من عالم القرية في الدلتا خرجت رواية أيام الإنسان السبعة للكاتب الراحل عبد الحكيم قاسم، وفيها الدليل لقراءة عالمه الإبداعي، فمن رحمها وُلدت تفاصيل الروايات القصيرة والقصص التي كتبها بعدها.
فيها نافذة على الريف خلال رصد حياة أعضاء إحدى الطرق الصوفية التي تكثر في هذه البقعة بفضل وجود مقام السيد البدوي، الذي يحتل مكانةً كبرى في قلوب الفلاحين، ويعتبره المتصوفة من المجاهدين الذين دافعوا عن الدين في زمن الحروب الصليبية.
وبين دفتي الرواية تصوُّر عن الإبداع والكتابة متأثر بالزمن والسياق والتجربة الذاتية للكاتب، تلك التي يحتل فيها المعتقل والحزب الشيوعي مكانة رئيسية، ظهرت بوضوح في قصص مجموعته ديوان الملحقات وروايته قدر الغرف المقبضة.
الأفندي الريفي
قبل دخول عالم عبد الحكيم قاسم الروائي من المهم معرفة موقعه الاجتماعي الذي انطلق منه نحو التجربة الإبداعية. هو أفندي ريفي، عاش في أسرة فلاحية مستورة تستأجر بعض الأفدنة من إحدى أميرات العائلة الملكية، شأنها في ذلك شأن آلاف الأسر.
هذا الوضع سمح له بالتعرف إلى الأفكار السياسية والاقتراب من الحلقات الماركسية التي كانت نشطة في الدلتا في الأربعينيات والخمسينيات، وسط حضور قوي لجماعة الإخوان المسلمين، متصارعة مع الطرق الصوفية التي حالت دون توسع الأولى في القرى، مستندةً إلى ميل القرويين للتدين الشعبي الصوفي، ما منحها قوة نسبية في مواجهة الأفكار الجهادية بصيغتها الوهابية.
والفارق بين النموذجين واضح في الرواية، فهي ترسم تفاصيل العقيدة الصوفية (الدين الشعبي) القائمة على المقولات المتوارثة؛ "ربك رب قلوب"، "ساعة لقلبك وساعة لربك"، أو التوفيق بين الحياة بتفاصيلها من العمل والمتع المختلفة، والخشوع والزهد والالتزام بإقامة الشعائر. وكانت الرواية رائدةً في تقديم هذا العالم الذي يجهله القاهريون، وغيرهم من سكان المدن الكبرى، فهم يرون الطرق الصوفية مجرد أدوات لتغييب العقول، ويرون الطرق نفسها تجمعات للسذج الذين يؤمنون بالخرافات.
ورغم أن الدلتا كانت معروفة من قصص يوسف إدريس، ورغم أن فن الرواية نفسه وُلِدَ في الدلتا برواية زينب لمحمد حسين هيكل، تميزت "أيام الإنسان السبعة" وتفوقت على كل ما سبقها من روايات ريفية الموضوعات والعالم.
خريطة فولكلورية
لم يكن الاهتمام بتفاصيل الثقافة الشعبية للفلاحين مطروقًا في خمسينيات القرن الماضي، رغم صدور رواية الأرض لعبد الرحمن الشرقاوي، وصدور مجموعات يوسف إدريس.
أما قاسم فاختار الرقم سبعة ليكون الخطة الكلية التي أقام عليها أعمدة الرواية، وهذا الرقم له دلالة لدى الفلاحين الأقباط؛ أسرار الكنيسة سبعة، وصلوات اليوم سبعة. وعند المسلمين للرقم قداسته، فالله خلق سبع سموات. وفي المشترك الثقافي بين الفريقين نجد السبوع، بما في طقوسه من سبع حبات بقول.
ولم يكتف قاسم بذِكر الرقم في العنوان، بل قسَّم فصول الرواية إلى سبعة تمثل أيامًا سبعة، هي بمثابة دورة الحياة نفسها، من الميلاد إلى الموت.
تمتلئ صفحات الرواية بتمثيل لكل فروع الثقافة الشعبية الفلاحية بالمعنيين العام والخاص، فلتقديس أبو فراج/السيد البدوي معنىً محليًا، وفي تقديس اللبن والخبز وربطهما بالمقدَّس الديني معنىً عامًا ومركزيًا في ثقافة الفلاحين، وفي تحويل طقوس الاستعداد للرحلة المقدسة إلى مناسبة جماعية للفرح والتطهر من الذنوب، هو أحد موضوعات المعتقدات الشعبية في المنطقة التي تسرد الرواية تفاصيل مجتمعها وجماعتها البشرية.
وفي نهاية الرحلة، أي طنطا، حيث يهيمن الولي ويحكم الأحياء بسطوته في عالَم الأولياء، تتجلى مظاهر انفصال الراوي/عبد العزيز عن ثقافة الجماعة التي تحمل الثقافة الفلاحية المتدينة المؤمنة بالولي وآل البيت النبوي.
