عندما نظر صبري موسى إلى مصر من أعلى، وهو في الطائرة، اندهش من أنها "شريط رفيع طويل أخضر، لا يكاد يُرى وسط مساحة هائلة من اللون الأصفر الصخري"، ومن هنا استهوته الرحلة إلى الصحراء المترامية شرق النيل.
صبري موسى (1932- 2018) المولود في دمياط، الواقعة على أحد فرعي النيل في قلب الدلتا، ولا تمت بأي صلة لاختبار الحياة في الصحراء، لكن الصحافة التي عاش فيها عمره كله تقريبًا، فتحت له بابًا على تجربة استثنائية بين الكثبان، وأفرزت روايته الأشهر "فساد الأمكنة"، واحدة من أبرز الروايات العربية، التي يمر على إصدارها خمسون سنة.
جنة الأصفر
في أبريل/نيسان عام 1963، أرسلت مجلة صباح الخير؛ صبري موسى والرسام مصطفى رمزي إلى الصحراء الشرقية؛ لاكتشاف تلك المنطقة شبه المجهولة بتفاصيلها، من أجل سلسلة نشرتها المجلة تباعًا قبل أن تصدر بعد ذلك في كتاب في الصحراء.
هناك، اكتشف موسى ما عده لاحقًا الجنة الحقيقية للنفس البشرية، وكأن الصحراء بحيرة صافية والمدينة مستنقع، وكأنها الجبل العاصم من طوفان المدينة الذي يجرف البشر دون رحمة.
موسى "ابن المدينة التي يموت ثلاثة أرباع أبنائها بمرض الملل"، كما يقول في كتابه، أعادت له الصحراء شغفه مرة أخرى.
وإن كانت "الصحراء الحقيقية، لا تعطي نفسها إلا لمن يصادقها، وينعم النظر فيها"، فأصبح يمارس اكتشافاته متحليًا بشعور من التبجيل أمام الطبيعة، التي تخلق نفسها بنفسها، وتفرض قوانينها على الجميع، ثم يعِّري المدينة بواقعها المقبض، وتمدينها المشوه، وحضارتها التي أصابها عطب.
يصف لحظته الأولى في الصحراء؛ التضاد بين ما اعتاده وما يختبره لأول مرة، وأثره في نفسه فيقول "عندما لمست أقدامي الأرض نظرت حولي، فلم تمسك عيناي بشيء (...) نحن الذين نعيش في المدن أغلب حياتنا؛ تصبح عيوننا قاصرة وضعيفة، لأننا ما نكاد نطلقها حتى تصطدم بأشيائنا.. بمصنوعاتنا.. بتمديننا".
لكن عينه، هنا في الصحراء "استعادت حريتها.. وراحت تمرح وهي تحدق في الامتداد الفسيح للأرض الرملية التي هبطنا عليها (...) في تلك اللحظة رأيت السراب".
يقول صبري موسى عن رحلته تلك، في حوار صحفي لمجلة "المعرفة"السورية، مارس/آذار 1975، إنه وجد في الصحراء "الإحساس الغامر الحقيقي بجدّة كل شيء وبكارته.. وكأنما العالم يوجد في تلك اللحظة فقط بالنسبة لي.. رغم قدمه الشديد".
قانون الرمال
على الرمال المنبسطة بين الوديان والجبال ذات المهابة، قضى موسى ليلته الأولى، متوقعًا أنه لم يتخلص من مدينته بعد، لكن الصحراء لها قانونها.
لنتأمل المعنى وراء هذا المشهد "أدهشني أن النوم قد بدأ يغزو رأسي.. أنا الذي لا أنام في المدينة قبل الفجر. لكن الهواء الجاف القادم من البحر كان ينفذ إلى جسدي فيخدره. الطبيعة في الصحراء تنام مبكرة.. لتستيقظ مبكرة.. وهي تفعل نفس الشيء بأبنائها. ولم أدرك أبًدا، بهذا الوضوح، أنني واحد من أبناء الطبيعة، إلا حين استيقظت وحدي، في اليوم التالي ونظرت في الساعة فوجدتها الخامسة من الصباح".
