما تعود الظاهرة إلى نهاية العِقد الأخير مِن القرن العشرين، وتكرّسَت مع بداية هذه الألفية.

اصطلاح "الفرانكو آراب" ليس دقيقًا تمامًا، فالمُشار إليه هنا هو نمط كتابة لكلمات العامّيّات العربية بالحروف اللاتينية، مع استخدام الأرقام أحيانًا كمُعادِلات للأصوات Phonemes التي لا توجد حروف لاتينية تعبّر عنها مباشَرةً في النُّطق الإنجليزي أو الفرنسي بخاصّة، باعتبارهما لُغَتَي المستعمِر الأوربي الذي اصطدمت به المنطقة العربية. ويأتي اختيار الرقم بناءً على مشابهة رسمه لرسم الحرف العربي، فمثَلاً يعبّر رقم 7 عن حرف الحاء، ورقم 2 عن همزة القطع، ورقم 5 عن حرف الخاء، وهكذا.

وهناك ما يُشبه الإجماع على أنّ نمط الكتابة المُشار إليه بدأ في غُرَف الدردشة على الإنترنت وفي رسائل المحمول النّصّيّة، للتغلُّب على عدم دعم أنظمة تشغيل تكنولوجيا التواصُل النّصّي للحروف العربية، واعتمادها الكُلّي في البداية على الحروف اللاتينية. والمهم أنّ هذا النمط كان يعكس بقدر كبير اتساع نفوذ وتأثير وسائل التواصل الحديثة على الحياة اليومية للإنسان العربي، فضلًا عن حلول تدريجي للواقع الافتراضي محلّ واقع الشارع، ولِذا نُظِرَ إلى هذه الظاهرة أحيانًا باعتبارِها تجلِّيًا من تجلّيات سيطرة العقل الإلكتروني على الإنسان.

وأثارت هذه الظاهرة الجدل بالطبع، فدُعاة نقاء اللغة بالأخَصّ انزعجوا من إزاحة الأبجدية العربية لصالح اللاتينية، واستدعى الجدل معارك من منتصف القرن العشرين، أثارها دعاة استخدام الحرف اللاتيني بدل العربي، لاسيّما الشاعر اللبناني الكبير سعيد عقل، والسياسي والأديب المصري عبد العزيز فهمي من قبلِه والمفكر البارز سلامة موسى وغيرهم.    

لكننا الآن أمام ظاهرة مختلفة إلى حَدٍّ ما. لافتاتنا الجديدة تتبع توزيعًا جغرافيًّا واضحًا بدرجةٍ كبيرةٍ في أحياء القاهرة على سبيل المثال، فهي موجودة بكثافات متفاوتة في الأحياء الراقية وفي المَحالّ عديدة الفروع التي تغطّي المولات من أقصى القاهرة إلى أقصاها، بينما تكاد تخلو منها تمامًا شوارع الأحياء الفقيرة. وهذا التوزيع يجعلها في تقديري هدفًا مُغريًا لتناوُل علم اللسانيات الاجتماعية.

ديوان وأخواته- العربي ضيف شرف

ربما تكون لافتة مكتبات ديوان من أشهر وأقدم هذه اللافتات. في هذه اللافتة كُتِبَت كلمة "ديوان" بخمسة حروف لاتينية في تبادُل لرسومها الكبيرة والصغيرة Upper Case and Lower Case، وأُدغِم حرف a في بداية الحرف الأخير N الذي رُسِم بطريقة تجعلُه يُقرَأ N لاتينية أو (ن) عربية، ووُضِعَت نقطة النون، كما أُضيفَ التشكيل العربي Diacritics وعلامات الترقيم في صيغتها العربية، كالكسرة تحت D والفاصلة مكان النقطة فوق (i)، وضمّة فوق W  لا وظيفة لها ولا مكان في الكلمة العربية "دِيوَان" وثلاث نقط تحتها توحي بأنّ المقصود أن ننطق الكلمة "ديڤان" كما تُنطَق أحيانًا في بعض اللغات الأوربية، كما أُضيفَت الألِف الخنجرية فوق W.

