في يناير/كانون الثاني الماضي، حضرتُ إحدى الندوات التي ينظمها المركز الثقافي الأمريكي بالقاهرة. كانت فاعلية لمناقشة فيلم وثائقي عن مارتن لوثر كينج، واستضاف المركز المنتج التنفيذي للفيلم.
بدأ الحضور طرح أسئلتهم بعد العرض، لاحظت تنوع الحضور؛ ما بين مهتمين بصناعة الأفلام، ومصورين، ومن حضروا بهدف تحسين لغتهم الإنجليزية، أو حتى مهتمين بالحضور كنوع من النشاط ثقافي.
ومع هذا التنوع، تباين أيضًا الحضور من حيث طلاقة تحدثهم باللغة الإنجليزية. ما أثار انتباهي هو تفاعل المنتج الأمريكي مع مستوى طلاقة السائل اللغوية أحيانًا، فإن كان السؤال مهمًا لكن إنجليزية صاحبه ركيكة، تكون إجابة المنتج عليه مقتضبة قصيرة، وعلى النقيض عندما يسأل أحدهم سؤالًا بسيطًا بإنجليزية ممتازة تكون الإجابة مُسهبة ومُطولة، ويتفاعل المنتج الأمريكي مع السائل بإيجابية وحماسة.
مع كل سؤال لمتحدث بإنجليزية ثقيلة كنت أعد..واحد..اثنان..ثلاثة، ثم يجيب المنتج عن السؤال، بدت لي مثل ثواني التحميل في صفحات جوجل كأنها واحد..اثنان..ثلاثة.. فهمت ما تريد.
سافر المنتج من واشنطن إلى مصر، متوقعًا مناقشة جمهور لا يتحدث لغته الأم، ويعرف مسبقًا بالمحاولات التي سيبذلها كلاهما في التواصل، غير أن ذلك لم يجعل الأمر أكثر بساطة، وقفت اللكنة حاجزًا دون تواصل سلس.
وهو ما دفعني للتساؤل عن تلك المواقف التي يُفاجأ فيها الشخص بلغة الطرف الآخر، لكنته، وطلاقته. كيف يؤثر هذا على تواصلهما؟ يجتهد متحدثو الإنجليزية بالتحديد في التخلص من اللكنة ليتحدثوا اللغة بطلاقة أقرب للغة الأصلية في سبيل الوصول للفهم الذي يجعل التواصل فاعلًا.
اللكنة آخر محطات التمييز
لا يتعلق الأمر بالتواصل فقط، إذ يعاني أصحاب اللكنات خاصة في البلدان الناطقة باللغة الأصلية من الأحكام الصادرة عليهم، عندما سأل الدكتور ألكسندر باراتا من جامعة مانشستر الناس عن سبب سعيهم لتغيير لكناتهم، كانت الإجابة هي الأحكام التي يصدرها الآخرون، وما يسببه لهم ذلك من حرج.
لا يتعلق الأمر بكراهية الأشخاص للكنتهم، بقدر ما يتعلق بالخوف من الطريقة التي سيراهم بها الآخرون
خلال البحث والذي يُعد الأول من نوعه في المملكة المتحدة، تحدث الدكتور باراتا إلى 98 طالبًا وموظفًا في مدارس وجامعات مختلفة، عن مواقفهم تجاه لكنتهم.
عبر الكثيرين منهم عن عدم حاجتهم لتغيير أي شيء، فيما يضطر البعض الآخر إلى تزويرها، أما عن شعورهم أقر آخرون أن لكنتهم تخلق لديهم شعورًا بعدم الرضا عن أنفسهم.
لا يتعلق الأمر حسب نتائج البحث بكراهية هؤلاء للكنتهم، بقدر ما يتعلق بالخوف من الطريقة التي سيراهم بها الآخرون.
تؤثر تلك الصورة في مصداقية الناطقين أصحاب اللكنات، إذ ترتبط اللكنة الثقيلة لدى المتلقي بعدم المصداقية، وهو ما أثبتته دراسة أجرتها جامعة شيكاغو بعنوان "لماذا لا نصدق الناطقين غير الأصليين؟" أُجريت فيها تجربتان لدراسة تأثير اللكنة على المصداقية، هل نُصدق المتكلم بلكنة كما نصدق الناطق الأصلي للغة؟
اختبرت التجربة الأولى من الدراسة، ما إذا كانت تصريحات عشوائية باللغة الإنجليزية تبدو أقل مصداقية عندما تقال بلكنة، مقارنة بحالها لو قيلت بدونها. اختبرت أيضًا ما إذا كان ذلك ينطبق في حالة اللكنة المعتدلة والثقيلة.