في رحلته الصحفية تلك، شاهد موسى لأول مرة بعينيه معالم وجبال الصحراء الشرقية؛ ميناء برنيس، وسهل أبو غصون، وجبلي حماطة وأم سميوكي.
على قمة حماطة مثلًا؛ سيكتب متأملًا العلاقة بين عمال التعدين وذلك الكيان الصخري العملاق "رغم العظمة البشرية والتقدم العلمي الممثل في هذه الآلات العظيمة الفكين والأنياب.. كان واضحًا تمام الوضوح، لكل من ينظر بقلبه لا بعينيه.. أنهم جميعًا سجناء هذا الجبل".
غير أنه من بين كل هذا، سيقع في غرام جبل الدرهيب وفيه ستنبت فكرة "فساد الأمكنة"، ومن ثمّ سيجعله مسرحًا لأحداث الرواية التي ولدت كما الكتاب من رحم تلك الرحلة.
يقول عنه "لم أجد أبدًا في هذا الجبل ما يميزه عن غيره من الجبال، سوى اسمه غريب الإيقاع والتكوين. لقد ظل هذا الاسم يلح على خيالي طوال ارتحالي في الصحراء، وكأنما هو لغز مهيب تلقيه الطبيعة عبر طريقي يعترضني ويطالبني بتفسيره".
قرر صبري موسى أن يشكِّل ذلك العالم "البِكر" على طريقته؛ أن يصنع له قوانينه وقواعده ويبتكر له مخلوقاته وسكانه، ويأخذنا في رحلة فريدة.
العزلة والعبور
ليس موسى أول من فتنته الصحراء لتفسيرها، أو فك أحاجيها، في الجزء الأول من موسوعته "شخصية مصر"، يرسم جمال حمدان، صورة مفصلة للصحراء الشرقية، كنموذج متشابه؛ وفي الوقت نفسه ذو خصائص مميزة من بين صحراوات مصر، لكن الملفت نظرته الجغرافية للصحراء الشرقية، بكل ما تحمله من فهم موسوعي لخصائص المكان.
تحمل نظرة حمدان تقاربًا مع فلسفة صبري موسى، حيث ملجأ العزلة من ناحية، والطبيعة التي يتطهر فيها "ابن المدينة" مما علق بروحه. يرى أن الصحراء الشرقية كانت طوال التاريخ "إقليم حركة أكثر منها إقليم استقرار"، لافتًا إلى أنها بهذا الوصف تجمع بين طرفي متناقضة مثيرة، وهي أنها صحراء عزلة؛ لكنها أيضًا إقليم عبور أو مرور.
من ناحية العزلة، فإن لديها وعورة التضاريس والجفاف المفرط وقلة العمران. مع ذلك، لم تكن الصحراء الشرقية معادية أو مضادة تمامًا للإنسان، فهي على الخريطة "لا تعطي ظهرها لمصر، بل وجهها"، وهي "برزخ" أرضي، إذ تقع على مشارف واحد من أكبر مفارق طرق العالم القديم، وساحلها هو واجهة البحر الأحمر، طريق آسيا وإفريقيا، والموسميات والمداريات، والمشرق والهندي، ثم فيما بعد طريق الحج إلى الأراضي المقدسة والجزيرة العربية.
هل تُصلح الصحراء فساد الأمكنة؟
في "فساد الأمكنة"، وهي دُرة أعمال صبري موسى، ومصنفة ضمن أفضل 100 عمل روائي في تاريخ الأدب العربي٫ والتي صدرت عام 1973 بعد أن نُشرت مسلسلة في مجلة "صباح الخير" بين عامي 1969 و1970، تكتمل علاقة موسى بالصحراء، أو المدني بحياة البداوة، والطبيعة الأولى.
كانت الرواية من بنات أفكار رحلة من يوم واحد قضاها في جبل الدرهيب بالصحراء الشرقية، ضمن رحلة ثانية إلى الصحراء بعد الأولى بنحو ثلاثة أعوام.