هكذا يتّضح أننا إزاء لافتات مكتوبة بالحروف اللاتينية أساسًا، لكن الحروف العربية الحقيقية، لا الأرقام العربية Arabic Numerals كما في الفرانكوآراب، تظهر فيها ظهور ضيف الشرف Guest Appearance في الأفلام وعروض التليفزيون والأغاني المصوّرَة. بين أيدينا ستة نماذج لهذه اللافتات موزعة على حي الزمالك وحي المعادي ومول مصر في 6 أكتوبر. ويتنوع نشاط المَحالّ الستة بين أربعة أنشطة، فهناك ثلاث مطاعم (بوخارست-شباك حبيبي-زُوبة) ومكتبة (ديوان) ومحل ملابس للسيّدات (شِروال) ومحل هدايا (بلح). 

مَن المُخاطَب بالضبط؟   

تخبرنا النظرة الأولى إلى نشاطات هذه الأماكن بأنّها جميعًا مَتاجر تتعامل مباشَرةً مع الجمهور، فليس بينها مثَلاً نشاط اقتصادي موجَّه من تجار جملة إلى تجار تجزئة، أو مِن مُصَنِّع إلى تُجّار (وهو أمر مستبعَد على أية حال في حيٍّ راقٍ). فهي بالتالي نشاطات مُنصَبّة على الاستهلاك الفردي، ولذا يُفتَرض أن لافتاتها تخاطب الوعي الفردي بشكل أساسي.

فإذا انتقلنا إلى التوزيع الجغرافي الذي أسلفنا الإشارة إليه فسنجد أن ترَكُّز هذه المحالّ في الأحياء الراقية، يفترض ذائقة معينة مُترَفة في الجمهور المتوقَّع لهذه الأماكن، وهو بالطبع جمهور لا يَبعُد أن تكون ثقافتُه متعددة لغويًّا أكثر بكثير من سُكّان المناطق الشعبية.

 

إحدى مكتبات ديوان. الصورة: موقع ديوان الرسمي

المسألة التالية هي طبيعة أسماء هذه الأماكن. في الحقيقة نحن أمام سِتّة أسماء عربية. فـ"شروال" هو الاسم الشامي للبنطلون الفضفاض المعروف في مصر أصلًا بالسروال، و"شروال"أقرب إلى الأصل الفارسي للكلمة "شلوار"، أما "بلح" فهي كلمة عربية دون شك. "ديوان" تشير إلى الكتاب المحتوي على مجموعة قصائد، وهي ذات أصل فارسي، وإن كانت قد دخلت اللغات الأوربية جيمعًا منذ عهد الاستشراق الأول، وتكرّسَت في نهايات القرن الثامن عشر حين كتب جوته "الديوان الشرقي للمؤلِّف الغربي".

"شباك حبيبي" هو اسم لأغنيتين عربيتين، مصرية لعبد العزيز محمود، ولبنانية لملحم بركات. و"زوبة" اسم تدليل مصري لاسم "زينب"، كان شائعًا حتى وقت قريب ومازال موجودًا في الأحياء الشعبية، وأخيرًا "بوخارست". بالطبع "بوخارست" اسم عاصمة رومانيا، لكن ما يجعلنا نقول إنه اسم عربي أن كتابته في شعار المطعم لا تتبع النسخة الإنجليزية ولا الفرنسية Bucharest ولا الألمانية   Bukarest ولا حتى الرومانية من الاسم Bucuresti، وإنما هي مجرد محاولة لنقل النطق العربي المصري للاسم إلى الحروف اللاتينية، بمقتضاها وضع مصمم الشعار حرف O للدلالة على الواو في الاسم العربي. هكذا يتّضح لنا أننا أمام كتابة لاتينية لكلمات عربية بالأساس.