لم يعرف المشاركون الهدف الحقيقي من التجربة، وبالنسبة لهم تدور التجربة حول "الحدس في تقييم الحقيقة"، مدى صدق التخمين في تحديد الصدق من الكذب. تم التأكيد على المشاركين أن المتحدثين في التجربة لا يقرؤون إلا ما قامت المُختبرة الإنجليزية بكتابته، وأنهم لا يُعبّرون عن معلوماتهم الخاصة، وإنما يقرؤون فقط جهرًا عبارات هي من قدمتها. كان هذا التصريح من أجل استبعاد عنصر التحيز ضد الأجانب، ولو بصورة لا واعية من المشاركين، بصفته عاملًا قد يؤثر في التجربة.
كشفت النتائج أن المشاركين أحسوا التصريحات أقل صدقًا من المتحدثين أصحاب اللكنات المعتدلة والثقيلة. لم تختلف التقييمات بين التصريحات ذات اللكنات المعتدلة والثقيلة عن بعضها بعضًا.
بشكل عام، أثبتت التجربة الأولى أنه حتى عندما ينقل المتحدثون المعلومات من الآخرين، يشعر الناس أن هذه المعلومات أقل صدقًا إذا كان المتكلم ذو لكنة. يخلط الناس بين اللكنة والمصداقية.
تشرح الباحثتان في الدراسة أن الناس تتعلم باستمرار أشياء جديدة من مصادر متنوعة. واحدة من أهم هذه المصادر وأكثرها شيوعًا هي الأشخاص الآخرين. لا يعرف غالبية الناس كم ساعة تنامها النملة عادة في الليلة، لكن ربما نُصدق إذا أخبرنا شخص ما أن النمل لا ينام، حتى إن لم يكن هذا الشخص مُختص في علم الحيوان.
تعتمد تقييماتنا للمصداقية على سرد المعلومات بشكل منطقي، ومعقولية المصدر وعلى الكيفية التي يُخبرنا بها المتكلم، في حال كان ذو لكنة، تتنبه عقولنا وتعتبرها إشارة لتُعيد تقييم ما يقوله. لذا ربما نصدق لو أخبرنا ابن لغتنا أن النمل لا ينام، ونشك لو قال آخر الشيء نفسه لكن بلكنة.
ترتبط اللغة الإنجليزية بالرجل الأبيض الغربي، لذا فأي صورة أخرى تحمل لكنة بالضرورة
لم ينجح الناس في أن يكونوا محايدين، حتى بعدما أدركوا أن لكنة المتحدث يمكنها أن تؤثر في درجة تصديقه. هذا ما أثبتته التجربة الثانية من الدراسة، حاول المشاركون تحييد تأثير صعوبة فهم المتحدث على تصديق ما يقول، لكنهم نجحوا جزئيًا فقط في ذلك. قيّم المشاركون التصريحات ذات اللكنات المعتدلة بنفس درجة مصداقية التصريحات ذات اللكنات الأصلية، فيما قيّموا التصريحات ذات اللكنات الثقيلة على أنها أقل مصداقية.
يبرز التحيز ضد الآخر كعامل مؤثر، الأمر الذي يتحول إلى عقبة تواصل أمام الملايين ممن يتواصلون بغير لغتهم الأم، فاللكنة تُحدد هويتك وتجعلك محط شك دائم.
الصورة أصدق من الصوت
في إحدى الدراسات التجريبية صنف المشاركون المتحدث على شريط صوتي بأنه يحمل لكنة أجنبية بخلاف ذلك الموجود على شريط آخر، في الحقيقة كان الصوت نفسه على كلا الشريطين. الاختلاف الوحيد في المرتين هو الصورة المصاحبة لشريط الصوت والتي كانت في إحداها لشخص قوقازي وفي الأخرى لشخص آسيوي.
عبّر المشاركون عن صعوبة في الفهم عندما كانت الصورة التي شاهدوها على الشريط صورة الشخص الآسيوي. مرة أخرى نصطدم بجدار التحيز.
ترتبط اللغة الإنجليزية الأصلية بالرجل الأبيض الغربي، لذا فأي صورة أخرى تحمل لكنة بالضرورة، برز ذلك بوضوح في نتائج بحث أجرته روزينا ليبي جرين عام 1997 بعنوان "الإنجليزية بلكنة: اللغة والأيديولوجيا والتمييز في الولايات المتحدة"، رصدت فيه خلو المحاكم في الولايات المتحدة من سجلات التمييز الوظيفي لمتحدثي بعض اللغات مثل اللغة الهولندية أو السويدية أو الغيلية. وأرجعت ذلك لملامحهم التي لا تثير تحيزًا قياسًا إلى ما تثيره ملامح أعراق أخرى.