تطلب الأمر تفرغًا وافقت عليه وزارة الثقافة لمعايشة في الجبل لمدة عام من نوفمبر/تشرين الثاني 1966 إلى نوفمبر 1967، ومن بين العام هذا كان يومًا واحدًا كفيلًا بتغيير حياة موسى، الذي استلهم منه روايته، التي فازت في العام 1974 بجائزة الدولة التشجيعية، وفي العام التالي فاز كاتبها بوسام الجمهورية للفنون من الطبقة الأولى.
تدور أحداث "فساد الأمكنة"عن نيكولا، وهو مهندس تعدين روسي، يعمل لصالح أحد الباشاوات المصريين في استخراج الذهب من جبل الدرهيب.
يأتي نيكولا إلى الصحراء حاملًا أزمته؛ فاقدًا الشغف بعد أن فسدت أمكنته في روسيا ثم إيطاليا حيث ترك زوجته، ثم القاهرة، ومن بعدها الإسكندرية. لكن الأمل يساوره في مصالحة نفسه في مكان آخر، فيجرب رحلة الصحراء ويتعرف فيها على "هؤلاء البدو البسطاء الذين يعيشون بين هذه الجبال يصارعون الطبيعة الأم، ويقبلون قسوتها وعطفها بخلق فطري رائق".
في الرواية، ورغم أن الصحراء لا تخلو من خطايا أصحابها أو الوافدين إليها، نجد موسى يقدمها في صورة أكثر بهاءً من المدينة. يصف هذا المشهد بعيون نيكولا فيقول "بينما يمسح بعينيه في حنان وديع قمم تلك الجبال المغموسة في السماء ملتهبة ومتوهجة (...) يعاوده اليقين بأن الحياة هنا جديرة بالبشر الحقيقيين الذين يكرهون المدن المليئة بالمخلوقات الهمجية المتوحشة".
الصحراء حقيقة والمدينة شبح
يرى المؤلف أن سكان الجبل لم يتلوثوا بأمراض المدينة، إذ "غرست فيهم الصحراء شتى الفضائل، فأخذوا يشهرون من هذه الفضائل سلاحًا يواجهون به مخاطر حياتهم اليومية". في المقابل تبدو المدينة متوحشة "إن مئات الخطايا التي نرتكبها بسهولة ويسر في المدينة، ضد أنفسنا وضد الآخرين.. تتراكم على قلوبنا وعقولنا، ثم تتكثف ضبابا يغشي عيوننا وأقدامنا فنتخبط في الحياة كالوحوش العمياء".
كل المعاني والقيم مختلفة في الصحراء إذن، فالحزن له أصوله وطعمه الأسطوري الفريد. وفي الصحراء يلمح مهندس التعدين فرصة عظيمة لأن يتخفف من ثقل المدن "هنا يمكنك أن تختبئ يا نيكولا بكل ما تحمل روحك من عذاب، وتقبع يا نيكولا في كهف صغير مغلق، كطفل في رحم.. أو دودة في شرنقة.. ولن تكون بحاجة إلى الطعام ولديك في داخلك من الألم ما يكفي لتمضغه".
لكن الأسى يتجسّد بقوة عندما يدرك الخواجة أنه لا مفر من فساد الأمكنة؛ طالما كانت الأنفس فاسدة "ما فائدة الرحيل يا نيكولا ما دمت تحمل داخلك معك أينما حللت؟" وهي معاناة تبدو أكبر من أزمة مهندس التعدين وحده، إنها تبدو لنا معاناة الجنس البشري بأكمله.
في حوار صبري موسى مع مجلة "المعرفة" نجده يوسِّع دائرة التفسيرات حول روايته فيقول "أحيانًا يخيَّل لي أن الدرهيب في فساد الأمكنة قد تحول إلى رمز للأرض بشمولها، وأن نيكولا يجتهد على طريقته ليكون الإنسان في شموله".
رحل صبري موسى، ومن قبله نيكولا، وظلت الصحراء شاسعة، تحمل من المعاني والأسرار الكثير، مهما توجتها الخطط، أو شد إليها الرحال المستكشفون، فهل نكتشف أنفسنا حين ندرك "فساد الأمكنة".