دور الحرف العربي– قراءة في اللافتات السِّتّ

نأتي إلى لُبّ الظاهرة، الحروف والعناصر الكتابية العربية الأخرى المنثورة وسط هذه الكلمات. يتفاوت دور هذه العناصر من لافتة إلى أخرى، في العينة الصغيرة التي بين أيدينا. ففي "بوخارست" مثلًا نجد الخاء يقوم بدور وظيفي مُعادِل لدور الأرقام فيما عُرِف بكتابة "الفرانكوآراب"، فحيث إن حرف الخاء لا يوجد في الإنجليزية والفرنسية، كان يمكن كتابة الكلمة بنطقها العربي تبعًا للفرانكوآراب هكذا Bo7'arest أو Bo5arest. ويجعلنا هذا نتأمل موقف اللافتة من كتابة الفرانكوآراب، فيبدو لنا حينئذٍ أنّ تطوُّر وسائل التواصل النّصّي -بحيث بدأت تدعَم الحروف العربية- انعكس على كتابة اللافتة، لكن بقُصور ذاتي غريب استمرّت الحروف اللاتينية هي الوسيلة الأساسية لكتابة الكلمة العربية وحلّ الحرف العربي ضيف شرَفٍ فيها.

أما في "بلح"، فقد شهدت اللافتة ازدواجية لغوية واضحة، فالحرفان الأوّلان مكتوبان بالعربية واللاتينية متقابلَين كما لو كانا على جانبَي مرآة، حيث حرف الحاء العربي يقوم بدور هذه المرآة. ودور الحاء وظيفي واضح هنا كذلك، لخلُوّ اللغات الأوربية عمومًا من هذا الصوت، فبديلها الجاهز للتعبير عنه هو صوت الهاء H أو الخاء في بعض اللغات كالألمانية Ch والهولندية Gh.

لكن ثمّ ظاهرة أخرى جديرة بالتسجيل في لافتة "بلح"، هي تجريد الصورة اللاتينية من كل إشارة إلى الحروف المتحركة، وهي ضرورة لنُطق الكلمة فيها. فبينما تنتمي الكتابة العربية إلى النظام الأبجدي Abjad الذي لا يحتوي أصلًا حروفًا تعبّر عن الحركات القصيرة وإنما يفهمها القارئ العربي بالسليقة من سياق الكلام أو بإضافة التشكيل Diacritics – وهو في حالة "بَلَح" فتحتان على الباء واللام، وسكون على الحاء، وبذلك فكتابة اللافتة بالعربية دون تشكيل لها ما يسوّغها في هذا النظام العربي، نجد كتابة اللغات الأوربية اللاتينية والجرمانية تنتمي إلى النظام الألِفبائي Alphabet حيث توجد رموز أصلية دالّة على الحركات القصيرة Short Vowels وأخرى للطويلة، ولذا كان يُفترَض أن تُكتب الكلمة مثَلًا هكذا Balah.

والخلاصة أن لافتة "بلح" اعتبرَت الأصل في الكتابة هو الحروف العربية، وأظهرت اللاتينية باعتبارها ضيفًا قاصرًا عن التعبير عن الأصوات العربية، كما لم تتمكن هي من ناصيتِها فتركت عنصرًا أساسيًّا فيها، هو الحركات القصيرة، فجاءت الحروف اللاتينية ضيف شرف غير قادر حتى على إعلان السائح الذي لا يتقن العربية بكيفية نُطق اسم هذا المحلّ.

في "شباك حبيبي" استخدَمت اللافتة عناصر عربيةً مختلفةً داخل صُلب الكتابة اللاتينية، والعنصر الوحيد ذو الدور الوظيفي الواضح هو حرف الحاء كما في "بلح". أما العنصر ذو الدور الزخرفي البحت فهو حرف الكاف الذي تعانق مع K اللاتينية في حِرفيّة تشكيلية واضحة. بين الدورَين الزخرفي والوظيفي جاءت نُقَط الإعجام: النقط الثلاث فوق S لتفيد نُطق الشِّين (رغم إتباعها بحرف h الذي يُغنينا عن العنصر العربي)، ونقط الباءات الثلاث، ونقط الياءين. وأمامنا إمكانية لتأويل نقط الباءين والياء الأولى في "حبيبي" كما لو كانت ترسم مع الحروف bib وجهًا بعينين وأنف.