وهو الأمر الدال على حقبة تاريخية مرَّت بها مصر، حيث الصراع بين أيديولوجيتي البرجوازية الصغيرة والفلاحين. وكان انفصال عبد العزيز واضحًا في اليوم الأخير؛ يوم الدورة الذي يُعلَن فيه الخليفة الجديد للطريقة الأحمدية، وتطوف فيه جماعات الطرق الصوفية شوارع المدينة، طواف الوداع.
وتختلط في الرواية مشاهد معبرة عن براجماتية أهل المدينة، واحتقارهم للفلاحين الجهلة الذين يؤمنون بقوة البدوي، الذي هو عندهم شخص ميت لا يملك القدرة على التحكم في مصائر الأحياء.
رواية الأشواق والأسى
في الرواية القصيرة التي حملت عنوان المهدي، وحققت شهرة أقل من "أيام الإنسان السبعة"، كان عوض الله صانع الشماسي القبطي، ومعه زوجته فلة وولده حنتس، يعاني قسوة الظروف الاقتصادية التي جعلت صاحبة البيت تطرده من الغرفة التي يؤجرها، وتأخذ حلل النحاس التي يملكها وفاءً للدين المتراكم عليه، وتجبره على المضي في شوارع القرى بحثًا عن زبائن يصلح لهم المظلات.
تزامنت لحظة سقوط عوض الله وطرده من المدينة الصغيرة مع سقوط الجماعة الصوفية وصعود الإخوان المسلمين، وهو الأمر الذي جعل الرجل المتصوف الذي أسلم ضيفه عوض الله إلى مسؤول شعبة الإخوان، الأخ طلعت، يشعر بالندم، في وقت لا ينفع فيه الندم. فطلعت أرغم القبطي الفقير على اعتناق الإسلام، ولأنه كان يعيش لحظة قاسية، تراكمت فيها الديون وزادت البطالة من ضعفه وعدم قدرته على إطعام زوجته وعياله فمات قهرًا، بينما كانت جماعة الإخوان تحتفل بدخوله الإسلام، معتبرةً إياه انتصارًا لمشروعها الفكري.
كانت "المهدي" التي كتبها قاسم في برلين الغربية 1977 محاولةً لتفسير ما حدث في مصر من سيطرة لجماعة الإخوان وجماعات الوهابية، برعاية حكومية وسعودية-أمريكية، في ظل الحرب الباردة بين واشنطن زعيمة الغرب، وموسكو قائدة الشرق الشيوعي.
من بعدها قضى قاسم سنوات طويلة في غربته أو منفاه الاختياري في برلين الغربية، يعيش ظروفًا قاسية. وكانت روايته قدر الغرف المقبضة استحضارًا للحظات التي عاشها، أو استدعاءً لأماكن وذكريات ومواقف من حياته التي قضى أيامها في طنطا والإسكندرية والقاهرة، وهو استدعاء يحقق الشعور بالأمان للمبدع المغترب، أو الذي قضت الظروف بتغريبه قسرًا وجبرًا.
ولم يكن قاسم في هذه الرواية قادرًا على إفساح المجال لأصوات أخرى، غير صوت ذاته الجريحة. فخلت الرواية من الحوار، وجاءت في صورة مونولوج داخلي طويل، يفيض بالندم والألم واجترار الزمن وحوادثه، بهدف خلق ألفة تمكنه من مقاومة قسوة الغربة الجبرية.
تأثرت تجربته الإبداعية بالمعتقل والغربة والحزب الشيوعي، فنرى النهل المباشر من خبرة المعتقَل، كما في مجموعة قصص ديوان الملحقات، 1990، وفيها وصف لرحلة من معتقل المحاريق في الوادي الجديد بالصحراء الغربية إلى مستشفى في أسيوط. ونرى أيضًا الوصف المباشر للحظة الحرية التي نالها الراوي بعد سنوات قضاها رهن الاعتقال، في رواية قدر الغرف المقبضة.
في كل هذه الأعمال ظهرت القرية وتفاصيلها، ونماذجها النسائية ومبانيها وموروثاتها وحكاياتها، وكأن الكاتب، سجين الغربة، استعان بالذاكرة ليواجه المنفى القاسي، ويجعل من الفلاحين أهله وجماعته، ومن تاريخهم وموروثاتهم جداره الحامي، في مواجهة الثقافة المغايرة التي يعيش في ظلها مقهورًا، مجبرًا على قبول قانونها. وهي الحيلة النفسية ذاتها التي يلجأ إليها السجين كيلا يفقد عقله، أو يخسر إنسانيته، فيستدعي التاريخ والناس والأماكن القديمة، لتُعينه على قسوة الظرف الذي يعيشه.