نحن من قتلناه!
ورغم إعلان موت الناطق الأصلي حسب توماس بيكيداي، والذي صك المصطلح عام 1985، في كتابه الذي حمل الاسم ذاته، فإننا لا نزال نسعى لتحديد الناطق الأصلي، والجري خلف تتويجه على مملكة اللغة.
جمع اللغوي بيكيداي في كتابه تعريفات العديد من اللغويين مثل نعوم تشومسكي، وديفيد كريستال، ومايكل هاليداي، وآخرين.
وتوصل إلى نتيجة أصيلة، لا وجود للناطق الأصلي إلا في خيال اللغويين، وعبر عن ذلك بمثال "غاسل الصحون الأصلي"، وهو شخص يمكنه غسل الصحون بطريقة خرافية، وهذه الطريقة مرتبطة بجيناته ومكان نشأته. لكن ماذا إذا تعلم دخيل غسل الصحون بطريقة خرافية أيضًا؟
فهو يظن لأنه يتكلم لغة ممتازة، أن المشكلة ليست عنده. وينسى أن التواصل مهمة الطرفين في أي محادثة
وهو ما نختبره في حياتنا اليومية في ظل التكنولوجيا التي جعلت من إتقان اللغات أمرًا سهلًا ومجانيًا، فما الذي نحتاجه من الناطق الأصلي؟ يبدو أن الأمر له علاقة بالصورة الذهنية التي يخلقها الحديث باللغة الأصلية.
كمعلمة للغة الإنجليزية، تتلقى هيذر هانسن طلبات الراغبين في التعلم مدفوعة برغبتهم في التخلص من لكناتهم، وعندما تسألهم "ماذا يعني لكم أن تتحدثوا مثلي؟"، تصل إلى نتيجة بأن كل ما يريدونه هو الوضوح، والثقة، وألا يُساء فهمهم على أي نحو. إذن الأمر لا يتعلق باللكنة في حد ذاتها.
تذكر هانسن، في حوار لها مع بودكاست ترجمة تقريبية Rough translation، أنه وفقًا لعالم اللغة ديفيد كريستال، فإن عدد المولودين في مجتمعات تتحدث اللغة الإنجليزية هو أربعمائة مليون فرد، بينما يبلغ عدد من يتعلمون اللغة الإنجليزية في المدارس ملياري فرد. تعلق هانسن "ربما من الأفضل تعليم الأربعمائة مليون فرد كيفية التواصل مع الملياري فرد، وليس العكس".
بكل بساطة
ربما هنا تكمن المشكلة، عندما يعتبر الناطق الأصلي عملية التواصل والفهم مسؤولية الطرف الآخر. فهو يظن لأنه يتكلم لغة ممتازة، أن المشكلة ليست عنده. وينسى أن التواصل مهمة الطرفين في أي محادثة.
تنعكس الصورة في حالة اللغة العربية، إذ لا يعاني أصحاب اللكنات من التحيز ضدهم، بل يجدون ترحيبًا وتفهمًا يجعل من لغتهم محل دهشة وربما إعجاب.
يبدو ذلك واضحًا في برنامج الطهي الذي يقدمه بوبي تشين بكل بساطة -keep it simple، يقف بوبي بحماسة ليقدم وصفات عالمية متكلمًا بلغة عربية مكسرة تمتزج بالإنجليزية، وينجح في التواصل مع المشاهدين العرب بكل بساطة.
في الحلقة الرابعة من البرنامج يطبخ بوبي وصفة فيتنامية "سومر رولز"، بدا كل شيء في هذه الحلقة مثيرًا للاهتمام، بوبي تشين وأصوله المركبة، إقامته الطويلة في فيتنام وعشقه للمطبخ الفيتنامي، يقف أمام الكاميرا ليعد أحد أطباقه، يشير إلى قشر الجمبري أمامه ويقول "الفيتناميين بياكلوا القرش"، يسكت لثوانٍ مدركًا الخطأ فيما قال، يعيدها ثانية وينظر للإعداد طالبًا المساعدة فيصححه أحدهم قائلًا "القشر".
تتحقق هنا بكل بساطة الغاية من اللغة، وهي التواصل، دون النظر إلى النطق الصحيح للكلمات، يتخلى المتلقي عن تحيزاته المسبقة، وعن الصور النمطية، ويُخلص للتواصل، معلنًا موت الناطق الأصلي.