كذلك استعان مصمم الشِّعار بعلامة المَدّ فوق حرفي a كما لو كانت لازمة فوق كل ألف مَدّ في العربية وهو ما ليس صحيحًا، ثُم إنه أضاف حرف الواو بين Sh وb ليمنح الواو دورًا وظيفيًّا مغلوطًا هنا كذلك، حيث إن كلمة "شُبّاك" العربية تعتمد حركة قصيرة بين الشين والباء، يُعبَّر عنها بالضمّة، لا بالواو. وأخيرًا، رغم كل هذه العناصر متباينة الحظوظ من التوفيق في أدوارها الوظيفية، سها مصمم الشعار عن عنصر الشَّدَّة العربي الذي كان سيقوم بوظيفة حقيقية لو أُضيف فوق b في كلمة "شباك". ولا يفوتنا اختلاف لون العناصر العربية الفيروزي عن اللاتينية بالرمادي، وهو ما يؤكد الغرض الزخرفي الأصلي لاستخدام العناصر العربية.

 

واجهة مطعم شبااك حبيبي. الصورة: صفحة المطعم على فيسبوك

قريبًا جدًّا من نمط "شباك حبيبي" نجد لافتة "ديوان"، فالكسرة تحت D تقوم بوظيفة حقيقية، بينما الضمة والألف الخنجرية المستعارة من رسم المصحف تقتصران على دور زخرفي، هذا إن لم تُشَوِّها وظيفة حرف w أساسا. أما النقط الثلاث أسفل w فكأنها مستعارة من الفارسية، فهي توسع هنا مجال ضيف الشرف إلى ما وراء العربية، موحيةً باستعارة من كل كتابة "إسلامية" إن جاز التعبير، وهو ما تؤكده العناصر غير الحروفية كالفاصلة فوق I.

أخيرًا نجد لافتتين لا يبدو لاستخدام العناصر العربية فيهما أي دور باستثناء الزخرفة، وهما "زوبة" و"شروال"، حيث النقطتان فوق كل حرف O في ZOOBA والنقط الثلاث فوق W في Sherwal، وإن كانت هذه الأخيرة منقولة من مكانها على الشِّين العربية غير الظاهرة في الشِّعار إلى حرف W ليبدو أثرًا بعيدًا لبداية الاسم "شروال" بالعربية.

بنكهة مصرية

يرى فنان الخطوط، خالد حسني، أن الظاهرة التي بين أيدينا لها تجلياتها في أزواج أخرى من اللغات، حيث نستطيع أن نراها في الخط الذي كُتِب به اسم فيلم علاء الدين Aladdin بالإنجليزية بينما الحروف المستخدمة مرسومة بطريقة تقربها من رسم الحروف العربية، أو في فيلم هِرَقل Hercules حيث تتخذ الحروف الإنجليزية رسمًا يقربها من الحروف اليونانية.

ويعتقد حسني أن هذه الظاهرة تمثل عادةً محاولةً للربط مع ثقافة أو لغة أخرى، لكنه استبعد هذا الغرض في حالة اللافتات التي بين أيدينا، إذ إنها في مصر، بالتالي فالجمهور المستهدف عربي أصلاً. لكنه دفع باحتمال أن تكون هذه اللافتات تحمل رسالة بأنها مزيج شرقي غربي حديث وعالَمي بنكهةمصرية. 

ظاهرة للتعدد اللغوي بشروط عَولَميّة

 تسمّى اللسانيات هذه الظاهرةَ التي استعرضنا ستة أمثلةٍ لها: التغيير الشفري من داخل الكلمة Intra-Word Code Switching حيث يستخدم الكاتب رموزًا من أكثر من نظام كتابيّ داخل الكلمة الواحدة. وهي ظاهرة لا يمكن أن تبرُز إلا في مجتمع متعدد اللغات، وهو شيءٌ يعضّده ظهورها الكثيف في الأحياء القاهرية الراقية كما قُلنا.

والظاهرة ليست جديدةً كلّ الجِدّة ولا قاصرةً على بقعتنا من العالَم، فأوليڤيا إلدر Olivia Elder وألكس مَلِن Alex Mullen، من جامعتَي كامبردچ ونوتنام على الترتيب، يوردان في كتابهما "لغة الخطابات الرومانية Language of Roman Letters" مثالاً كلاسيكيًّا من العصر القديم المتأخر، يتمثل في خطابات الشاعر ومعلّم الخطابة الروماني أوزونيوس Ausonius 310-395م) إلى مواطنِه الأصغر الشاعر الروماني پاولينوس Paulinus of Nola الذي أصبح فيما بعد أسقُف كامپانيا، حيث كان أوزونيوس يتنقّل في مهارة وسلاسة بين اللغتين اللاتينية واليونانية فيما يُضَمِّنُه خطاباته من الشِّعر، حتى إنه كان يتنقل بين اللغتين داخل الكلمة الواحدة intraword code-switch، وإن كان المؤلّفان لا يخبرانا بما إذا كانت هذه الانتقالات على مستوى تغيير نظام الكتابة نفسه، أم اقتصر على استعارة جذر لغوي من إحدى اللغتين وربطه بلواحق Affixes من اللغة الأخرى.

كذلك رصد باحثو اللسانيات الظاهرة في أزواج مختلفة من اللغات الحديثة في بحوث معاصرة، فقد رصدها ألكسيادو ورفاقه Alexiadou et al. 2015 بين النرويجية والإنجليزية، ورصدها ماكسوان MacSwan 1999 بين الناهواتل Nahuatl (من لغات شعوب الأزتك القديمة في المكسيك) والإسپانية.

إلاّ أنّ الملمح الأبرز في هذا التغيير الشفري الذي بين أيدينا هو أخذُه منحىً عولَمِيًّا صريحًا، فقِيَم العولمة التي تنتصر لجعل المجتمع البشري كلّه قماشة واحدة أو سائلاً متجانسًا تبرُز هنا في الانتصار للحروف اللاتينية بصِفَتها متن هذه اللافتات.

لكن الحروف العربية هنا تظهر على استحياء لتذكّرنا بهاجس الخصوصية الثقافية الذي أرّق مفكّري المجتمعات المغلوبة على أمرها منذ تصاعُد حِدّة الدعوة إلى العولمة، فكأنّ الحاء والخاء وعلامات التشكيل ونُقَط الإعجام ورموز رسم المصحف تعبّر عن شكل من أشكال النفاق اللغوي أو مداهنة أصحاب دعوى الخصوصية الثقافية.

هي بمثابة تربيت على ظهورهم ليَنسَوا أنّ المتن أوربي لاتيني. بالطبع لا يزعم هذا المقال أنّ من عكفوا على تصميم هذه اللافتات قصدوا إلى هذه الأغراض قصدًا واعيًا دائمًا، وإنما هي محاولة لفهم الآليات اللاواعية التي أفرزَها الخطاب العَولَمي وصاحبَت التحوُّل المجتمعي العربي/ المصري، فتجلَّت أخيرًا في هذه اللافتات.

بين النفاق اللغوي والفن الجديد

وهنا يثور سؤال: كان اللغوي الدنماركي لويس يلمسلِاڤ Louis Hjelmslev يشير إلى الحروف المفردة في بنية الكلمات باعتبارها مكوّنات لا تشير إلى شيء في ذاتها، ما عبّرت عنه الكلمة اللاتينية Figurae. فهل هذا الاستخدام الجديد للحروف العربية كضيوف شرف في المتن اللاتيني يُخرِج الحرف العربي من وصف يلمسلِاڤ؟ أعني، هل يكتسب الحرف معنى بهذا الظهور الشرفي؟ في تقديري أنّ الإجابة نعم، وإن كان معنىً عامًّا، هو ما قُلناه في الفقرة السابقة. إنه، مرّةً ثانيةً، نفاقٌ لغوي يهدُف إلى استرضاء الحريصين على الخصوصية الثقافية بينما يُخرج خصوصيتَهم هذه من المتن إلى الهامش.

لكننا من منطلَق محايد تمامًا، نرى في هذه اللافتات نواة لنمط غير شائع من فن الخط، ربما يكون مناسبًا أن نسميه فن الخط الهجين Hybrid Calligraphy يستغل كل ما يصل ليدَي الفنان من عناصر كتابية من مختلِف اللغات. هو أمرٌ سابق لأوانه بالطبع أن نحاول تعريف سقف هذا التهجين الكتابي، وإن كانت صعوباته واضحةً، وتتمثّل أساسًا في ضرورة إلمام المتلقّي بأنظمة الكتابة المختلفة المعروضة أمامه.

 ختامًا، تبدو الظاهرة مغريةً للدراسة، وليس هذا المقال إلا تأملاً عابرًا غير متخصص، يحاول لفت انتباه المتخصصين وغيرهم إليها.